علاج اطلاق البصر

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : فرحان العطار | المصدر : saaid.net

أولاً: استخدام العلاج الذي أمر الله تعالى به في قوله{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم }ويعلم أن غض البصر طاعة يتقرب به إلى مولاه عز وجل  ،  ومعلوم أن الله لا يأمر عباده إلا بما يقدرون عليه  ، وهو سبحانه أعلم بهم وبما يصلحهم ،  وهو القائل {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم }ولم يستثن أحد من هذه الآية ، بل الخطاب عام لأهل الإيمان  ،  فلا يأتي متحذلق بعد ذلك ويقول بأنه لا يستطيع أو أن الهوى قد غلب عليه  ،  أو نحو ذلك  ، وهذا إنما جنى على نفسه بإطلاق بصره أولا  ،  ولو أنه امتثل للأمر لبلغه الله ما يريد ولعصمه من هذه الفتنة  ، ولكن هذا من عاقبة التفريط ، ومعلوم أن غض البصر يحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة على الثغر وكل بحسب قوة إيمانه وإرادته فمقل ومستكثر .

ليس الشجــاع الذي يحمي مطيتــه *** يوم النــــزال ونار الحــــرب تشتعل
لكن فتى غض طرفـا أو ثنى بصرا *** عن الحـــرام فذاك الفــارس البطل

قال ابن الجوزي "ليكن لك في هذا الغض عن المشتهى نية تحتسب بها الأجر وتكتسب بها الفضل وتدخل بها من جملة من نهى النفس عن الهوى "(23)

ثانيــاً: استخدام العلاج النبوي : وذلك حين سئل عليه الصلاة والسلام عن نظر الفجأة فأرشد إلى العلاج النافع الذي من استعمله سد عليه هذا الباب بالكلية ولا يحتاج معه لعلاج غيره فقال((اصرف بصرك )) و أوصى ابن عمه بهذا العلاج فقال عليه الصلاة والسلام ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة  ، فإن لك الأولى وليست لك الثانية)).
فهذان العلاجان هما من أنفع الأدوية ولا يحتاج معها المؤمن إلى علاج آخر إذا عمل بها  ، ولاحظ انه علاج وقائي  ، والعلاج الوقائي يعتبر من أفضل ما ينتفع به الإنسان  ، لأنه يعالج الأمور ويدفعها قبل حصولها أصلا  ، فإذا غض المؤمن بصره عن الحرام ثم إذا وقع بصره على شيء صرفه مباشرة ولم يعاود النظر فإنه أمن بذلك من هذه الفتنة العظيمة بسبب امتثاله لأمر الله ورسوله{وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }.

ثالثــاً: الصبر على غض البصر :لأن في إطلاق البصر قد يجد ما تتلذذ به العين ويشتهيه القلب فكان الغض عند ذلك شديدا على النفس يحتاج إلى صبر طويل  ، وكلما استرسل بصره ثم أراد أن يغضه بعد ذلك  ، كلما ازداد صعوبة في ثنيه ورده  ، قال الحسن رحمه الله"إن هذا الحق قد اجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته "(24) وقال ابن الجوزي رحمه الله ""فالطاعة مفتقرة إلى الصبر عليها والمعصية مفتقرة إلى الصبر عنها فلما كانت النفس مجبولة على حب الهوى فكانت بالطبع تسعى في طلبه افتقرت إلى حبها عما تؤذي عاقبته  ، ولا يقدر على استعمال الصبر إلا من عرف عيب الهوى وتلمح عقبى الصبر فحينئذ يهون عليه ما صبر عنه وعليه ،  وبيان ذلك يتمثل بمثل وهو : أن امرأة مستحسنه مرت على رجلين فاشتهيا النظر إليها فجاهد أحدهما وغض بصره فما كان إلا لحظة ونسي ما كان ،  و أوغل الآخر في النظر فعلقت بقلبه فكان ذلك سبب فتنته وذهاب دينه"(25).

