مقاصد الشريعة الإسلامية

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : أحمد الكردى | المصدر : kenanaonline.com

مقاصد الشريعة الإسلامية


مفهوم المقاصد

يطلق مصطلح مقاصد الشريعة على الأهداف العامة التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في حياة الناس. و تطلق أيضا على الأهداف الخاصة التي شرع لتحقيق كل منها حكم خاص.

أقسام المقاصد في الشريعة الإسلامية


المقصد العام :

هو تحقيق مصالح الخلق جميعا في الدنيا و الآخرة، و يتحقق هذا من خلال جملة أحكام الشريعة الإسلامية.

المقاصد الخاصة :

هي الأهداف التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها في مجال خاص من مجالات الحياة كالنظام الاقتصادي أو الأسري أو السياسي …إلخ. و ذلك عن طريق الأحكام التفصيلية التي شرعت لكل مجال على حدة.

مراتب المصالح البشرية ..
و مصالح الناس من حيث الأهمية على ثلاث مراتب :

أ- الضروريات :

و هي ما لا يستغني الناس عن وجودها بأي حال من الأحوال و يأتي على رأسها الكليات الخمس كما سيأتي بيانه.

ب- الحاجيات :

و هي ما يحتاج الناس إليه لتحقيق مصالح هامة في حياتهم، يؤدي غيابها إلى المشقة و اختلال النظام العام للحياة، دون زواله من أصوله، كما يظهر في تفصيلات أحكام البيوع و الزواج و سائر المعاملات.

ج- التحسينيات :

وهي ما يتم بها اكتمال و تجميل أحوال الناس و تصرفاتهم ،مثل الاعتناء بجمال الملبس و إعداد المأكل و جميع محاسن العادات في سلوك الناس.

الكليات الخمس

إتفق أهل الأديان السماوية و عقلاء بني آدم على أن أهم ما يصلح به حال البشر حفظهم لأمور كلية خمسة، هي ما يطلق عليه الكليات الخمس (الدين – النفس – العقل – النسل – المال ). و قد جاءت شريعة الإسلام بأحكام وافية لحفظ هذه الضروريات الخمس سواء من حيث الوجود إذ شرعت لها ما يحقق وجودها في المجتمع، أو من حيث البقاء و الاستمرار بإنمائها و حمايتها من أسباب الفساد و الزوال.

أولا : حفظ الدين:

قدر الإسلام ما للدين من أهمية في حياة الإنسان حيث يلبي النزعة الانسانية إلى عبادة الله ، و لما يمد به الإنسان من وجدان و ضمير، و لما يقوى في نفسه من عناصر الخير و الفضيلة ، و ما يضفي على حياته من سعادة و طمأنينة.

نظرا لتلك الأسباب كلها كان الدين ضرورة حياة بالنسبة للإنسان، قال تعالى : ((فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون )) و لذا يقول برجستون ((لقد وجدت - و توجد - جماعات إنسانية من غير علوم و فنون و فلسفات و لكن لم توجد قط جماعة بغير ديانة )) و نظرا لتلك الاعتبارات حافظت شريعة الإسلام على الدين،

سواء من حيث غرسه في النفوس و تعميقه فيها ابتداء، أو من حيث تدعيم أصله و تعهده بما ينميه و يحفظ بقاءه استمراراً و دواما، و شرعت لذلك الوسائل التالية:

أ-وسائل حفظ الدين من جانب الوجود :

من وسائل غرس الدين في النفوس ابتداء في الشريعة الإسلامية الوسائل التالية :

1- ترسيخ اليقين بأصول الإيمان و أركانه ، وهي الإيمان بالله ورسله و كتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره، يقول الله تعالى: ((آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله)) ويقول تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله والكتاب الذي أنزل على رسوله و الكتاب الذى أنزل من قبل و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ))

2- إقامة هذا الإيمان على البرهان العقلي و الحجة العلمية ،و من هنا كانت دعوة الإسلام إلى النظر و التدبر: ((أو لم ينظروافي ملكوت السموات و الأرض و ما خلق الله من شيء)) ، و كان نعيه على أولئك الذين لا يتفكرون في الآيات المبثوثة في الكون ((و كأي من آية في السموات و الأرض يمرون عليها و هم عنها معرضون )) كما شن حملة شعواء على تقاليد الآباء و أخذ المعتقدات من غير نظر و لا برهان ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون ))

3- القيام بأصول العبادات و أركان الإسلام من صلاة و زكاة و صوم و حج، بعد النطق بالشهادتين فهذه العبادات من أهم أسرارها و حكمها أنها تصل العبد بربه و توثق صلته به مما يرسخ أصل الإيمان في نفسه و يجدده ، يقول الرسول صلى الله عليه و سلم ،فيما يرويه عن ربه (و ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب ألي مما افترضته عليه، و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )

و يقول صلى الله عليه و سلم: ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا )

4- إيجاب الدعوة إلى الله و حمايتها و توفير أسباب الأمن لحملتها (( و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون )) ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن )) ((يا بني أقم الصلاة و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما أصابك )) ((أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى)) ((إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق ))

ب- وسائل المحافظة على الدين من جانب البقاء

والمقصود بها الوسائل التي انتهجتها الشريعة في المحافظة على الدين بعد حصوله، لصيانته و إزالة العوائق من طريقه، و تزكيته في النفوس.

ومن هذه الوسائل:-

1- كفالة حرية العقيدة و التدين و حمايتها فالإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه، ويسمح بتعايش مختلف الأديان داخل دياره وفي رحاب دولته، و يترك الحرية لأهل الأديان في عقائدهم وممارستهم التعبدية وتصرفاتهم المدنية كما قال صلى الله عليه و سلم: (لهم ما لنا و عليهم ما علينا) بل إن من أهداف الجهاد الإسلامي تأمين حرية الاعتقاد و التدين،

قال تعالى: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا))
2- تشريع الجهاد تمكينا للدين و درءً للعدوان و حماية للاعتقااد قال تعالى: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) ((و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك و ليا واجعلنا من لدنك نصيرا ))

3- الالتزام بتعاليم الدين و تطبيقها بعد القناعة بها و بذلك تظل للدين حيويته في النفوس و أثره في الوجدان ، ومن هنا قرن الإيمان والعمل الصالح في كثير من نصوص القرآن، إذ كثيرا ما يرد في القرآن: ((إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات))

4- تشريع عقوبة الردة و ذلك حتى يكون الإنسان جادا في اعتناقه للإسلام، و حتى لا يقدم على الإسلام إلا بعد قناعة تامة، فالإسلام لا يكره أحدا على اعتناقه. بل إن الله لا يقبل من الدين إلا ما كان نابعا عن قناعة من صاحبه، فإذا دخله الشخص فمن المفروض أن يكون على قناعة بما اتخذ من قرار، فإذا ارتد بعد ذلك فمعنى ذلك أنه أحدث بلبلة فكرية وسياسية تضطرب بها أوضاع المجتمع، ويفقد استقراره الفكري والنفسي المنشود. كما قال تعالى مبينا دعوة المشركين إلى هذه السياسة:((و قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار و اكفروا آخره لعلهم يرجعون ))
و نظرا لذلك شرعت عقوبة الردة. حماية لجدية الاعتقاد،و حرمة الدين.

5- إقامة سياج من الحاجيات و التحسينات كأداء الصلاة جماعة ، كنوافل العبادات المختلفة و بكل هذه التشريعات يتأصل الدين ،و يرسخ في نفس الإنسان و في المجتمع ، مما يحقق الأنس و السكينة و الخير للفرد و المجتمع.


ثانيا : حفظ النفس

فمن ضروريات الحياة الإنسانية: عصمة النفس و صون حق الحياة.

و قد شرع الإسلام عدة وسائل للمحافظة على النفس :

- فمن جهة الوجود :-

*شرع الزواج من أجل التناسل و التكاثر و إيجاد النفوس لتعمر العالم و تشكل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف ، و قد نوه الإسلام بالعلاقة المقدسة بين الزوجين و اعتبرها آية من آيات الله ((و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة ))

- أما من جهة الاستمرار و الدوام: فقد شرع عدة وسائل لحفظ النفس.

1- أوجب على الإنسان أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول للطعام و الشراب و توفير اللباس و المسكن، فيحرم على المسلم أن يمتنع عن هذه الضروريات إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته. كما اعتبر الحصول على هذه الضروريات هو الحد الأدنى الذي يلزم المجتمع ممثلا في الدولة بتوفيره للأفراد العاجزين عن توفيره لأنفسهم، بل أوجب على الإنسان -إذا وجد نفسه مهددة- أن يدفع عن نفسه الهلاك بأكل مال غيره بقدر الضرورة.

2- أوجب على الدولة إقامة الأجهزة الكفيلة بتوفير الأمن العام للأفراد ،من قضاء و شرطة و غيرها ، مما يحقق الأمن للمجتمع.

