فقه حج المريض

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : عبد السلام بن محمد الشويعر | المصدر : saaid.net


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته واهتدى بهداه إلى يوم الدين ... أمَّا بعد
فإن الله تعالى قد رفع الحرج عن المريض ووضع عن كاهله المشقة والضرر؛ فقال سبحانه: { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}، ورَفْعُ الحَرَج عن المريض ظهر في الشرع في صور متعددة رَفْعَاً ودَفْعَاً .

بل وزاد فضلُهُ سبحانه، وتمَّ إنعامُه بأن كَتَبَ للعبدِ المُؤمنِ في حَال مرضِه أجرَ مَا كان يعمله من الخير أو ينوي فعله وهو صحيحٌ سَليم ففي صحيح البخاري عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا) . وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما أحد من الناس يصاب ببلاء في جسده الا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه فقال اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي) . وفيه من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليس من عمل يوم الا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة يا ربنا عبدك فلان قد حبسته فيقول الرب عز وجل اختموا له على مثل عمله حتى يبرا أو يموت) .

ومن الأبواب التي تدخلها أحكام رفع الحرج عن المريض (باب الحج والعمرة)، فإن الله تعالى قد وضع عنه بعض الأحكام تخفيفاً وتيسيرا؛ كما قال سبحانه : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }، فللمريض في المناسك أحكامٌ تخصه رُفع عنه بها الحرج، وأُزيلت بها المشقة والضرر .

وهذه الأحكام يمكن تقسيمها إلى خمس مسائل :
أولاً : سقوط وجوب الحج والعمرة على المريض .
وثانياً : رفض المريض للإحرام بعد الدخول فيه .
وثالثاً : سقوط بعض الواجبات في الحج والعمرة عن المريض، وما يجب حيال ذلك .
ورابعاً : ما يجب حيال فعل المريض لبعض المحظورات لأجل مرضه .
وخامساً : تحقيق المناط في محظورات الإحرام .
والمسائل المتعلقة بفقه حج المريض لا تخرج في الغالب عن هذه المسائل الخمس بهذا الترتيب .
وسنتحدث –إن شاء الله تعالى- على سبيل الإيجاز عن بعض هذه الأحكام، مع ملاحظة أن للفقهاء مسالكَ متعددة وكثيرة في تبيين أحكام الحج ومناسكه، وإنما سرتُ على ما يرجحه أهل الفتوى في الحج .

أولاً : سقوط وجوب الحج والعمرة على المريض .
أوجب الله تعالى على المسلمين الحج مرةً واحدة في العُمُر، وكذا العُمْرة؛ يقول الله جل وعلا : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }، ويقول سبحانه : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } . ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (أيها الناس قد فرض اللهُ عليكم الحج فحجوا)، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله، فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو قلتُ نعم لوجبت ولما استطعتم) .
وكذا العمرة هي واجبةٌ لقول الله تعالى { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ }، ولما روى أبو داود والنسائي عن الصُّبي بن مَعبد قال : أتيت عمر فقلت يا أمير المؤمنين إني أسلمت .. وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي .. فأهللتُ بهما . فقال عمر : (هديت لسنة نبيك) .
وهذا الإيجاب للحج أو العمرة مشروط بالاستطاعة والقدرة، فمَن لم يستطع إما لنقصٍ في نفقته، أو ضعف في بدنه وقوته ونحو ذلك فإنه لا يجب عليه الحج كما قال جلَّ وعلا : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }، وروى أبو داود عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خمسٌ مَن جَاء بهن مع إيمان دخل الجنة من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وصام رمضان وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا) .
والمرض إذا كان يمنع صاحبه من الحج، أو يكون عليه بأدائه حرجٌ ومشقة شديدان فوق العادة، أو كان الحجُّ يؤخِّر بُرءَه، فلا يجب عليه حينئذٍ الحج؛ لتخلف شرط الوجوب وهو الاستطاعة، لكن إن فعله صحَّ منه وأجزأ .
لكن هنا مسألة ذاتُ أهمية وهي : هل يلزم المريض أن يوكِّل غيرَه ليحجَّ أو يعتمر عنه الحجَّ والعمرةَ الواجبين ؟

