حيوية في الاستهلاك وضمور في الإنتاج

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : محمد الفلاج | المصدر : www.arriyadh.com

حيوية في الاستهلاك وضمور في الإنتاج

 

يبدو أن الحملات الإعلانية لا تحتاج إلى كثير عناء في كسب "المعركة" مع المستهلك واحتلال قلبه والسيطرة على عواطفه ورغباته والاحتيال في تحريك ميله الحدي للاستهلاك، حتى وإن كان دخله قليلاً ثابتاً، فالمستهلك حتماً سيستدرج ويهزم ويخلى جيبه سواء كانت الحملة الإعلانية "حرباً باردة" تديرها غوايات التسويق بسياسات التسعير وتسهيلات الدفع، أم كانت "حرباً مجيشة" لا يتحمل فيها المستهلك المطاولة، بل يخر صريعاً لأول سهم إعلاني بعدما يرف قلبه ويسيل لعابه وينصهر كامل دخله إلى استهلاك لا يبقى ولا يذر للادخار شيئاً. ما أسرع ما تتهاوى مقاومة المستهلك أمام سيل الإعلانات التي تدغدغ مشاعره وتثير شهواته ونزواته، مرة لما يأكل ويشرب، ومرة لما يقتني ولما يركب، وأخرى تبهره مستلزمات التأنق والاستخدام. وحواء تغويها أدوات الفتنة والجمال، وكلنا نرد الأسواق ويلذ لنا الاستهلاك فنشرب شرب الهيم.

أن يؤدي الاستهلاك إلى إشباع الحاجات الفردية فهذا مطلب وسلوك سليم من الوجهتين النفسية والاقتصادية، لكن ألا يتجاوز وعي الفرد ولا تستجيب فاعليته إلا للبعد الاستهلاكي فإن هذا مما يستدعي وقفة وتأملاً، بل يحتاج إلى تحليل واستنطاق في سبيل التشخيص والمعالجة. تُرى لماذا تتشكل لدينا أنماط استهلاكية تؤثر في عاداتنا وتسيطر على أذواقنا وتغير فينا كل شيء حتى في لغة الكلام، بينما تتوارى مبادرات الإبداع وتجليات الكشف والابتكار وتحسين الإنتاج في مستقر الذهنية تنام في سبات عميق لا توقظه إشراقة شمس المنتجين من حولنا؟ أليس هذا سؤالاً ينبغي أن نلح في سبر أغواره، وفضح أسراره من أجل الكشف والتنوير وهتك الحجب التي تستر معوقات الإنتاج والإبداع، سواء أكانت تتكئ على بواعث فردية أم على موانع اجتماعية ترخي سدولها بأنواع من المثبطات التي تستنـزف توهجات الفرد وتشتت بوادر الفعل لديه بدل أن تستجمعها وترعاها؟

إن لدينا استجابة عنيفة لكل دوافع الاستهلاك ولدينا القدرة على التكيف النفسي والمالي مع كل الميول والأنماط والمستجدات الاستهلاكية بروح تنافسية لا تكل ولا تمل، يقابلها عزوف مريع وفتور مهيمن على الاستجابة لدواعي الفعل المنتج، ومتطلبات الاحتراف المتقن، وإرهاصات الجهد المبدع بغية الانتقال من استمراء الاستهلاك والاستجابة لاستدعاءاته والتكيف مع تقلباته ونزواته والاستكانة إلى إغراءاته، إلى حيوية الإنتاج ولذة الإبداع وقلق الإنجاز وتوتر الاستشراف. إنه من خلال الابتكار والإنتاج يمكن للمرء أن يمارس حضوره وفاعليته في بيئته ومجتمعه ليصبح عضواً مساهماً في نهوض وتقدم المجتمع، لكن المشكلة أن همّ تحقيق الذات من خلال فاعلية الإنتاج والإبداع يتوارى لدى الكثير من الأفراد لحساب احتياجات استهلاكية، لا نقول باستبعادها من دائرة التفكير والطلب، لكن يجب ألا تستبد بكامل مساحة حقل الاهتمامات والطموحات والتطلعات.

وإزاء هذا "الاستبداد الاستهلاكي" الذي تستكين له النفوس أعتقد أننا فعلاً بحاجة إلى نسج علاقات جديدة مع مفاعيل الإنتاج والابتكار. وفي سبيل تحقيق ذلك لابد أن تتساند جميع قنوات التفعيل الاجتماعي من تعليمية، تربوية، دينية، وإعلامية، لكي يصبح هذا النسيج جزءاً من ثقافتنا وذوقنا ومجالاً لتنافسنا.

ولعل مما يؤسس لانتهاج علاقات جديدة مع قيم العمل والإنجاز معالجة القصور الذي يعانيه فقه العمل لدينا، وذلك من خلال التأكيد على قيم العمل والإنتاج كقيم واجبة وليست فقط قيماً مستحسنة أو مستحبة، كقيم واجبة التطبيق تكيف فرضيتها ضرورات العصر وظروف التأخر والحاجة على الغير، بحيث يتم إبراز أهمية العمل والإبداع كشاغل للشاب في التحدي والمنافسة، وأن يكون هو مضماره في السبق والتقدم لتحقيق ذاته والمساهمة في نهضة وطنه وتقدم أمته، وليتيح له مجالاً خصباً للتعاطي والتفاعل مع الأفكار والآليات الفاعلة في عالم اليوم. أما الخطاب المليء بالشعور بالاستغناء وطرح آلية الشراء بديلاً يفي بالغرض ويغني عن التطلع والسعي للإنتاج والابتكار، فليس من شأنه إلا المزيد من المباعدة مع سنن النهوض والتقدم، والمزيد من الإهدار والاستهلاك، ولندرك أن الاستهلاك قبل أن يتجسد فينا سلوكاً فإنه ينبض بفكرة علينا أن نعي فجورها وتقواها.

جريدة الاقتصادية / الخميس غرة جمادى الآخرة 1426هـ 7 يوليو 2005م

العدد 4287

محمد الفلاج / كاتب سعودي