رابعــا: التفكر في حقيقة المنظور : فإذا نازعتك النفس إلى النظر الحرام فتأمل حقيقة ما تنظر إليه  ، و ما تنطوي عليه من الأمور التي إذا تأملها عاقل و أمعن فيها وتفكر اقتنعت نفسه ولم تحدثه ولم تنازعه  ،  فهذه عملية لإقناع النفس بعدم جدوى النظر  ، فمثلا عندما يقول القائل "إذا أعجبتك امرأة فتأمل مناتنها "وأعظم المناتن الكفر بالله  ،  وأدنى من ذلك الفسق والفجور والضلال  ، وجميع ما يعرض في القنوات والمجلات و غيرها من الصور الفاتنة لا تكاد تخرج عن هاتين الصفتين وان كان الأول أعظم لكن الثاني تأباه الفطر والعقول التي لم تعبث بها الشياطين  ،  ثم تذكر بعد ذلك المناتن من المخاط والبول والغائط والعرق ورائحة الفم وغير ذلك  ،  ثم تذكر القبائح المعنوية مثل الغش والدجل والكذب والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك مما يعلن وينشر من الفضائح اليومية والدورية ، فأين من يتأمل ذلك ويعمل الفكر فيه ؟و إلا فالكثير مطلق بصره بشهوة يتأمل في حسن الصورة  ،  منبهر من حسن الشكل  ،  معرض عن الصورة الحقيقية الباطنة التي غابت عنه  ،  وقد ذم الله تعالى أولئك الذين يعجب الناس مظهرهم من الهيئة وحسن الشكل والكلام  ،  لكنهم خواء من الإيمان  ،  قاعدون عن كل فضيلة  ، واثبون إلى كل رذيلة فقال سبحانه {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة....}
فمتى يدرك المسلمون هذه الحقيقة القرآنية ؟ ،  مع أنها أصل من أصول ديننا وهو الولاء و البراء.

خامســاً: تأمل العواقب وملاحظتها فإذا تأملت عاقبة النظر وما سيؤول إليه فإنك تدرك أثره وتأثيره على قلبك وجوارحك وإيمانك وجميع ما يصدر عنك  ، فتعلم حينئذ خطره فتؤثر الغض وتراقبه أيما مراقبه "وإطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظة العواقب ،  ومرسل النظر لو علم ما يجني نظره عليه لما أطلق بصره  ، قال الشاعر:

وأعقل الناس من لم يرتكب سببا *** حتى يفكــــر ما تجني عواقــــبه

وانظر إلى هذا العاقل حين تعرضت له تلك المرأة وعرضت نفسها عليه فصاح بها وأعرض عنها حيث أنه تذكر العاقبة والعقاب فقال:

فكم ذي معــــاصي نال منهن لـذة *** فمات وخلاهـــــا وذاق الدواهيــــا
تصرم لذات المعـــــاصي وتنقـضي *** وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فيا ســــوءتا والله راء وســـامـــع *** لعبد بعين الله يغشى المعــــــاصيا

سادســاً: تذكر ما أعده الله عز وجل لعباده الصالحين في جنات النعيم وما فيها من المشتهيات واللذات على أكمل الأوجه وأوسعها وأوعاها كما قال تعالى عن تلك الدار (الزخرف:71){وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وانتم فيها خالدون }وقال تعالى(الإنسان:20){وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا } وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :قال الله تعالى ((أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر))

فسم بعـــينيك إلى نســـــــــــوة *** مهورهن العمـــــــل الصـــــالـح
وحدث النفس بعشــــــق الأولـى *** في عشقهن المتجــــــــر الرابـح
واعمل على الوصــل فقد أمكنت *** أسبـــــــابه ووقتهـــــا رائـــــح

وهذا الأمر ينبغي الاشتغال به والشوق إليه والسعي في بلوغه وحصوله

دع المصـــوغات من ماء وطين  *** واشغل هــــواك بحـــــور عين

سابعـا: اليأس: وذلك بأن يجزم جزماً ويعقد عزماً على غض البصر ،  بحيث تقنط النفس مع هذا الجزم ،  وتيأس بأن لا تتطلع إلى المحذور مع هذا العزم ، فإنها حينئذ تذعن للغض  ، ولو على مضض ، وهذا يحتاج إلى نفس حره عزيمة أبيه وكم من إنسان يعرف بأنه مخطئ ولكنه يسترسل لضعفه أمام شهوات نفسه ولا يزول ذلك إلا باليأس من العودة إلى المحذور

