تفسير بن كثير - سورة البقرة - الآية 135

الناقل : elmasry | المصدر : quran.al-islam.com

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا

القول في تأويل قوله تعالى : { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } يعني تعالى ذكره بقوله : { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين : كونوا هودا تهتدوا , وقالت النصارى لهم : كونوا نصارى تهتدوا . تعني بقولها تهتدوا : أي تصيبوا طريق الحق . كما : 1726 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة جميعا , عن ابن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس , قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه , فاتبعنا يا محمد تهتد ! وقالت النصارى مثل ذلك . فأنزل الله عز وجل فيهم : { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } . احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها , وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك : كونوا هودا أو نصارى تهتدوا , بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي تجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به , فإن دينه كان الحنيفية المسلمة , وندع سائر الملل التي نختلف فيها فينكرها بعضنا ويقر بها بعضنا , فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا على الاجتماع عليه كما لنا السبيل إلا الاجتماع على ملة إبراهيم . وفي نصب قوله : { بل ملة إبراهيم } أوجه ثلاثة : أحدها أن يوجه معنى قوله : { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } إلى معنى : وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية , لأنهم إذ قالوا : كونوا هودا أو نصارى إلى اليهودية والنصرانية دعوهم , ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة , فيكون معنى الكلام حينئذ : قل يا محمد لا نتبع اليهودية والنصرانية , ولا نتخذها ملة , بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا , ثم يحذف " نتبع " الثانية , ويعطف بالملة على إعراب اليهودية والنصرانية . والآخر أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى نتبع . والثالث أن يكون أريد : بل نكون أصحاب ملة إبراهيم , أو أهل ملة إبراهيم ; ثم حذف " الأهل " و " الأصحاب " , وأقيمت " الملة " مقامهم , إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام , كما قال الشاعر : حسبت بغام راحلتي عناقا وما هي ويب غيرك بالعناق يعني صوت عناق , فتكون الملة حينئذ منصوبة عطفا في الإعراب على اليهود والنصارى . وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء , باتباع ملة إبراهيم . وقرأ بعض القراء ذلك رفعا , فتأويله على قراءة من قرأ رفعا : بل الهدى ملة إبراهيم .

قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا

القول في تأويل قوله تعالى : { بل ملة إبراهيم حنيفا } . الملة : الدين . وأما الحنيف : فإنه المستقيم من كل شيء . وقد قيل : إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى إنما قيل له أحنف نظرا له إلى السلامة , كما قيل للمهلكة من البلاد : المفازة , بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة ; وكما قيل للديغ : السليم , تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك , وما أشبه ذلك . فمعنى الكلام إذا : قل يا محمد بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما . فيكون الحنيف حينئذ حالا من إبراهيم . وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك , فقال بعضهم : الحنيف : الحاج . وقيل : إنما سمي دين إبراهيم الإسلام الحنيفية , لأنه أول إمام لزم العباد الذين كانوا في عصره والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة اتباعه في مناسك الحج , والائتمام به فيه . قالوا : فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته , فهو حنيف مسلم على دين إبراهيم . ذكر من قال ذلك : 1727 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي , قال : ثنا القاسم بن الفضل , عن كثير أبي سهل , قال : سألت الحسن عن الحنيفية , قال : حج البيت . 1728 - حدثني محمد بن عبادة الأسدي , قال : ثنا عبد الله بن موسى , قال : أخبرنا فضيل , عن عطية في قوله : { حنيفا } قال : الحنيف : الحاج . * حدثني الحسين بن علي الصدائي , قال : ثنا أبي , عن الفضيل , عن عطية مثله . 1729 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا حكام بن سالم , عن عنبسة , عن محمد بن عبد الرحمن , عن القاسم بن أبي بزة , عن مجاهد , قال : الحنيف : الحاج . 1730 - حدثني الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا ابن التيمي , عن كثير بن زياد , قال : سألت الحسن عن الحنيفية , قال : هو حج هذا البيت . قال ابن التيمي : وأخبرني جويبر , عن الضحاك بن مزاحم مثله . * حدثنا ابن بشار , قال : ثنا ابن مهدي , قال : ثنا سفيان , عن السدي , عن مجاهد : { حنفاء } قال : حجاجا . 1731 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { حنيفا } قال : حاجا . 1732 - حدثنا عن وكيع , عن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن القاسم , قال : كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون حنفاء , فأنزل الله تعالى ذكره : { حنفاء لله غير مشركين به } . 22 31 وقال آخرون : الحنيف : المتبع , كما وصفنا قبل من قول الذين قالوا : إن معناه الاستقامة . ذكر من قال ذلك : 1733 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { حنفاء } قال : متبعين . وقال آخرون : إنما سمي دين إبراهيم الحنيفية , لأنه أول إمام سن للعباد الختان , فاتبعه من بعده عليه . قالوا : فكل من اختتن على سبيل اختتان إبراهيم , فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام , فهو حنيف على ملة إبراهيم . وقال آخرون : بل ملة إبراهيم حنيفا , بل ملة إبراهيم مخلصا , فالحنيفة على قولهم : المخلص دينه لله وحده . ذكر من قال ذلك : 1734 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { واتبع ملة إبراهيم حنيفا } يقول : مخلصا . وقال آخرون : بل الحنيفية الإسلام , فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها فهو حنيف . قال أبو جعفر : الحنيف عندي هو الاستقامة على دين إبراهيم واتباعه على ملته . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت , لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء , وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله : { ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } فكذلك القول في الختان ; لأن الحنيفية لو كانت هي الختان لوجب أن يكون اليهود حنفاء , وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } . 3 67 فقد صح إذا أن الحنيفية ليست الختان وحده , ولا حج البيت وحده , ولكنه هو ما وصفنا من الاستقامة على ملة إبراهيم وأتباعه عليها والائتمام به فيها . فإن قال قائل : فكيف أضيف " الحنيفية " إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم ؟ قيل : إن كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفا متبعا طاعة الله , ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدا منهم إماما لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة , كالذي فعل من ذلك بإبراهيم , فجعله إماما فيما بينه من مناسك الحج والختان , وغير ذلك من شرائع الإسلام , تعبدا به أبدا إلى قيام الساعة , وجعل ما سن من ذلك علما مميزا بين مؤمني عباده وكفارهم والمطيع منهم له والعاصي , فسمي الحنيف من الناس حنيفا باتباعه ملته واستقامته على هديه ومنهاجه , وسمي الضال عن ملته بسائر أسماء الملل , فقيل : يهودي ونصراني ومجوسي , وغير ذلك من صنوف الملل .

وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

وأما قوله : { وما كان من المشركين } يقول : إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام . ولا كان من اليهود . ولا من النصارى , بل كان حنيفا مسلما .