بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:30:09 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1412 0


    المحكمة المؤجّلة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ظافــــر الـنجــــــار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    ربما للمرة الثالثة أقف اليوم أمام هذه الإشارات الصغيرة، التي كنت ولا أزال أحفرها على الجدار.‏

    بوسائلي السريّة والهشّة، لتكون دليلي الوحيد على زمني الخاص.‏

    .. هل رسمتُ لليوم أكثر من إشارة؟‏

    أم أنني لم أرسم بعد؟ لا أدري.‏

    وانتابني قلق غامض، خشية انقطاع صلتي الواقعيّة بالزمن، حدّقت بالجدار هذا الذي لايزال مصلوباً أمامي. أتأمّل بقايا الأصباغ القديمة المتراكبة والمتآكلة. إضافة لآثار الرطوبة والعفونة التي تتبدّى واضحة، عبر أشكال باهتة وغير محدّدة. كإشارات غامضة لزمن من نوع ما، ولبشر من نوع ما.‏

    "- ما هذا؟‏

    -لاشيء.‏

    -أين وسيلة الحفر؟!"‏

    وتتلجلج الكلمات الخائفة، وعيناي تخبّئان حتى أظفاري.‏

    ".. لا تخف.. لا تخف.. مجرد وهم.. ثم إن ذيول الأضواء الخافتة المتسرّبة من البعيد، لازالت متواطئة معي، بحيث أن القادم أيّاً كان لن يرى ماأراه."‏

    دائماً عليّ أن ألجم مخاوفي، وأن أستعيد هدوئي ووحدتي لأبدأ من جديد، مستعيناً بالذاكرة، هذه التي باتت تخونني.‏

    لست متأكداً من أنني رسمت إشارة أو أكثر لهذا اليوم. أم لم أرسم شيئاً. فاليوم نفسه هنا مراوغ ومخاتل.‏

    يطول أحياناً لدرجة غير معقولة. أرسم له إشارته ثم أحفر أخرى، مع الجزم بأنها ليوم جديد. ويختلط عليّ الأمر. فأحزن وأنكفئ على ذاتي، إلى أن يومئ لي الجدار، فأعود إليه بشيء من المصالحة.‏

    عموماً.. اليوم يجب أن يكون -الأحد- الموعد الذي قررته بنفسي للمحكمة. لا أستطيع الجزم تماماً...‏

    "هسْ.. لا شيء.."‏

    لابد من التكيّف مع وقع الأحذية الثقيلة.أحياناً أتمترس خلف صمت داكن، وأحياناً تواتيني الجرأة على عقد محكمة ميدانية سريعة وعلنية، حيث يحتشد أناس لا وجوه لهم، وبدون ملل، بانتظار النظر في ادعاءاتهم.‏

    بعضهم يحمل علامات بارزة، وبعضهم يعمد دون طلب لإبراز ما خفي من العلامات في هذا الجزء أو ذاك، من أجساد متآكلة إلى حدّ كبير، لدرجة تدفعني للاعتقاد بأن كثرة من الأموات نهضت من قبورها مؤقّتاً، لتحضر المحاكمة فقط، ولتعود إثرها إلى وضعها الطبيعي كموتى.‏

    غالباً لا أستطيع التمييز بين الشّاهد والمدعّي، حيث تتقدم منيّ ودفعة واحدة كتل بشريّة كبيرة متغضنّة، تتقدّم كشاهد، وتتقدّم كمدعّي.‏

    ولئلا يلتبس عليّ الأمر، أرفض الموافقة على الجميع بين الصفتين، رغم إصرار الجميع على ذلك.‏

    وأجادلهم باسم العدالة الصّافية، مقرّراً أنّ لاحقّ لأحد بالشّهادة لنفسه أو عليها.‏

    ثم أتذكّر، ويذكّرونني بأنّني أغمط حقّهم بشكل فظيع، حيث أن أفظع الأشياء لا تحدث في السيرك، ولا في الساحات العامة.‏

    عادة تتمّ المحاكمة بصمت، تُعرض اللوحات والأدلّة في مهرجان من الغضب الصامت، مع استبعاد ردود الفعل العنيفة، لكأن هناك اتفاقاً ضمنيّاً على إلغاء زمن العنف، حقيقة لا أستطيع الجزم بأن اليوم هوالأحد فعلاً، فأعود للجدار متحقّقاً. أتتبّع الإشارات، أحصي. أتذكّر. وفجأة أكتشف كثافة الخطوط والإشارات، فيخالجني شعور بالإثم، حيث يمكن للجدار أن يعجز ذات يوم عن استقبال أيّة إشارات جديدة، خاصة وأنني لست النزيل الوحيد لهذا النزل. نعم قد ألازمه طويلاً. كما لازمه غيري من قبل، ولكن ثمة من سيلازمه بعدي. وخطرت لي فكرة الكتابة للقادمين الجدد.‏

    قد يكون من السخف أن أكتب لهم عن حفلات التعذيب والتي سيعرفونها بالتأكيد مع شيء من الغنى والجدّة، إذاً فلأكتب شيئاً ما كالرسالة لتشّكل تواصلاً ما.‏

    ثم أعدل عن هذه الفكرة، مقرّراً بأن أفضل ما أفعله من أجلهم هو أن أترك لهم حيزاً من الجدار ليتركوا عليه هم أيضاً بصماتهم، وبالشكل الذي يرونه.‏

    سيكونون بأمس الحاجة لذلك. أعرف هذا جيداً. وبالتالي علي أن أبحث عن وسيلة أخرى لتوثيق علاقتي بالزمن، والذي كنت أعتبره شيئاً زائداً، حيث أغفلت فيما مضى كل ماله علاقة به حتى تاريخ ميلادي، ذاك الذي بدأت أتساءل الآن بشكل جدّي، عن صحّته. كوني أحمل تاريخ ميلاد افتراضيّ، اقترحته إدارة المدرسة فوافق عليه أبي.‏

    أمي أكدّت بأني ولدت في خريف ما، بعد انتهاء موسم العنب. لست أدري لماذا أعتقد الآن جازماً بأنني ولدت فعلاً في خريف ما، متصوّر أن الخريف هو الفصل الأنسب للولادة والكتابة والموت.‏

    من قبل كنت أتطلّع إلى الساعة الجداريّة بشكل وظيفي وبحدود الضرورة، بل ويضجرني رتابة دقّاتها.‏

    مرة واحدة حدّقت فيها بشكل جديد، لتنغرس في مخيلتي، وإلى الأبد، العقارب، والأرقام الناتئة، وحتى الهيكل العام للساعة.‏

    كانت تشير إلى الحادية عشرة ليلاً، عندما قرع الباب بعنف وصخب، ومع أول خفقة قلب سريعة ويائسة، قفزت عيناي إلى الساعة، التهمتاها، ثم انكسرتا لتريا وجوه الأطفال الوادعة والمستسلمة للنوم وللأحلام الصغيرة، ثم انقطع الزمن دفعة واحدة، واندغم الليل بالنهار، والساعة باليوم، والأسبوع بالشهر والسنة. كلها أصبحت مسميّات لا معنى لها، وراحت تفقد هويّتها وتتسرب من بين أصابعي، وتنفلت متجاوزة البوابة الحديدية المتقنة الصنع والمحكمة الإغلاق.‏

    "- محكمة...‏

    أصوات كثيفة متداخلة جاءت تقرع رأسي.‏

    -محكمة...‏

    زعيق حاد ينفجر في دماغي.‏

    -محكمة...‏

    وأستسلم لإرادة الصخب القادم مع آلاف الوجوه.‏

    أقول لهم: لست متأكداً من أن اليوم هو الأحد.‏

    فتنفجر الأصوات في وجهي: مراراً مرّ الأحد...‏

    فصول وسنوات مرّت، ونحن مرميّون قدّام عينيّ محكمتك.‏

    أقسم لهم بأنني أحترم المواعيد، وأرهق نفسي للتدقيق في الزمن. الجدار يشهد.‏

    ولكن عبثاً.‏

    قد لاتكون هذه الوجوه جديدة فعلاً، ولكن أنّى لي أن أحفظها جميعاً، وأرتّبها حسب مواعيد مسبقة ودقيقة؟ فهي متشابهة إلى حد كبير. صورها تنفذ إلى الدماغ تثقب الجمجمة، مع ذلك لا أستطيع حفظها، لأنني ببساطة لا أجرؤ على النظر إليها طويلاً. وكلها تتسابق، تريد أن تقول شيئاً قبل فوات الأوان.‏

    واحتجاجاتهم تسبقهم، تصفعني بقسوة، تتّهمني.... فأهرب من المواجهة.. أتسلل من حيث لا يدرون لأندسّ بينهم، وأشاركهم الصراخ الصامت والانتظار الطويل، لمحكمة مؤجلة مؤجلة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()