جسر من حرير

الناقل : heba | المصدر : www.almoustshar.com


 

جسر من حرير

لازمة الطريق:

أيها الفتي السالك درب النور، الطريق رحب يسع ذويك، فأمسك بلجم جيادهم، واحذر صيحة منك تنفرها، فإن كان فاقترب منها، وتحمل ما يؤذيك من رهج سنابكها، وامسح بالأعناق تأنس إليك، واستأنف بأحبتك المسير، واقطعه بحداء ونشيد، ترقب ثغورًا باسمة، وقلوبًا تهفو، وعيونًا تحنو، يغار منكم الود، وإذ بالربوة الخضراء تبرز من أغوار الأرض، فتفترشون بساطها الأخضر، تداعبكم نسمات الربيع، يشجي مسامعكم إيقاع السكون الرتيب، فتهمس في حنان: (أنتم مني وأنا منكم).

كان شابًا طموحًا دائم التطلع إلى الأفق البعيد، لا تكف أفكاره عن تخطي حواجز الزمن والعبور إلى المستقبل، كالنحل في خليته، صاحب عمل دءوب، من ينظر إلى بريق عينه يستلهم منهما صورة مستقبله المشرق، وأما أهله فالسعادة تغمرهم وهم يرقبون النجاح تلو النجاح، يغبطهم القريب والبعيد على مثل هذا الابن الناجح الذي علقت عليه أسرته الآمال.

وشاء الله تعالى أن يفيق الشاب على الحقيقة التي غابت عنه طويلًا، ولم يكن يستحضر من معانيها إلا النذر اليسير: أن مآله إلى موت، وبعد الموت نشور وحشر، ثم حساب وجزاء، ثم إلى جنة أو نار، فاستجمع الفتي همته، وسلك درب الحياة بقوة الجواد المضمر، وطفق يلبي نداء الجنان.

وأما الأهل فقد اكتفوا برصد الواقع الجديد، ولكن مهلًا، ما للشاب قد بدا سائر أيامه متجهمًا عابسًا، لا يعبأ بمظهره كسابق عهده؟! لماذا انحسرت اهتماماته الدراسية وصارت تتراجع شيئًا فشيئًا، فغـد ت لا تحتل مكانة في حياته؟! يصيح الأهل متسائلين ماذا حدث؟! ما الذي غيرك؟! أين الطموحات؟! أين الآمال؟!

فيجيب بكلمات كأنها خرجت من بئر سحيق: أنها دنيا زائلة فانية، ما الذي يسر فيها؟! لماذا أعمرها وأترك إعمار دار البقاء؟! لقد اخترت ما يبقى على ما يفنى، وبلغ الفتى حدًا أثار جزعهم، فصار يعرض عما لذ وطاب من الطعام حتى يهذب نفسه ويقمع شهوته، ويلزم نفسه بطول السهر حتى يروضها، فتحطمت آمال أسرته، ودب الهم والحزن في الأجواء حتى تكدرت حياتهم، فأشاروا بأصابع الاتهام إلى المسئول الأول والأوحد عن ذلك الانحدار إنه (الالتزام).

كانت هذه صورة لحالات التخبط والخلل في الرؤى والتصورات والمفاهيم التي تعتري بعض الشباب بعد استيقاظ فطرتهم، وولادة رغبتهم في سلوك درب الاستقامة، هذه السلوكيات المتمخضة عن المفاهيم المغلوطة هي مما يعكر صفو الأجواء الأسرية؛ مما يكون له رد فعل يختلف من أسرة إلى أخرى، ويتراوح ما بين الإغراق في الهموم والأحزان، وبين محاولات انتشال فلذة الكبد من براثن الأفكار (الغازية) التي داهمته.

إن هيمنة توهم التعارض بين الدنيا والآخرة ـ واعتبارهما طريقين متضادين يتحتم اختيار أحدهما ـ لهو ضرب من ضروب تشوه المفاهيم، وهناك عدة عوامل أسهمت في تكوين ذلك الخلل المفاهيمي منها:

أولًا:

الفهم المغلوط لنصوص الوحيين التي تحتوي على ذم للدنيا؛ كقوله تعالى: ((إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار)) [غافر:39]، وقوله تعالى: ((وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)) [الحديد:20]، فظن البعض أن القرآن يذم الدنيا مجردة.