3- أوجب المحافظة على كرامة الآدمي بمنع القذف و السب ،و منع الحد من نشاط الإنسان من غير مبرر ،و بهذا حمى حريات الفكر و العمل و الرأي و الإقامة و التنقل و كفلها قال الله تعالى: ((و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا))

4- تشريع الرخص بسبب الأعذار الموجبة للمشقة التي تلحق النفس فينشأ منها ضرر عليها، و من ذلك: رخص الفطر في رمضان بسبب المرض و السفر ،و قصر الصلاة في السفر

5- حرم الإسلام قتل النفس سواء قتل الإنسان نفسه أم قتله غيره قال الله تعالى : ((و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)) و شنع على هذه الجريمة فاعتبر قتل نفس واحدة :بمثابة قتل الناس جميعا، قال تعالى : ((من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحياالناس جميعا)) ((و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق )) ((و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما)) و في الحديث: (من قتل معاهدا لم يرح ريح الجنة) (حديث صحيح)

6- أوجب القصاص في القتل العمد، والدية و الكفارة في القتل خطأ قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى )) قال تعالى: ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة. وإن كان من قوم بينكم و بينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة،فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما))

7- إعلان الجهاد حفظا للنفوس و حماية للمستضعفين ((و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان ))

8- أوجب على المسلم إنقاذ من يتعرض للقتل ظلماأو يتعرض لخطرإن استطاع أن ينقذه

9- كما شرع للإنسان أن يدفع عن نفسه إذا هاجمه من يريد الاعتداء عليه دون تحمل أية مسؤولية إذا مات المهاجم ،و ثبت أنه كان يريد الاعتداء عليه

ثالثا : حفظ العقل

للعقل في الإسلام أهمية كبرى فهو مناط المسؤولية، و به كرم الإنسان و فضل على سائر المخلوقات، و تهيأ للقيام بالخلافة في الأرض و حمل الأمانة من عند الله،قال تعالى:((إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أتشفقن منها و حملها الإنسان )) و لهذه الأهمية الخاصة حافظ الإسلام على العقل و سن من التشريعات ما يضمن سلامته و حيويته و من ذلك:

1- أنه حرم كل ما من شأنه أن يؤثر على العقل و يضر به أو يعطل طاقته كالخمر و الحشيش و غيرها قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ))

2- كما شرع العقوبة الرادعة على تناول المسكرات و ذلك لخطورتها و أثرها البالغ الضرر على الفرد و المجتمع.

3- أنه ربى العقل على روح الاستقلال في الفهم والنظر واتباع البرهان ونبذ التقليد غير القائم على الحجة كما في قوله تعالى:((أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم)) ((ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه)) ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))

4- كما دعا إلى تنمية العقل ماديا و معنويا: ماديا بالغذاء الجيد الذي يقوي الجسم و ينشط الذهن، ومن هنا كره للقاضي أن يقضي و هو جائع ،و فضل تقديم الطعام على الصلاة إذا حضرا معا. أما معنويا فبالتأكيد على طلب العلم واعتباره أساس الإيمان، قال تعالى: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء )) ((و قل رب زدني علما)) كما أتاح فرصة التعليم للجميع و جعله حقا مشاعا بين أفراد المجتمع، بل جعل حدا أدنى منه واجبا على كل مسلم ومسلمة

5- رفع مكانة العقل و تكريم أولى العقول ففي أكثر من آية من القرآن الكريم، قال الله تعالى:((فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)) ((إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب )) ((قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ))

6- تحرير العقل من سلطان الخرافة و إطلاقه من إسار الأوهام ، و من هنا حرم الإسلام السحر و الكهانة و الشعوذة و غيرها من أساليب الدجل و الخرافة . كما أنه منع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطان أو علم يأتيه من الوحي المنزل على الأنبياء، و اعتبر ذلك مسببا في هدر طاقته من غير طائل قال تعالى: ((إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم))

7- تدريب العقل على الاستدلال المثمر و التعرف على الحقيقة و ذلك من خلال وسيلتين :

أ-الأولى : أنه وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي المفيد لليقين، من هنا كانت دعوته إلى التثبيت قبل الاعتقاد، قال تعالى: ((و لا تقف ما ليس لك به علم )) ((هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ))

ب-الثانية : الدعوة إلى التدبر في نواميس الكون لاستكشافها و تأمل ما فيها من دقة و ترابط ،و إلى استخدام الاستقراء و التمحيص الدقيق من أجل الوصول إلى اليقين.

8- وجه الطاقة العقلية إلى استخلاص حكم التشريع و أسراره((أفلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ))

9- كما وجهه إلى استخلاص الطاقات المادية في الكون والاستفادة منها في بناء الحضارة((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه))

10- كما فتح له باب الاجتهاد في التشريع فيما لا نص فيه وذلك في مجالين:

أ- معرفة و استخلاص المقاصد و الأهداف من النصوص و الأحكام الشرعية.

