بناء الكعبة

الناقل : SunSet | المصدر : sirah.al-islam.com

بناء الكعبة

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة : قامت قريش في بناء الكعبة حين تضعضعت .
قال أهل السير : كان أمر البيت - بعد إسماعيل عليه السلام - إلى ولده ، ثم غلبت جرهم عليه . فلم يزل في أيديهم حتى استحلوا حرمته . وأكلوا ما يهدى إليه . وظلموا من دخل مكة . ثم وَلِيَتْ خزاعة البيتَ بعدهم ، إلا أنه كان إلى قبائل من مُضَر ثلاثُ خلال : -
الأولى : الإجازة بالناس من عرفة يوم الحج إلى مزدلفة ، تجيزهم صُوفة .
والثانية : الإفاضة من جَمْعٍ ، غداة النحر إلى منى . وكان ذلك إلى يزيد بن عدوان ، وكان آخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة .
والثالثة : إنساءُ الأشهر الحرم ، وكان إلى رجل من بني كنانة يقال له حذيفة ثم صار إلى جُنادة بن عوف .
قال ابن إسحاق : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، جمعت قريش لبنيان الكعبة . وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ، ويهابون هدمها ، وإنما كانت رَضْما فوق القامة . فأرادوا رفعها وتسقيفها . وذلك أن قومًا سرقوا كنز الكعبة . وكان في بئر في جوف الكعبة . وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت . فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها .
وكان بمكة رجل قبطي نجار . فهيأ لهم بعض ما كان يصلحها . وكانت حَيّةٌ تخرج من بئر الكعبة التي كان يُطرح فيه ما يهدى لها كل يوم ،
- ص 70 - فتتَشَرَّقُ على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون . وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَألّت وكَشّت وفتحت فاها . فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها . فذهب بها . فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب . وقد كفانا الله الحية .
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها : قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي فتناول من الكعبة حجرًا . فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا ، لا يدخل فيها مَهْر بَغِي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس .
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة .
فكان شِق الباب : لبني عبد مناف وزهرة . وما بين الركن الأسود واليماني : لبني مخزوم ، وقبائل من قريش انضافت إليهم . وكان ظهر الكعْبة : لبني جُمَح وبني سَهْم . وكان شق الحِجْر : لبني عبد الدار ، ولبني أسد بن عبد العزى ، ولبني عدي . وهو الحطيم .
ثم إن الناس هابوا هدمها ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول . ثم قام عليها . وهو يقول : اللهم لا تُرَعْ - أو : لم نَزِغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين . فتربص الناس تلك الليلة . وقالوا : إن أصيب ، لم نهدم منها شيئا . ورددناها كما كانت ، وإلا فقد رضي الله ما صنعنا . فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله . فهدم وهدم الناس معه .
حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام -
- ص 71 - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة ، أخذ بعضها بعضا . فأدخل بعضهم عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما . فلما تحرك الحجر : انتفضت مكة بأسرها . فانتهوا عند ذلك الأساس .
ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الحجَر الأسود . فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه ، حتى تحاوروا وتحالفوا ، وأعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جَفنة ، مملوءة دمًا . تعاهدوا - هم وبنو عدي بن كعب - على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم . فسموا " لَعقَة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال ، أو خمسا .
ثم إنهم اجتمعوا في المسجد . فتشاوروا وتناصفوا .
فزعم بعض أهل الرواية :
أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي - وكان يومئذ أَسَنَّ قريش كلهم - قال : اجعلوا بينكم أولَ من يدخل من باب المسجد . ففعلوا ، فكان أولَ من دخل : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأوه ، قالوا : هذا الأمين ، رضينا به ، هذا محمد " فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر . فقال صلى الله عليه وسلم : هلم إلي ثوبًا " فأتي به . فأخذ الركن فوضعه فيه بيده . ثم قال : "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوا جميعا " ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه : وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم . ثم بنى عليه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة . وكانوا يرفعون أُزرَهم على عواتقهم ، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلُبط به - أي طاح على وجهه - ونودي "استر عورتك" فما رئيت له عورة بعد ذلك .
- ص 72 - فلما بلغوا خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة .
وكان البيت يُكْسَى القباطي . تم كُسيَ البرود ، وأول من كساه الديباج : الحجاج بن يوسف .
وأخرجت قريش الحِجْر لقلة نفقتهم . ورفعوا بابها عن الأرض ، لئلا يدخلها إلا من أرادوا . وكانوا إذا أرادوا ألا يدخلها أحد لا يريدون دخوله تركوه حتى يبلغ الباب ، ثم يرمونه .
فلما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة : بعثه الله بشيرًا ونذيرًا . وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا .