الدعاء عند شرب زمزم

الناقل : SunSet | الكاتب الأصلى : موقع مناسك | المصدر : www.mnask.com

"ماء زمزم سيد المياه وأشرفها، وأجلّها قدراً, وأحبّها إلى النفوس, وأغلاها ثمناً, وأنفسها عند الناس, وهو هزمة جبريل[1], وسقيا نبي الله إسماعيل عليه السلام"

[2].

والقاصد لبيت الله الحرام يجعل نصب عينيه التروِّي من تلك العين التي لم تنقطع منذ أجراها الله عز وجل لهاجر أم إسماعيل عليهما السلام، لتتبو   أ بعد ذلك أسمى وسام بكونها أشرف ماء على وجه الأرض كما وصفها صلى الله عليه وسلم في قوله: ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم...))[3]، ووسام آخر نالته عندما قال عنها صلى الله عليه وسلم: ((إنها مباركة، إنها طعام طعم)) رواه مسلم برقم (4520)، وزاد الطيالسي ((وشفاء سقم))

[4].

ومن أجل هذا كان عليه الصلاة والسلام يحب كثيراً أن يشرب من تلك العين التي لا تنضب، والرواء الذي به شاربه يرغب؛ بل ها هو يبعث صلى الله عليه وسلم إلى واليه بمكة عتَّاب بن أسيد يأمره أن يوقر البعير بماء زمزم، ويبعثه إليه بالمدينة"

[5]، ونقل جمع من الصحابة رضوان الله عليهم عنه شربه منها في وقائع معينة شاهدوها بأم أعينهم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب" رواه البخاري برقم (1556)، ومسلم برقم (2027).

وعند جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: "... ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: ((انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم))، فناولوه دلواً فشرب منه..." رواه مسلم برقم (3009)، ومن هنا استحب الفقهاء للحاجّ والمعتمر أن يتضلع من ماء زمزم (أي: يكثر الشرب منه حتى يمتلئ، ويرتوي منه حتى يشبع ريّاً)؛ يقول العلامة التبريزي رحمه الله: "وفيه دليل على استجاب الشرب للناسك من ماء زمزم، والإكثار منه"[6]، ويؤكد ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني هذا بقوله: "ويستحب أن يأتي زمزم (أي: الحاج) فيشرب من مائه لما أحب، ويتضلع منه"[7]، ونص على ذلك أيضاً الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع الفتاوى بقوله: "يستحب للحاج والمعتمر وغيرهما أن يشرب من ماء زمزم إذا تيسر له ذلك"

[8].

 

 من مظان الإجابة:

واستحب أهل العلم أيضاً الدعاء عند شرب ماء زمزم كما يقول ابن عثيمين رحمه الله: "وأما الدعاء عند شربه فقد استحب كثير من العلماء أن يدعو الله سبحانه وتعالى عند شربه"[9]، بل وعدُّوه من مظان الإجابة استناداً إلى حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ماء زمزم لما شرب له))[10] قال صاحب شرح سنن ابن ماجه: "لما شرب له من مهمات الدنيا والآخرة"[11]، ويا له من خبر دل على صدقه، ويقين علمه؛ أجيال أمته من بعده، فها هي تتحدث عن بركته، وصدق منفعته لمن تضلع وشرب من معينه. يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً: "وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس، كأحدهم أخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قوة يجامع بها أهله، ويصوم ويطوف مراراً"

[12].

ويؤكد هذا الإمام المنَّاوي رحمه الله بقوله: "إن التجربة دلَّت على صحته، فإن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله؛ لأن أصله من الرحمة، بدأ غياثاً؛ فدام غياثاً"[13]، "وكذلك يكون إلى يوم القيامة لمن صحَّت نيته، وسلمت طويته, ولم يكن به مكذباً, أو شربه مُجَرِّباً, فإن الله مع المتوكلين"

[14].

ومع هذا فـ"لم يثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم ‏عند شربه دعاء ‏مخصوص"[15] يقول ابن عثيمين رحمه الله معلقاً على قول ابن قدامة في المستقنع: "ويدعو بما ورد"، ثم ساق دعاء ذكره صاحب الروض قال: "فيقول: بسم الله، اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً، وشبعاً، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك» قال: هذا يحتاج إلى إثبات"

[16].

وكل ما ثبت من الدعاء المخصوص عند شرب زمزم هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان إذا شرب ماء زمزم قال: "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء"[17] يقول الإمام الفاسي المالكي: "ولا يقتصر على هذا الدعاء، بل يدعو بما أحبه من أمر الآخرة في الدعاء، ويتجنب الدعاء بما فيه مأثمة"[18]، وكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويدعو عند شربه (أي: ماء زمزم) بما شاء من الأدعية الشرعية"

[19].

 

لأجلها تضلَّعوا من زمزم:

وقد جرَّبه العلماء والصالحون رحمهم الله تعالى فشربوا وتضلعوا لأجل مقاصد جليلة، وحوائج جزيلة؛ أخروية ودنيوية فنالوها

[20]من ذلك:

أنه كان بعض السلف الصالح يرجون بشرب زمزم جمع شتات العلم، ولـمَّ متفرقه: قال الإمام السيوطي رحمه الله: "حُكي عن شيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر رحمه الله أنه قال: "شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ" قال: فبلغها، وزاد عليها"

[21]، وقال ابن عساكر رحمه الله: "سمعت الحسين بن محمد يحدث عن أبي الفضل بن خيرون أو غيره أن الخطيب البغدادي ذكر أنه لما حجَّ شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات:

 

فالحاجة الأولى: أن يحدِّث بتاريخ بغداد بها.