وما النفس إلا حــيث يجعلها الفتى  *** فإن أطمــــــعت تاقت وإلا تخلـــت

قال ابن سهل : وجدت الراحة في اليأس (26).
ثامنـاً: البعد عن مواطن الفتن والأماكن التي تكثر فيها  ،  وأماكنها معرفة معلومة وإن كانت بعض البلاد صارت بؤرة للفتن ،  قد ملأت السهل والجبل والشواطئ والشوارع والله المستعان ،  ولكن الواجب أن يبتعد عن هذه الأماكن قدر المستطاع ويبذل في ذلك جهده لأنه قد تجذبه بصورها وفتنها  ، قال ابن الجوزي رحمه الله "و أحذر رحمك الله أن تتعرض لسبب لبلاء فبعيد أن يسلم مقارب الفتنة منها وكما أن الحذر مقرون بالنجاة فالتعرض للفتنة مقرون بالعطب وندر من يسلم من الفتنة مع مقاربتها على انه لا يسلم من تفكر وتصور وهم "
(27) و إن كان هذا كلامه وقد عاش في القرن السادس فما نقول نحن في هذا الزمان ؟ ففر من المجذوم فرارك من الأسد ،  فاجتنب الأسواق و الأماكن المختلطة كالمستشفيات و الأسواق إلا لحاجة وأما التلفاز والقنوات الفضائية وصفحات الإنترنت الفاسد منها والمجلات الهابطة التي تهبط بقرائها ولا ترفعهم  ، فإنها من مراكز الفتن وبؤرها فإياك إياك يا من تريد السلامة لدينك ،  والله الموعد .

تاسعــاً: نعمة النظر :فالنظر نعمة من الله فلا تعصه بنعمه ،  واشكره عليها بغض البصر عن الحرام تربح واحذر أن تكون العقوبة سلب النعمة ،  وكل زمن الجهاد في الغض لحضه"وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي ((من أخذت حبيبتيه فصبر واحتسب فله الجنة )) [البخاري 5653] تعرف مقدار النعمة التي ذكرت من بين سائر النعم الأخرى بهذا الأجر العظيم تدرك عظيم قدرها  ،  فهل يليق أن تصرف في المعاصي و الذنوب ؟ .

العــاشر: صرف البصر في الأمور الشرعية التي أمر الله بصرفها فيه أو ندب إليه مثل النظر إلى الزوجة والنظر إلى آيات الله عز وجل في السماوات والأرض ونحو ذلك فهذا هو المصرف الشرعي للنظر فإذا اشتغل المسلم بمثل هذا كان له شغلا عن الحرام ومصرفا عن النظر في الآثام ((وإذا قرأت القرآن وجدت الحث والترغيب في النظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التدبر والتفكر يؤكد هذا الترغيب وروده بكل مترادفات الإبصار وهي الرؤية والتدبر والنظر في مواضع متعددة بصيغة فعل الأمر المجرد وبصيغة الفعل المضارع المقرون بلام الأمر وبالخطاب الفردي وبصيغة الجمع وبواسطة الاستفهام الإنكاري حينا والاستفهام التقريري حينا إلى غير ذلك من صور هذا الترغيب ))(28)

الحـادي عشر: العمل بأحكام الإسلام فإن هذا يضمن الضمان المؤكد بإذن الله عز وجل بحبس النظر عن الحرام ومن التدابير في ذلك أمور منها :
أ- الاستئذان قبل دخول البيوت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما جعل الاستئذان من البصر ))
ب- نهي المرأة عن الخضوع بالقول ونهيها عن التعطر إذا كان مرورها على الرجال حتى لا تثار الغرائز ج-النهي عن نعت المرأة المرأة عند زوجها حتى كأنه ينظر إليها فكيف إذا كان النظر مباشرة ؟
د- أمر النساء بالقرار في البيوت وربط خروجهن بشروط معلومة تهدف بجملتها إلى حفظ النساء والرجال .
هـ- النهي عن الحديث في أعراض المؤمنين وإقامة الحد الشرعي على أولئك الوالغين فيها وذلك حتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فيجد الشيطان حينئذ مدخلا إلى القلوب ليفسدها وتفسد معها الألسنة بنشر الفواحش واستمرائها ،  فتطلق الأبصار وتهتك الأستار ويعصى الله العزيز الغفار.
"وعلى العموم فالإسلام وضع القواعد لنظافة المجتمع من المفاتن والشهوات وسلامته من كل ما يهيج الغرائز ويثيرها من النظر إلى النساء وقراءة المجلات الماجنة والقصص الغرامية وسماع الأغاني واقتناء الصور والأفلام الجنسية والنهي عن كل ما يخدر الغيرة ويلوث الشرف ويميع الخلق ويثير الغريزة ويقتل الكرامة "
(29)
ولا شك أن المسلم إذا اتبع واستعمل هذه الأحكام وسار على المنهج فإنه سوف ينتصر على الوسواس الشيطانية والحيل النفسية والتبريرات المنطقية وهذا كله يدخل في قول الله تعالى (البقرة:208){يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}