ولكن بجمع أطراف النصوص وضم بعضها إلى بعض، وباستقراء سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار، ندرك أن القرآن يذم الدنيا مقارنة بالآخرة ونعيمها، ويذم الاغترار بالدنيا والركون إليها والرضا بها ومحبة الحرام منها، وذمها كذلك لتنبيه الغافلين، وفي رسالة (الدين والحياة) يقول د/ محمد العبدة: (وكذلك عندما يذم القرآن الشهوات فليس المراد إبطالها بالكلية، وإنما تصريفها بما أباحه الشرع، وأما قوله تعالى: ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة)) [آل عمران:14] فهذا تذكير بما هو خير منها، لا لبيان قبحها في نفسها).

ثم ذكر قول رشيد رضا في المنار: (فإن الله تعالى ما فطر الناس على شيء قبيح، وكيف يكون حب النساء في أصل الفطرة مذمومًا وهو وسيلة إتمام حكمته في بقاء نوع الإنسان، وكيف يكون حب المال مذمومًا لذاته، وقد جعل بذل المال من آيات الإيمان).

ثانيًا:

ضعف الارتباط بجيل الصحابة، والذي يمثل قمة التوازن والاعتدال والوسطية، والعدول إلى العصور التي برزت فيها بعض النماذج المتكلفة، حتى أنه قد يتبادر إلى أذهان البعض عند إطلاق مصطلحات السلف أو أهل السنة أنهم الأجيال المتأخرة عن الجيل الأول، هذه النماذج قد زهّدت الناس إلى حد ما في الجيل الأول، كيف لا وهم يسمعون قصصًا لم يعهدوا مثلها في جيل الصحابة.

كمن كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يصفر جسمه، أو يصلي في شدة البرد على السطح حتى لا يغلبه النعاس مع أن النبي كان هديه: ((أصلي وأنام)) [صحيح]، أو يمتنع عن الزواج لبلوغ منازل الصديقين مع أن النبي قال: ((وأتزوج النساء)) [صحيح]، فهؤلاء وإن كانوا أهل فضل وورع إلا أن الصحابة كانوا أفضل منهم.

قال عبد الله بن مسعود: (أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم!!)، قالوا: (لم يا أبا عبد الرحمن؟!)، قال: (لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الأخرى)، هذه المقالة لابن مسعود لا تفيد أفضلية الصحابة على غيرهم فحسب، أنما هي توضيح لمعنى الزهد في الدنيا؛ حيث أن الصحابة كان منهم الأغنياء ومن يشتغلون بالتجارة، ومن كان معروفًا بالمزاح ومن يتعلم اللغات، وأما النماذج التي ذكرناها فما ظهرت قبل القرن الثاني الهجري وربما كان ظهورها ردة فعل لإقبال الناس على الدنيا والركون إليها فتكوّن اتجاه مضاد.

ثالثًا:

قد لا يكون هذا السلوك مبنيًا على خلل مفاهيمي، ولكن ينبني على خلل بنيوي في الصفات الشخصية؛ فمثلًا قد يكون الشاب قبل التزامه خامل الهمة كسولًا يميل إلى الدعة والراحة، وبالتالي يكون ضعيف الإنتاج في حياته العملية من دراسة أو عمل، فعندما يتجه نحو الالتزام ترافقه تلك الصفات فيكون أحد الرجلين، إما أن تتغير صفاته إلى الأفضل ويصير إيجابيًا فعالًا وذلك سبب ومؤشر لصحة وقوة التزامه بكل ما تحمله كلمة الالتزام من معاني الشمول والتوازن والاعتدال والإيجابية، وإما أن يفتقد التزامه هذه المعاني فيبقى على حاله الأول فحينئذ يبرر لذاته وللآخرين فشله وبطالته وسلبيته بذلك الالتزام.

وقد يجد بغيته في الهروب من مواجهة الواقع المشحون الذي يؤثر الهرب منه على إصلاحه، كما هو الحال عند من يترك الجامعة بحجة الاختلاط؛ لأنه يضعف ويجبن عن التحرك الإيجابي والدعوة إلى الله في هذا الوسط الجامعي.