 

الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور.

الثالثة: أن يدفن عند بشر الحافي, فقضى الله له ذلك"

[22].

وربما شربوه لمقاصد رفيعة أخرى فأصابوها وظفروا بها فقد قال ابن حجر رحمه الله: "واشتُهر عن الشافعي الإمام أنه شرب ماء زمزم للرمي فكان يصيب من كل عشرة تسعة، وشربه أبو عبد الله الحاكم رحمه الله لحسن التصنيف وغيره فكان أحسن أهل عصره تصنيفاً"[23]، وقال الحافظ السَّخاويُّ في ترجمة ابن الجزري: "كان أبوه تاجراً، ومكث أربعين سنة لم يرزق وَلَداً، فحجَّ وشرب ماء زمزم بنية أن يرزقه الله ولداً عالماً فوُلِدَ له محمد الجزري بعد صلاة التراويح"

[24]، وابن الجزري هو من هو في الحفظ والعلم وبالأخص في علم القراءات.

 

وهمَّة أخرى لأجلها تضلعوا:

فقد دخل ابن المبارك رحمه الله زمزم فقال: "اللهم إن ابن المؤمل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ماء زمزم لما شُرب له))، اللهم فإني أشربه لعطش يوم القيامة"[25]، وقال ابن عيينة: "قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إني أشربه لظمأ يوم القيامة"

[26].

 

مقدار شربه:

 

سُئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله: هل يشترط لتحقيق الشرب كمية معينة؟

فأجاب رحمه الله بقوله: "ظاهر الحديث أنه لا يشترط لذلك كمية معينة، لكن أهل العلم قالوا: إنه ينبغي للإنسان أن يشرب من ماء زمزم، ويتضلع منه (أي: يملأ بطنه منه)، ولا شك أن ماء زمزم ماء مبارك، وأنه ((طعام طعم، وشفاء سقم)) بإذن الله عز وجل"

[27].

 

وقت الدعاء:

ذكر الرملي أنه ينبغي لمن أراد أن يشرب من ماء زمزم أن يقول: "اللهم إنه بلغني عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له))، اللهم إني أشربه لكذا، ويذكر ما يريد دين ودنيا"

[28]، ويُفهم من كلامه هذا أن الدعاء يكون قبل أن يرتشف العبد من ماء زمزم، ولكن الذي يظهر من مجموع وقائع السلف عند شربهم لماء زمزم أنهم كانوا يدعون قبل وبعد تضلعهم منه دون تفريق، مما يعنى أن الأمر والله تعالى أعلم فيه سعة، فلا بأس أن يدعو المرء قبل الشرب أو بعده.

 

فيا عبد الله:

 

ما أجمل وأروع وأنت تتضلع من ماء زمزم أن تستحضر نية صالحة، وترفع دعوة خالصة، وتستجمع آداب الدعاء، وتلزم أسباب إجابته، ثم تدعو ربك بقلب حاضر، وقصد خالص، عساك أن تُسدَّد وتوفَّق لخيري الدنيا والآخرة.

 

أيها المبارك:

إنها فرصتك؛ لتدعو ربك بما يختلج في صدرك، ويعتلج في داخلك، وكلنا ذاك الفقير المحتاج إلى عون ربه، وتسديده وتوفيقه. يقول العلامة ابن باز رحمه الله: "ويستحب للحاج الشرب من ماء زمزم، والتضلع منه، والدعاء بما تيسر من الدعاء النافع، فماء زمزم لما شُرب له كما روي عن النبي  صلى الله عليه وسلم"

[29].

فلتكن نيتك بالخير قائمة، وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

موقع مناسك
 

[1]

أي ضربها برجله فنبع الماء . والهزمة : النقرة في الصدر ، وفي التفاحة إذا غمزتها بيدك . وهزمت البئر ، إذا حفرتها .

[2]

زاد المعاد لابن القيم (4/392).

[3]

رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (11004)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5633).

[4]

رواه الطيالسي برقم (459)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1162).

[5]

شرح زاد المستقنع للشنقيطي (5/301).

[6]

مشكاة المصابيح للعلامة العمري التبريزي (9/94).

[7]

المغني لابن قدامة المقدسي (3/477).

[8]

مجموع الفتاوى (16/138).

[9]

لقاءات الباب المفتوح (75/13).

[10]

رواه ابن ماجه برقم (3062)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (10439).

[11]

شرح سنن ابن ماجه (1/220).

[12]

زاد المعاد لابن القيم (4/356).

[13]

فيض القدير (5/404).

[14]

أحكام القرآن لابن العربي (3/98).

[15]

شرح زاد المستقنع للشنقيطي (5/302).

[16]

الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/349).

[17]

رواه عبد الرزاق في مصنفه برقم (9112)، والدارقطني في سننه برقم (237)، والحاكم  في مستدركه برقم (1739) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي" (1/646).

[18]

شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (1/342).

[19]

مجموع الفتاوى (26/144).

[20]

تهذيب الأسماء للنووي (1146).

[21]

طبقات الحفاظ (1/522).

[22]

طبقات الشافعية الكبرى (4/35).

[23]

شرح فيض القدير (2/507).

[24]

الغاية في شرح الهداية في علم الرواية (1/58).

[25]

شعب الإيمان للبيهقي (3/481).

[26]

كنز العمال (14/54).

[27]

 فتاوى نور على الدرب لابن عثيمين (2/441).

[28]

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي (3/318).

[29]

التحقيق والإيضاح لابن باز (35).