فوائـــد غض البصــر(30)

1-الامتثال لأمر الله تعالى وفي ذلك غاية السعادة والفوز والفلاح في الدارين
2- إن في غض البصر تخليص للقلب من ألم الحسرة ؛ فإن من أطلق بصره دامت حسرته ؛ فأضر
شئ على القلب إرسال البصر والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية فإن لم تقتله جرحته ؛ وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه
3- إن إطراق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده عن الله ويورث الوحشة بين العبد وبين ربه جل وعلا ؛فإذا غض المسلم طرفه أورثه ذلك أنسا بالله عز وجل ؛ وتلذذا بطاعته ؛ كما قال عثمان رضى الله عنه ((لو طهرت قلوبنا لما شبعت من القرآن ))
4- إنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين والوجه والجوارح كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهة وجوارحه ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه وتعالى آية النور في قوله تعالى  {الله نور السموات والأرض }عقيب قوله { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم }وقد جاء الحديث مطابقا لهذا كأنه مشتق منه و هو قوله صلى الله عليه وسلم ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نورا)) [قال ابن كثير3\293 وروي هذا مرفوعا عن ابن عمر وحذيفة وعائشة ولكن في أسانيدها ضعف إلا أنها في الترغيب ومثله يتسامح فيه] وإذا اشرق القلب واستنار أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية كما أنه إذا اظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان فما شئت من بدع وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة فإن ذلك إنما يكشفه النور الذي في القلب فإذا فقد النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .
5- إنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته وفي الأثر (( إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ))  ،  ولهذا يوجد عند المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها ما لا يعلمه إلا الله قال الحسن (( إنهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين  ،  فإن ذل المعصية لفي رقابهم  ،  أبى الله إلا أن يذل من عصاه )).وفي دعاء القنوت (إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت )
6- إنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر  ،  وذلك لقهره عدوه بمخالفة نفسه وهواه وأيضا فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله  ،  وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء ،  أعاضه الله مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم ((والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب ))
7- إنه يخلص القلب من أسر الشهوة فإن الأسير أسير هواه وشهوته وإطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق كما قال تعالى عن عشاق الصور ((لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون )) .
8- إنه يسد عنه بابا من أبواب جهنم فإن النظر باب الشهوة الحاملة على موافقة الفعل فإذا سد هذا الباب وغض بصره فإنه بذلك سد عن نفسه بابا من أخطر الأبواب عليه .
9- إنه يفتح له طرق العلم وأبوابه و يسهل عليه أسبابه وذلك بسبب نور القلب فإذا استنار القلب ظهرت فيه حقائق المعلومات وتكشفت بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض و من أرسل بصره تكدر عليه قلبه واظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه .
10- إنه يورث القلب صحة الفراسة فإنه من النور وثمراته  ،  وإذا استنار القلب صحة الفراسة لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوه تظهر فيها المعلومات كما هي والنظر بمنزلة التنفس فيها فإذا أطلق العبد نظرة تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها  ،  قال شجاع الكرماني "من عمر ظاهرة باتباع السنة و باطنة بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات واكل من الحلال لم تخطئ له فراسة " وكان شجاع لم تخطئ له فراسة .
11- إنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب فانه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي ،  فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ثم يعده ويمنيه و ما يعده الشيطان إلا غرورا فإذا غض بصره سد عنه هذا الباب العظيم وسلم من كيد الشيطان و تسلطه عليه وتزيينه
12- إن غض البصر دليل على قوة الإيمان وسلامته وإيثاره ما عند الله عز و جل فيكون بذلك دافعا قويا للمؤمن يدفعه إلى الترقي والزيادة و الرفعة من الدرجات فإن هذا لا يكون و خاصة في هذا الزمان إلا من قلب استقر الإيمان بين جوانحه ففتش عنه و ابحث فإن وجدته و إلا فراجع نفسك وإيمانك والله عز و جل يقول {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين آمنوا منكم ويعلم الصابرين }.