ب- استنباط الأحكام و التشريعات للحوادث المستجدة، و هو مجال واسع يستند إلى مبادئ عدة كالقياس و المصلحة و الاستحسان و غيرها.

رابعا : حفظ النسل

و يراد به حفظ النوع الإنساني على الأرض بواسطة التناسل ذلك أن الإسلام يسعى إلى استمرار المسيرة الإنسانية على الأرض حتى يأذن الله بفناء العالم و يرث الأرض و من عليها . و من أجل تحقيق هذا المقصد شرع الإسلام المبادئ و التشريعات التالية:

1- شريعة الزواج: فقد شرع الإسلام الزواج ورغب فيه واعتبره الطريق الفطري النظيف الذي يلتقي فيه الرجل بالمرأة لا بدوافع غريزية محضة ولكن بالإضافة إلى تلك الدوافع،يلتقيان من أجل تحقيق هدف سام نبيل هو حفظ النوع الإنساني و ابتغاء الذرية الصالحة التي تعمر العالم وتبني الحياة الإنسانية وتتسلم أعباء الخلافة في الأرض لتسلمها إلى من يخلف بعدها حتى يستمر العطاء الإنساني و تزدهر الحضارة الإنسانية في ظل المبادئ النبيلة و القيم الفاضلة.

2- العناية بتربية النشئ و تعميق روابط الألفة: ألزام الأبوين برعاية أولادهما و الأنفاق عليهم حتى يتحقق للأولاد الاستغناء عن نفقة الأبوين.

3- العناية بالأسرة و إقامتها على أسس سليمة باعتبارها الحصن الذي يحتضن جيل المستقبل و يتربى فيه ،فقد جعل الإسلام علاقة الزواج قائمة على الاختيار الحر و التراضي بين الطرفين، و على الانسجام و التشاور في كافة الشؤون بحيث تشيع روح المودة و التفاهم، و سعي كل من الزوجين في سعادة الآخر، قال تعالى: ((و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة ))

4- إحاطة العلاقة بين الذكر و الأنثى بمجموعة من المبادئ و الآداب الأخلاقية التي تضمن تحقيق الأهداف السامية لهذه العلاقة و تستبعد الممارسات الفوضوية للعلاقات بين الجنسين ، فعن طريق إيجاب غض بصر الذكر عن الأنثى و الأنثى عن الذكر يقطع الإسلام الطريق على وسائل الإثارة في النفس البشرية. و بإيجاب اللباس الساتر بمواصفات خاصة يحارب التشريع أسباب الفتنه. وفي غير حالات الضرورة القصوى يحرم على الرجل الاختلاء بالمرأة الأجنبية حتى و إن كانت ملتزمة باللباس الساتر، إلا بوجود أحد محارمها. و للبيوت في الإسلام حرمة عظيمة حيث لا يجوز دخولها دون استئذان أصحابها و السلام عليهم.

قال تعالى:((ياأيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)) و بالإضافة إلى هذه الآداب و غيرها يضع الإسلام الضوابط التي تنظم حالات اجتماع الرجال و النساء عند الحاجة.

5- تحريم الاعتداء على الأعراض ،و لذا حرم الله الزنا كما حرم القذف ،و حدد لكل منها عقوبة رادعة قال تعالى:((الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلده و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله )) ((و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا ))

خامسا : حفظ المال

كماهو شأن الإسلام دائما مع النزعات الفطرية للإنسان حيث يبيح أشباعها و يلبي مطالبها ضمن الحدود المعقولة، مع التهذيب والترشيد حتى تستقيم و تحقق الخير للإنسان و لا تعود عليه بالشر، كان هذا شأنه مع نزعة حب التملك الأصلية في الإنسان, فقد أباح الملكية الفردية و شرع في ذات الوقت من النظم و التدابير ما يتدارك الآثار الضارة التي قد تنجم عن طغيان هذه النزعة من فقدان للتوازن الاجتماعي، و تداول للمال بين فئة قليلة من المجتمع، و من النظم التي وضعها لأجل ذلك نظم الزكاة و الإرث و الضمان الاجتماعي .ومن ثم اعتبر الإسلام المال ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية

وشرع من التشريعات و التوجيهات ما يشجع على اكتسابه و تحصيله، و يكفل صيانته و حفظه و تنميته، و ذلك على النحو التالي :