ذكر الفقهاء أن هذا يختلف باختلاف حالات المرض :
1/ فإذا كان المرضُ عارضاً مما يرجى برؤه وشفاؤه منه، فذكروا أنه لا يصح أن يوكِّل غيره، فإن فعل لم يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أجاز الحجَّ عن الشيخ الهرم الذي لا يستطع الثباتَ على الراحلة فقط -كما سيأتي-، ولا يُقاس عليه مَن هو دونه بل ما شابهه في العلة .
2/ أما إذا كان المرض مما لا يُرجى البرءُ ولا الشفاءُ منه غالباً؛ كحال الأمراض المزمنة والمستديمة، ويُلحَق به مَن كان نِضْوَ الخِلْقَة أي هزيل جداً، وكذا الشيخ الفاني . فذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب أن يقيمَ المريضُ مَن يحج عنه ويعتمر إن كان مستطيعاً بماله؛ واستدلوا لذلك بما روى أبو داود والنسائي من حديث أبي رزين رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله إن أبي شيخٌ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعن . قال : (احجج عن أبيك واعتمر) . ولما ثبت في الصحيحين في قصة المرأة الخثعمية التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : (نعم) .

ثانياً : رفع الحرج عن المريض في رفض الإحرام بعد الدخول فيه :