صور مشرقة للسلف في غض البصر

* نبينا صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الغاية في هذا الأمر حتى مدحه ربه جل و علا بقوله(النجم:17){ ما زاغ البصر وما طغى } قال ابن القيم رحمه الله" و عند هذه الآية أسرار عجيبة وهي من غوامض الآداب اللائقة به صلى الله عليه وسلم تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا فيما شاهدة "إلى أن قال رحمه الله "فلموطأة قلبه لقالبه وظاهره لباطنه وبصره لبصيرته لم يكذب الفؤاد البصر ولم يتجاوز البصر حده فيطغى ولم يمل عن المرئي فيزيغ بل اعتدل القلب في الإقبال على الله والإعراض عما سواه فإنه أقبل على الله بكليته وللقلب زيغ وطغيان كما أن للبصر زيغاً وطغياناً وكلاهما منتف عن قلبه وبصره "إلى آخر كلامه البديع فانظره في منزلة الأدب .
* خرج حسان ابن عطية رحمه الله إلى العيد فقيل له :ما رأينا عيدا أكثر نساء منه  ، فقال :ما تلقتني امرأة منذ خرجت .
وقالت له امرأته يوم العيد كم من امرأة مستحسنة نظرت اليوم ؟ فلما أكثرت عليه قال :ويحك! ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك
(31)
* وكان الربيع بن خثيم رحمه الله يغض بصره فمر نسوة فأطرق بصره حتى ظن النسوة أنه أعمى فتعوذن بالله من العمى
(32)
* وقال عمرو بن مرة رحمه الله ما أود أني بصير – وكان قد عمي - إني أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب
* وقال محمد بن سيرين رحمه الله "و الله ما نظرت إلى غير أم عبد الله – أي زوجته- في يقظة ولا منام  ،  وإني لأرى المرأة في المنام فأذكر أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها
(33)
* وجاء في ترجمة الأسود بن كلثوم رحمه الله أنه إذا مشى لا يجاوز بصره قدميه فكان يمر بالنسوة  ،  و في الجدر يومئذ قصر  ، ولعل إحداهن أن تكون واضعة ثوبها أو خمارها فإذا رأينه راعهن ثم يقلن كلا إنه عمرو بن كلثوم
(34).
* وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله كان يتعجب من غضه لبصره . قال المروزي قال لي سراج بن خزيمة : كنا مع أبى عبد الله في الكتاب  ،  فكان النساء يبعثن إلى المعلم : ابعث إلينا بابن حنبل ليكتب جواب كتبهم فكان إذا دخل إليهن لا يرفع رأسه ينظر إليهن قال أبو سراج فقال أبي وذكره  ،  فجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته فقال لنا ذات يوم أنا أنفق على ولدي و أجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون و هذا أحمد بن حنبل غلام يتيم انظر كيف خرج ؟و جعل يعجب
(35).

وأختم الحديث بهاتين الوقفتين:
الوقفة الأولى: عند قوله تعالى {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} قال ابن عباس رضي الله عنهما"الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها  ، فإذا رأى منهم غفلة نظر إليها فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره وقد اطلع الله من قلبه أنه يود أن ينظر إلى عورتها"
(36)

إذا جئتها وســط النســاء منـحتها  *** صدودا كـأن النفس ليس تريدهـا
ولي نظرة بعد الصـدود من الجوى *** كنظرة ثكلى قد أصيب وحيدهــا

الوقفة الثانية : عن خالد بن معدان رحمه الله قال :"ما من عبد إلا وله أربع أعين  ، عينان في وجهه يبصر بهما أمور الدنيا وعينان في قلبه يبصر بهما أمور الآخرة فإن أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فيبصر بهما ما وعد بالغيب  ،  فآمن الغيب بالغيب  ،  وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركه على ما هو عليه ثم قرأ{أم على قلوب أقفالها}"(37)

اللهم أعنا على غض أبصارنا وحفظ فروجنا وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.