وسائل الحفاظ على المال إيجادا و تحصيلا:
1/ الحث على السعي لكسب الرزق و تحصيل المعاش فقد حث الإسلام على كسب الأموال باعتبارها قوام الحياة الإنسانية واعتبر السعي لكسب المال -إذا توفرت النية الصالحة وكان من الطرق المباحة- ضربا من ضروب العبادة وطريقا للتقرب إلى الله قال تعالى:((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه)) و قال تعالى: ((فإذا قضيتم الصلوة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله))

2/ أنه رفع منزلة العمل و أعلى من أقدار العمال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من عمل يده و إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) حديث صحيح ،و قرر حق العمل لكل إنسان و جعل من واجب الدولة توفير العمل لمن لا يجده ،كما قرر كرامة العامل و أوجب الوفاء بحقوقه المادية و المعنوية، يقول صلى الله عليه و سلم: (أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه )و يقول فيما يرويه عن ربه: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، و رجل باع حرا فأكل ثمنه ،و رجل استأجر أجيرا و لم يوفه حقه ) و قرر أن أجر العامل يجب أن يفي بحاجياته

قال صلى الله عليه و سلم: (من ولي لنا عملا و ليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة، فليتخذ زوجة أو ليس له مركب فليتخذ مركبا) و هذا ما يطلق عليه في العصر "الحديث بمبدأ "تحديد الحد الأدنى للأجور

3/ إباحة المعاملات العادلة التي لا ظلم فيها و لا اعتداء على حقوق الآخرين ، و من اجل ذلك أقر الإسلام أنواعا من العقود كانت موجودة بعد أن نقاها مما كانت تحمله من الظلم، و ذلك كالبيع و الإجارة و الرهن و الشركة و غيرها، و فتح المجال أمام ما تكشف عنه التجارب الاجتماعية من عقود شريطة أن لا تنطوي على الظلم أو الإجحاف بطرف من الأطراف أو تكون من أكل أموال الناس بالباطل.

وسائل المحافظة على المال بقاء و استمرارا:
1/ ضبط التصرف في المال بحدود المصلحة العامة و من ثم حرم اكتساب المال بالوسائل غير المشروعة و التي تضر بالآخرين ،و منها الربا لما له من آثار تخل بالتوازن الاجتماعي ،قال تعالى : ((و أحل الله البيع و حرم الربا )) و قال: ((و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ))

2/ كما حرم الاعتداء على مال الغير بالسرقة أو السطو أو التحايل و شرع العقوبة على ذلك قال تعالى: ((و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما )) و أوجب الضمان على من أتلف مال غيره قال صلى الله عليه وسلم: ( كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله وعرضه)

3/ منع إنفاق المال في الوجوه غير المشروعة، و حث على إنفاقة في سبل الخير ،و ذلك مبني على قاعدة من أهم قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي و هي أن المال مال الله و أن الفرد مستخلف فيه و وكيل قال تعالى: ((و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه )) ((و آتوهم من مال الله الذي آتاكم )) و من ثم كان على صاحب المال أن يتصرف في ماله في حدود ما رسمه له الشرع ،فلا يجوز أن يفتن بالمال فيطغى بسببه لأن ذلك عامل فساد و دمار قال تعالى: ((و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )) و لا يجوز له أن يبذر في غير طائل قال تعالى: ((و لا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين))

4/ سن التشريعات الكفيلة بحفظ أموال القصر و الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، من يتامى وصغار حتى يبلغوا سن الرشد ومن هنا شرع تنصيب الوصي عليه قال تعالى: ((وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم )) و قال تعالى :((و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير )) و من ذلك الحجرعلى البالغ إذا كان سيء التصرف في ماله قال تعالى: ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ))

5/ تنظيم التعامل المالي على أساس من الرضاوالعدل ومن ثم قرر الإسلام أن العقود لا تمضي على المتعاقدين إلا إذا كانت عن تراض وعدل و لذلك حرم القمارقال تعالى:
((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم))

6/ الدعوة إلى تنمية المال و استثماره حتى يؤدي وظيفته الاجتماعية و بناء على ذلك حرم الإسلام حبس الأموال عن التداول و حارب ظاهرة الكنز قال تعالى: ((و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم )) و بهذه التشريعات كلها حفظ الإسلام المال و صانه عن الفساد حتى يؤدي دوره كقيمة لا غنى عنها في حفظ نظام الحياة الإنسانية ،و تحقيق أهدافها الحضارية و الإنسانية. شأنه في ذلك شأن كل المصالح السابقة التي تمثل أساس الوجود الإنساني و قوام الحياة الإنسانية و مركز الحضارة البشرية ،و التي بدون مراعاتها و حفظ نظامها يخرب العالم و تستحيل الحياة الإنسانية و يقف عطاؤها و استثمارها في هذا الوجود.