ما سبق كان في تخفيف الله تعالى في عدم إلزام المريض بالتلبس بالنسك والدخول فيه حجَّاً أو عمرة لعذر المرض .
وهذه المسألة فيما لو دخل المرءُ في النسك، ثم عرض عليه عارضٌ من مرضٍ يمنعه أداء نسكِه . فهل يجوز له رفض الإحرام، والإحلال حينئذٍ، وما الواجب حيال ذلك ؟
فأولاً نبين معنى (الإحرام)، و (رفضه) .
فالإحرام يقصد به نية الدخول في الحج أو العمرة، وأمَّا ترك سائر المحظورات في الإحرام فإنها أمر زائد على الإحرام، فقد يتلبس المرء بالإحرام ويكون محرِماً بالنية وهو فاعلٌ لبعض محظورات الإحرام كلبس المخيط وتغيط الرأس ونحو ذلك فيجب عليه الفدية لفعله لهذه المحظورات وهو محرِم . وإذا تلبس المرء بالإحرام فإنه لا يخرج من كونه محرماً ويرجع حلالاً إلا بأداء مناسك الحج أو العمرة؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : (ثم لم يحلل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حَرُمَ منه حتى قضى حجَّه) .
والمقصود (برفض الإحرام) هو نية الخروج منه، والإحلال بدون إتمام باقي أنساك الحج أو العمرة .
وقد حكى بعض أهل العلم الإجماع على عدم صحة رفض الإحرام، وأن نية رفض الإحرام لغو غير ملتفت إليها إلا في حالة الإحصار وستأتي، وذلك لقول الله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } ومِن معاني الإتمام الإكمال، فيجب أن تُكمل أعمال النسك ولا ينقص منها شيء .
وعلى ذلك فإذا أراد المُحرِم بالحج أو العمرة أن يقطع عملَه ولا يتمه لأي سبب من الأسباب فإن إرادته تلك ونيته غيرُ معتبرة، وتعتبر كأن لم توجد بل يبقى على وصف الإحرام ويُحكم بأنه محرِم، فإن فعل شيئاً من محظورات الإحرام ظناً منه أنه صار حلالاً كلبس الثياب والتطيب والحلق وغيرها وجب عليه بفعلها الفدية لأنه فعل محظوراً من محظورات الإحرام حال إحرامه .
لكن يُراعى أنه توجد صورة ورد النصُّ بجواز رفض الإحرام فيها، وهي (الإحصار)؛ كما قال الله جلَّ وعلا : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، فاستثى اللهُ تعالى حالةً واحدة من وجوب إتمام الحج والعمرة يجوز فيها رفض الإحرام وهي حالة الإحصار .
والمراد بالإحصار : الحبس عن الوصول إلى مكة والمنع من أداء النسك .
فإذا أُحصر الحاج أو المعتمر عن أداء نسكه فإنه يذبح هدياً في مكان إحصاره، ثم يحلق رأسه، ثم يحل من إحرامه؛ للآية، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك عندما أحصر يوم
الحديبية . فإن لم يجد هدياً صام عشرة أيام ثم حلَّ .
وقد اتفق الفقهاء على أن المحصَر إذا كان سببُ حصرِه العدو فمنعه من الوصول إلى البيت فإن له التحلل؛ حكاه الموفق وغيره؛ كما كان من النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عندما منعه المشركون من أهل مكة من الوصول إلى البيت الحرام .
واختلف الفقهاء فيما لو كان سبب الإحصار والمنع من الوصول إلى البيت وأداء النسك بعد الدخول في الإحرام إنما هو المرض . فذهب بعض الفقهاء وهو قول الحنفية ورواية عند الحنابلة اختارها الشيخ تقي الدين إلى أنه يأخذ حكم الإحصار في جواز رفض الإحرام، فيجوز له أن يحلَّ بعد أن يهدي ويحلق؛ وذلك لما ثبت بإسناد صحيح عند أهل السنن من حديث الحجاج بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن كُسر أو عَرِجَ فقد حلَّ وعليه حجة أخرى) .
وعلى ذلك فإن المُحرِم بالحج أو العمرة إذا عرض عليه مرضٌ واشتدَّ به بحيث لم يستطع إكمال باقي مناسك الحج فإنه يجوز له أن يحل ويرفض الإحرام بعد ذبح هدي الإحصار والحلق، أو يصوم عشرة أيام إن لم يجد الهدي . وهذا من رحمة الله تعالى وتخفيفه عن عباده المؤمنين .
ويلزمه إضافة للهدي والحلق أن يحجَّ مرة أخرى نيابة عن هذه الحجة التي أُحصر عنها متى تيسر له ذلك لحديث الحجاج بن عمرو رضي الله عنه السابق .
بل هناك حالة يجوز فيها الإحلال بدون ذبح الهدي اكتفاءً بالنية فقط، فيسقط وجوب الهدي عن المُحصَر بالمرض ونحوه، ولا يلزمه قضاء النسك الذي أحرم به مرة أخرى؛ وذلك إذا شرط عند ابتداء إحرامه فقال : (( إن حبسني حابسٌ فمَحِلِّي حيثُ حبستني ))، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : دَخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها : (لعلكِ أردت الحج)، قالت : واللهِ لا أجدني إلا وجعة، فقال لها : (حجي واشترطي قولي : " اللهم محلي حيث حبستني" )، زاد النسائي في رواية إسنادُها جيِّد : (فإن لك على ربك ما استثنيت)، ولأحمد بإسناد جيد أيضاً : (فإن حُبستِ أو مَرضت فقد حللتِ من ذلك بشرطكِ على ربك) .
وكانت رضي الله عنها مريضةً، فكذا كُلُّ مريضٍ دخل في النسك أو عرض عليه المرض بعد الدخول في النسك جاز له الخروج منه ولا شيء عليه من دمٍ ونحوه إذا اشترط .
ولا يلزم هذا اللفظ بل كل ما أدَّى المعنى صحَّ، كما كان ابن مسعود يقول : (اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت لي، وإلا فلا حرج عليَّ) لأن المقصود المعنى .