رابعًا:

بعض المحاضن التربوية والتي تسلك مع المُرَبى مسلكًا غير متوازن بين التجرد الروحي والارتكاس المادي، والانهماك في تعلية البناء الروحي ـ وإن كان أساسًا في التربية ـ دون الالتفات إلى جوانب التربية الأخرى بالإضافة إلى إهمال وضع المواعظ في موضعها المناسب والوقت المناسب والتوجيه إلى كيفية الجمع بين الدنيا والآخرة.

صديقي:

هذه المفاهيم المغلوطة هي التي أقعدت الأمة عن ركب الحضارة والرقي والنهضة، وأخرجتها من ميدان السباق الحضاري، وبعد أن تركنا الدنيا للغرب جعل منها سلاحًا يواجه به ديننا، و هذه المفاهيم هي التي أنجبت تلك النفوس المهترئة والأرواح الهزيلة، والهمم السافلة التي رضيت بالخنوع والاستسلام، وقبعت خلف أسوار ذاتها تنظر إلى الأحداث العظام في بلادة وخمول، وهذا مجال يطول الحديث عنه ليس هذا مقامه.

وأما أثر هذه المفاهيم المغلوطة على الشاب كفرد فحدث ولا حرج، يكفي أنها تغرقه في لجج الحيرة بين إلحاح الفطرة ومقتضى القناعات، فيرى الدربين متضادين وعليه أن يسلكهما معًا فكيف مع هذا التضاد؟! وفي الغالب يكون مآل من هذا حاله إلى النكوص والتراجع لأنه ضيق على نفسه الخناق وحرم نفسه من سعة الإسلام فصار أشبة بمن قال الله فيهم: ((ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)) [الحديد:27].

إن الشاب الذي يقتحم دائرة الغلو والانقطاع عن الدنيا يُقوي من ثقته بحاله فورة الإيمان الأولى، ولكن المسكين لا يفقه أن الإيمان يزيد وينقص والفتور طبيعة وجبلة، فعندما يعتريه يبدأ في التفكير في نداء فطرته؛ إنه يحتاج إلى الزواج، والزواج يحتاج إلي مادة، وتلك تحصل بالكد والعمل الذي يسرقه من ذلك الجو الإيماني، وحتى إن توافرت الإمكانيات المادية فالمجتمع يطالبه بوضع اجتماعي معين حتى يسمح له بالاندماج والانخراط فيه...

فربما يظل الشاب لمدة سنوات تضيع من عمره في ذلك الصراع، وفي الغالب وبعد فوات أزهى سنوات العطاء، يقرر الشاب أخيرًا أن عليه الدخول في معترك الحياة ويستحضر ساعتها كل النصوص التي تحث على العمل والكسب والزواج والتوسط والاعتدال وأن ذلك أمر محمود شرعًا.

ولأن الفتي قد تربى في مناخ القبو ولم يعتد خوض المعارك، ودأب على دفن رأسه في الرمال حال المواجهات وبالتالي لم يعرف للتوازن شكلًا؛ فمآله في الغالب إلى التراجع تحت ضغط الواقع ويكون التزامه مجرد مرحلة مر بها قد يتذكرها أحيانًا.

أخي الشاب: 

إن لم تكن أنت هذا الفتى فلا تكنه، وفي الحالتين أرى أنك تحتاج إلى ما تواصل به تعديل المسار حتى يصب ذلك في تنقية الأجواء الأسرية وصيانة روابطها؛ حيث أن للمفاهيم المغلوطة التي ذكرناها وما يتمخض عنها من سلوكيات أبلغ الأثر في طبيعة العلاقات الأسرية.

فلعلك قد أدركت الآن ما يعنيه (جسر من حرير)، إنه جسر صنعته تلك المفاهيم المشوهة المغلوطة، بديع منظره لكنه لا يقوى على حمل من يعبر عليه، فهذا الجسر لن يقوى على حملك إلى الآخرة.

وسوف أحاول جاهدًا إن شاء الله أن أصف للداء المذكور دواء، فانتظرني في الحلقة القادمة لنبحث سويًا عن (المفتاح: 143) وذاك هو العنوان.