ثالثاً : سقوط بعض الواجبات عن المريض، وما يجب حيال ذلك :
من المعلوم أن أفعال الحج والعمرة تُقسَّم إلى أركان وواجبات وسنن .
فأما الأركان فإنها لا تسقط بحال، ويلزم الإتيان بها، ولا يتم الحجُّ والعمرة إلا بفعلها . إلا أن يفوت زمانها ووقتها على الحاجِّ إن كانت مما يفوت وقته؛ كفوات يوم عرفة فيأخذ حينئذ (أحكام الفوات)، وهي مبسوطة في كتب الفقه .
وأركان الحج أربعة؛ الأول : الإحرام وهو مجرد النية فمن تركه لم ينعقد حجه .
والثاني : الوقوف بعرفة ووقته من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر .
والثالث : طواف الإفاضة ولا حدَّ لآخره .
والرابع : السعي بين الصفا والمروة .
وأركان العمرة ثلاثة؛ الإحرام . والطواف . والسعي .
ولهما أيضاً واجبات يجب على الداخل في النسك فعلها، وهي دون الأركان فتُجبَر بدمٍ لمَن ترك شيئاً منها عمداً أو نسياناً .
وواجبات الحج سبعة؛ الإحرام من الميقات . والوقوف في عرفة إلى الغروب لمن وقف نهارا . والمبيت ليلة النحر بمزدلفة إلى بعد نصف الليل . والمبيت بمنى في ليالي التشريق . ورمي الجمار مرتبا . والحلق أو التقصير . وطواف الوداع .
وواجبات العمرة شيئان؛ الإحرام بها من مكان وجوب الإحرام . والحلق أو التقصير .
وما عدا ذلك من الأعمال فهي مسنونة غير واجبة في الحج أو العمرة .
ومَن ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فإنه يجب عليه دمٌ يُذبح في مكة ويوزع على فقرائها؛ لما روى مالك في (الموطأ) بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفاً قال :
( من ترك نسكاً فعليه دم )، وهذا الحديث له حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي، ولا يُعرَف له مخالف من الصحابة  . وهذا هو رأي جماهير أهل العلم من فقهاء المذاهب الأربعة جميعاً .
فإن ترك الحاجُ أو المعتمر شيئاً من الواجبات لعذر المرض صحَّ حجه، ويلزمه الدمُ عن كُلِّ واجب تركه منها .
غيرَ أنه رُخِّصَ للمريض في ترك بعض واجبات الحج من غير وجوب الدم عليه وذلك في واجبين من واجبات الحج :
أحدهما : المبيت في منى فإنه يسقط عن المريض الذي لا يستطيع المبيت بها إما للزوم بقائه في المستشفى، أو لعجزه عن الوصول إليها ونحو ذلك؛ لما ثبت في الصحيحين أن العباس رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت في مكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له . وروى أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لرُعَاء الإبل في ترك البيتوتة . وذلك منه صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على غيرِهم من ذوي الأعذار كالمرضى ممن يشق عليه الوصول إلى منى، فيأخذون حكمَهم ويسقط عنهم المبيت بمنى ولا دمَ عليهم، وقد صحح هذا الرأي عدد من الفقهاء كابن قدامة والمَرداوي وغيرهم .
كذا المبيت في مزدلفة ملحقٌ بالحكم السابق ويأخذ حكمه عندهم، فيسقط عن المريض الذي لم يستطع الوصول إليها ولا المبيت فيها ولا دم عليه . وهذا هو الواجب الثاني .
أيضاً يستثنى من واجبات الحج رمي الجمار فرُخص فيه بالخصوص للمريض ونحوه من الضعفة أن يوكِّل غيرَه في رمي الجمار عنه؛ ودليل ذلك أن جابرا رضي الله عنه قال : (كنا نرمي عن الصبيان) رواه الترمذي، فكذا كل مَن لم يستطع الرمي بنفسه يصح استنابة غيره عنه . لكن يشترط في الاستنابة في الرمي أن يكون بإذن المرمي عنه، فلو كان المرميُّ عنه مغمى عليه لم يصح الاستنابة عنه في الرمي لأنه وقع بدون إذنه .
ومَا عدا هذه الواجبات الثلاث فيجب على تاركها لعذر المرض ونحوه الدمُ على قول جمهور أهل العلم .
وهنا مسألة : وهي أن أركان الحج وواجباته لا تصحُّ إلا مِمَن يعقلها؛ لأنها تحتاج إلى إدراك فلو أن شخصاً فقد عَقْلَه بسبب إغماء ونحوه ثُم وُقف به في عرفة، أو طِيف، أو سُعي به بدون أن يشعر فإن ذلك لا يصح منه ولا يجزءه .
لكن لو ابتداء الحاج الوقوف –مثلاً- ثم نام، أو أغمي عليه صح َّ منه .

رابعاً : ما يجب حيال فعل المريض بعض محظورات الإحرام :
يجب على المحرِم بالحج أو العمرة الامتناع من بعض الأعمال والتصرفات حال كونه متلبساً بالنسك ومُحرِما، وهذا ما يسميه الفقهاء (بمحظورات الإحرام)، ويسميه بعضهم (بالجنايات في الإحرام) .
ومحظورات الإحرام تسعة هي : إزالة الشعر . وتقليم الأظافر . وتعمد تغطية الرأس
بملاصق للرجال . وتعمد لبس المخيط على الرجال . والطيب . وقتل الصيد . وعقد النكاح . والجماع . والمباشرة للنساء لشهوة .
ويجوز فعلها حال الضرورة ولا إثم على مَن فعلها (لأن الضرورات تبيح المحظورات)، لكن يلزمه الفدية حينذاك، فتجب الفدية على المريض وغيره ولا فرق، سواءً فعلها لعذر أو لغير عذر؛ لقول الله تعالى : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وغيرُ الحَلق يُقاس عليه لاتحادهما في المعنى وهو فعل المحظور . ولحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( من ترك نُسُكاً فعليه دم ) .

ولكن يحسن التنبيه أن هذه المحظورات على أربعة أنواع باعتبار ما يترتب عليها مِن أثر، وما يجب فيها من الفدية، وهي :
أحدها : المحظورات التي لا فدية فيها : وهو عقد النكاح، فعقد النكاح من الأمور التي يُمنع منها المحرِم، لكن إذا فعلها لا يترتب عليه جزاءٌ من حيث الفدية، غيرَ ما ذكره الفقهاءُ من بطلان العقد ولزوم تجديده .
الثاني : المحظورات التي تجب فيها فدية الجزاء؛ وهي على سبيل التخيير والتعديل؛ وهو الصيد للمحُرِم .
فيُخيَّر مَن فعلَ هذا المحظور بين مِثلِ الصيد إن كان له مِثل، أو يقوِّمه دراهمَ يشتري بها طعاماً يُطعِم كل مسكين مُدَّاً، أو يصوم عن كل مُدٍّ يوماً .
أما إن لم يكن للصيدُ مثيل فيُخيَّر بين الإطعام والصيام فقط؛ لقول الله تعالى : {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} .
الثالث : المحظور الذي تجب به الكفارة المغلظة، ومقدارها بدنة، مع بطلان الحج؛ وهو الجماع في الفرج وهذا باتفاق الفقهاء .
الرابع : المحظورات التي تجب فيها فدية الأذى . وهو باقي المحظورات التي إذا فعلها المحرِم وجب عليه الفدية بالتخيير . فخُيَّرُ مَن فعل شيئاً من هذه المحظورات بين الصيام، أو الصدقة، أو النسك، من غير تفضيل لأحدها على الآخر .
فالصيام أن يصوم ثلاثة أيام، والإطعام أن يطعم ستة مساكين، أو النسك وهي شاة .
فيخيَّر المريض الذي فعل شيئاً من هذه المحظورات كاللبس والحلق والطيب ونحوها بين أحد هذه الكفارات الثلاث .

خامساً : تحقيق المناط في محظورات الإحرام .
والمراد بهذه المسألة تبيين المقدار الذي يكون به الشخص فاعلاً لأحد المحظورات، وتنزيل بعض الصور على بعض المحظورات، وفي هذا الباب خلاف طويل مبناه في الغالب على العرف واللغة والتقدير، وسأذكر المحظورات التي تتعلق بالمريض بالخصوص، وأبيِّن المقدار الذي يكون به الشخص فاعلاً لهذا المحظور .
1/ حلق الشعر .
وتجب الفدية –على التخيير- في حلق الشعر للآية، سواءً كان الحلق لشعر الرأس أو لغيره من شعر البدن، والبعض يقول إن الفدية تجب بحلق شعرتين أو ثلاث أو أربع أو خمس . ولكن الظاهر أنه لا تجب الفدية إلا إذا حلق الشخص ما به إماطة الأذى، وحصل له به الترفه .
وعلى ذلك فحلق جزء من شعر الرأس أو اليد لأجل مداواة جرح أو خياطته لا توجب الفدية بناءً على هذا الترجيح .

2/ تغطية الرأس للرجل :
والمراد بتغطية الرأس المنهي عنها المُحرِم تغطية الراس أو بعضه بملاصق مما يقصد به اللبس، فعلى ذلك لبس الغتر، والعمائم، وغطاء الرأس للمريض كلها منهي عنها .
ويخرج من ذلك صور :1: تغطية الرأس بغير الملاصق كالمظلة فإنه لا يُعدُّ من التغطية لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضُربت له قبة فجلس فيها .
2: تغطية الوجه كوضع الكمامات على الوجه خشية الإصابة بالمرض، أو انتقالها بأمر الله تعالى، أو وضع كمامات الأكسجين فإنه يجوز لأنه الوجه ليس من الرأس .
3: إذا حمل المحرِم على رأسه متاعاً أو شنطة ونحوها فإن ذلك لا يُعدُّ موجباً للفدية .

3/ لبس المخيط :
ومذهب الجمهور أنه لا بُد أن يصدق على الشيء أنه ملبوس، كالثوب والقميص والسراويل والقفازان كلها من محظورات الإحرام .
وأما وضع الجبائر والضمادات على الجروح فلا توجب الفدية لأنها لا تسمَّى لبساً وإن غطت عضواً كاملاً .
كذا رَبطُ الوسط بحزام ونحوه لا يُسمَّى لبساً .
كذلك الخفان اللذان يمنع المحرم من لبسهما إنما يقصد به ما يجوز المسح عليه، فالأحذية ذوات السيور ليست من الخفاف التي توجب الفدية لمن لبسها حال إحرامه .

4/ مس الطيب :
والمقصود بالطيب هو ما أريد منه الرائحة الطيبة وقصد من استخدامه ذلك، وعلى هذا فاستخدام بعض الكريمات التي قد تكون لها رائحة زكية إذا كان المقصود منها إنما هو المعالجة بها ولم يقصد منها الطيب فإنه لا يُوجِبُ الفدية على مَن فعلها .
وكذا سائر الأدهان والكريمات يجوز استخدامها للمحرِم بدون كراهة لحاجة أو لغيرها، كالأدهان التي تستخدم لمنع الاحتكاك، أو للتشقاقات الجلدية ونحو ذلك .
أما إن كانت مطيَّبة فإن استخدمها لأجل الطيب وجبت الفدية، وإن استخدمها لغير ذلك جاز . ومثلها في الحكم الصابون الذي يغسل به الجسد .

هذه على سبيل الإجمال أهم المسائل التي تتعلق (بفقه حج المريض) أسأل الله العظيم أن ينفعنا بما علَّمنا وأن يرزقنا العلم النافع والعلم الصالح، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .