سورة المائدة - الوحدة الثانية مواقف أهل الكتاب من مواثيقهم - في ظلال القرآن

الناقل : elmasry | المصدر : www.khayma.com

مقدمة الوحدة

وحدة دين الله في نهاية الدرس الماضي ذكر الله المسلمين بميثاقهم الذي واثقهم به ; وذكرهم نعمته التي أنعم بها عليهم في هذا الميثاق ذلك كي يؤدوا من جانبهم ما استحفظوا عليه ; ويتقوا أن ينقضوا ميثاقهم معه فالآن يستغرق هذا الدرس كله في استعراض مواقف أهل الكتاب من مواثيقهم ; واستعراض ما حل بهم من العقاب نتيجة نقضهم لهذه المواثيق ; لتكون هذه من جانب تذكرة للجماعة المسلمة مماثلة من بطون التاريخ ومن واقع أهل الكتاب قبلهم وليكشف الله من جانب عن سنته التي لا تتخلف ولا تحابي أحدا ومن الجانب الثالث ليكشف عن حقيقة أهل الكتاب وحقيقة موقفهم ; وذلك لإبطال كيدهم في الصف المسلم ; وإحباط مناوراتهم ومؤامراتهم ; التي يلبسونها ثوب التمسك بدينهم ; وهم في الحقيقة قد نقضوا هذا الدين من قبل ; ونقضوا ما عاهدوا الله عليه ويحتوى هذا الدرس على استعراض ميثاق الله مع قوم موسى عند إنقاذهم من الذل في مصر ; ثم نقضهم لهذا الميثاق ; وما حاق بهم نتيجة نقضهم له ; وما أصابهم من اللعنة والطرد من مجال الهدى والنعمة وعلى استعراض ميثاق الله مع الذين قالوا إنا نصارى ونتيجة نقضهم له من إغراء العداوة بين فرقهم المختلفة إلى يوم القيامة ثم على استعراض موقف اليهود أمام الأرض المقدسة التي أعطاهم الله ميثاقه أن يدخلوها فنكصوا على أعقابهم وجبنوا عن تكاليف ميثاق الله معهم وقالوا لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ويتخلل هذا الاستعراض للمواثيق ومواقف أهل الكتاب منها كشف لما وقع في عقائد اليهود والنصارى من انحراف نتيجة نقضهم لهذه المواثيق ; التي عاهدهم الله فيها على توحيدة والإسلام له ; في مقابل ما أعطاهم من النعم وما ضمن لهم من التمكين ; فأبوا ذلك كله على أنفسهم ; فباءوا باللعنة والفرقة والتشريد كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة ; وجاءهم به الرسول الأخير ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم فنسوا ولبس عليهم الأمر فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير فسقطت الحجة وقام الدليل ومن خلال هذه الدعوة تتبين وحدة دين الله في أساسه ووحده ميثاق الله مع جميع عباده أن يؤمنوا به ويوحدوه ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم وينصروهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وينفقوا في سبيل الله من رزق الله فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة ويقرر العبادة الصحيحة ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح فالآن نأخذ في استعراض هذه الحقائق كما وردت في السياق القرآني الكريم

 

الدرس الأول نقض بني إسرائيل لميثاقهم وعقابهم

ولقد أخذا الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم ; وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم ; وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ; فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقا بين طرفين ; متضمنا شرطا وجزاء والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده لقد كان عقدا مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر الذين يمثلون فروع بيت يعقوب وهو إسرائيل وهم ذرية الأسباط أحفاد يعقوب وعدتهم اثنا عشر سبطا وكان هذا نصه وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل إني معكم وهو وعد عظيم فمن كان الله معه فلا شيء إذن ضده ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود في الحقيقة له ولا أثر ومن كان الله معه فلن يضل طريقه فإن معية الله سبحانه تهديه كما أنها تكفيه ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن وقد وصل وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم ولكن الله سبحانه لم يجعل معيته لهم جزافا ولا محاباة ; ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده إنما هو عقد فيه شرط وجزاء شرطه إقامة الصلاة لا مجرد أداء الصلاة إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب ; وعنصرا تهذيبيا وتربويا وفق المنهج الرباني القويم ; وناهيا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر وإيتاء الزكاة اعترافا بنعمة الله في الرزق ; وملكيته ابتداء للمال ; وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه وهو المالك والناس في المال وكلاء وتحقيقا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن ; وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته ; كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة ; ويحول دونه منهج الله في توزيع المال ; وفي دورة الاقتصاد والإيمان برسل الله كلهم دون تفرقة بينهم فكلهم جاء من عند الله ; وكلهم جاء بدين الله وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعا وكفر بالله الذي بعث بهم جميعا وليس هو مجرد الإيمان السلبي إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل وشد أزرهم فيما ندبهم الله له وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به وليقيمه في الأرض وليحققه في حياة الناس فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي ولا مجرد شعائر تعبدية إنما هو منهج واقعي للحياة ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة وتعزيز وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه وإلا فما وفي المؤمن بالميثاق وبعد الزكاة إنفاق عام يقول عنه الله سبحانه إنه قرض لله والله هو المالك وهو الواهب ولكنه فضلا منه ومنة يسمي ما ينفقه الموهوب له متى أنفقة لله قرضا لله ذلك كان الشرط فأما الجزاء فكان تكفير السيئات والإنسان الذي لا يني يخطى ء ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة وتدارك لضعفة وعجزه وتقصيره وجنة تجري من تحتها الأنهار وهي فضل خالص من الله لا يبلغه الإنسان بعمله إنما يبلغه بفضل من الله حين يبذل الجهد فيما يملك وفيما يطيق وكان هنالك شرطا جزائي في الميثاق فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فلا هدى له بعد ذلك ولا أوبة له من الضلال بعد إذ تبين له الهدى وتحدد معه العقد ووضح له الطريق وتأكد له الجزاء ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل عمن وراءهم وقد ارتضوه جميعا ; فصار ميثاقا مع كل فرد فيهم وميثاقا مع الأمة المؤلفة منهم فماذا كان من بني إسرائيل لقد نقضوا ميثاقهم مع الله قتلوا أنبياءهم بغير حق وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم وحرفوا كتابهم التوراة ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ووقفوا من خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام موقفا لئيما ماكرا عنيدا وخانوا مواثيقهم معه فباءوا بالطرد من هدى الله وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به وصدق الله فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم لعنة تبدو على سيماهم إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية ومهما حاولوا مكرا إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى عليه السلام إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم وهو خطاب للرسول ص يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله ص وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة ثم في الجزيرة كلها وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ورفع عنهم الاضطهاد وعاملهم بالحسنى ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه ولكنهم كانوا دائما كما كانوا على عهد الرسول عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة ولا تني تمكر وتغدر إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد وتآمروا مع كل عدو لهم حتى تحين الفرصة فينقضوا عليهم قساة جفاة لا يرحمونهم ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة أكثرهم كذلك كما وصفهم الله سبحانه في كتابه وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله ص في المدينة تعبير طريف ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم الفعلة الخائنة والنية الخائنة والكلمة الخائنة والنظرة الخائنة يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة خائنة لتبقى الخيانة وحدها مجردة تملأ الجو وتلقي ظلالها وحدها على القوم فهذا هو جوهر جبلتهم وهذا هو جوهر موقفهم مع الرسول ص ومع الجماعة المسلمة إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ; وتسمع توجيهاته ; وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ; وحين اتخذت القرآن مهجورا وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة وتعاويذ ورقى وأدعية أصابها ما أصابها ولقد كان الله سبحانه يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه حين نقضوا ميثاقهم مع الله لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ناقض للعقد فلما غفلت عن هذا التحذير وسارت في طريق غير الطريق نزع الله منها قيادة البشرية ; وتركها هكذا ذيلا في القافلة حتى تثوب إلى ربها ; وحتى تستمسك بعهدها وحتى توفي بعقدها فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة وعد الله لا يخلف الله وعده ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين والعفو عن قبائحهم إحسان والصفح عن خيانتهم إحسان ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان فأمر الله نبيه ص أن يجليهم عن المدينة ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها وقد كان

 

الدرس الثاني نقض النصارى لميثاقهم وعقابهم

كذلك يقص الله سبحانه على نبيه ص وعلى الجماعة المسلمة أنه أخذ ميثاق الذين قالوا إنا نصارى من أهل الكتاب ولكنهم نقضوا ميثاقهم كذلك فنالهم جزاء هذا النقض للميثاق ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ; فنسوا حظا مما ذكروا به ; فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ونجد هنا تعبيرا خاصا ذا دلالة خاصة ومن الذين قالوا إنا نصارى ودلالة هذا التعبير أنهم قالوها دعوى ولم يحققوها في حياتهم واقعا ولقد كان أساس هذا الميثاق هو توحيد الله وهنا كانت نقطة الانحراف الأصيلة في خط النصرانية التاريخي وهذا هو الحظ الذي نسوه مما ذكروا به ; ونسيانه هو الذي قاد بعد ذلك إلى كل انحراف كما أن نسيانه هو الذي نشأ من عنده الخلاف بين الطوائف والمذاهب والفرق التي لا تكاد تعد في القديم وفي الحديث كما سنبين إجمالا بعد قليل وبينها ما بينها من العداوة والبغضاء ما يخبرنا الله سبحانه أنه باق فيهم إلى يوم القيامة جزاء وفاقا على نقض ميثاقهم معه ونسيانهم حظا مما ذكروا به ويبقى جزاء الآخرة عندما ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ; وعندما يجزيهم وفق ما ينبئهم به مما كانوا يصنعون ولقد وقع بين الذين قالوا إنا نصارى من الخلاف والشقاق والعداوة والبغضاء في التاريخ القديم والحديث مصداق ما قصه الله سبحانه في كتابه الصادق الكريم ; وسال من دمائهم على أيدي بعضهم البعض ما لم يسل من حروبهم مع غيرهم في التاريخ كله سواء كان ذلك بسبب الخلافات الدينية حول العقيدة ; أو بسبب الخلافات على الرياسة الدينية ; أو بسبب الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي خلال القرون الطويلة لم تسكن هذه العداوات والخلافات ولم تخمد هذه الحروب والجراحات وهي ماضية إلى يوم القيامة كما قال أصدق القائلين جزاء على نقضهم ميثاقهم ونسيانهم حظا مما ذكروا به من عهد الله وأول بند فيه هو بند التوحيد الذي انحرفوا عنه بعد فترة من وفاة المسيح عليه السلام لأسباب لا مجال هنا لعرضها بالتفصيل

 

الدرس الثالث مطالبة أهل الكتاب بالإسلام وإلا فهم كافرون

وحين يبلغ السياق هذا الموضع من استعراض موقف اليهود والنصارى من ميثاقهم مع الله وجهوا الخطاب لأهل الكتاب جميعا هؤلاء وهؤلاء لإعلانهم برسالة خاتم النبيين ; وإنها جاءت إليهم كما جاءت للعرب الأميين وللناس أجمعين فهم مخاطبون بها مأمورون باتباع الرسول الأخير وهذا طرف من ميثاق الله معهم كما سلف وأن هذا الرسول الأخير قد جاء يكشف لهم عن كثير مما كانوا يخفونه من الكتاب الذي بين أيديهم ; والذي استحفظوا عليه فنقضوا عهدهم مع الله فيه ; ويعفو كذلك عن كثير مما أخفوه ولم تعد هناك ضرورة له في الشريعة الجديدة ثم يتعرض لبعض الانحرافات التي جاء الرسول الأخير ليقومها في معتقداتهم كقول النصارى إن المسيح عيسى بن مريم هو الله وكقولهم هم واليهود نحن أبناء الله وأحباؤه ويختم هذا النداء بأنه لن تكون لهم حجة عندالله بعد الرسالة الكاشفة المبينة المنيرة ; ولن يكون لهم أن يقولوا إنه مرت عليهم فترة طويلة بعد الرسالات فنسوا ولبس الأمر عليهم يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ; ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والارض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ; ولله ملك السماوات والارض وما بينهما وإليه المصير يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير لقد كان أهل الكتاب يستكثرون أن يدعوهم إلى الإسلام نبي ليس منهم نبي من الأميين الذين كانوا يتعالون عليهم من قبل ويتعالمون ; لأنهم هم أهل الكتاب وهؤلاء أميون فلما أراد الله الكرامة لهؤلاء الأميين بعث منهم خاتم النبيين وجعل فيهم الرسالة الأخيرة الشاملة للبشر أجمعين وعلم هؤلاء الأميين فإذا هم أعلم أهل الأرض ; وأرقاهم تصورا واعتقادا ; وأقومهم منهجا وطريقا وأفضلهم شريعة ونظاما وأصلحهم مجتمعا وأخلاقا وكان هذا كله من فضل الله عليهم ; ومن إنعامه بهذا الدين وارتضائه لهم وما كان للأميين أن يكونوا أوصياء على هذه البشرية لولا هذه النعمة ; وما كان لهم وليس لهم بعد من زاد يقدمونه للبشرية إلا ما يزودهم به هذا الدين وفي هذا النداء الإلهي لأهل الكتاب يسجل عليهم أنهم مدعوون إلى الإسلام مدعوون للإيمان بهذا الرسول ونصره وتأييده كما أخذ عليهم ميثاقه ويسجل عليهم شهادته سبحانه بأن هذا النبي الأمي هو رسوله إليهم كما أنه رسول إلى العرب وإلى الناس كافة فلا مجال لإنكار رسالته من عند الله أولا ; ولا مجال للادعاء بأن رسالته مقتصرة على العرب أو ليست موجهة إلى أهل الكتاب ثانيا يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير فهو رسول الله إليكم ودوره معكم أن يبين لكم ويوضح ويكشف ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب الله الذي معكم سواء في ذلك اليهود والنصارى وقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين التوحيد وأخفى اليهود كثيرا من أحكام الشريعة ; كرجم الزاني وتحريم الربا كافة كما أخفوا جميعا خبر بعثة النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل كما أنه ص يعفو عن كثير مما أخفوه أو حرفوه ; مما لم يرد به شرعه فقد نسخ الله من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة في علم الله من الزمان قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة وتستقر وقد أكملها الله وأتم بها نعمته ورضيها للناس دينا فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول ووظيفته في الحياة البشرية وما قدر الله من أثره في حياة الناس قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب القرآن وعلى طبيعة هذا المنهج الإسلام من أنه نور إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص يجدها بمجرد أن يحد حقيقة الإيمان في قلبه نور نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم ثقلة الطين في كيانه وظلمة التراب وكثافة اللحم والدم وعرامة الشهوة والنزوة كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى تخف الثقلة وتشرق الظلمة وترق الكثافة وترف العرامة واللبس والغبش في الرؤية والتأرجح والتردد في الخطوة والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق نور وكتاب مبين وصفان للشيء الواحد لهذا الذي جاء به الرسول الكريم يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم لقد رضي الله الإسلام دينا وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له يهديه سبل السلام وما أدق هذا التعبير وأصدقه ; إنه السلام هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها سلام الفرد وسلام الجماعة وسلام العالم سلام الضمير وسلام العقل وسلام الجوارح سلام البيت والأسرة وسلام المجتمع والأمة وسلام البشر والإنسانية السلام مع الحياة والسلام مع الكون والسلام مع الله رب الكون والحياة السلام الذي لا تجده البشرية ولم تجده يوما إلا في هذا الدين ; وإلا في منهجه ونظامه وشريعته ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته حقا إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه من يتبع رضوان الله سبل السلام سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشى ء من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير وحرب القلق الناشى ء من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام إذ كانوا يذوقونه مذاقا شخصيا ; ويلتذون هذا المذاق المريح وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة ; والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا ; ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا وتحطم أخلاقنا وسلوكنا وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا بينما نملك الدخول في السلم التي منحها الله لنا ; حين نتبع رضوانه ; ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا إننا نعاني من ويلات الجاهلية ; والإسلام منا قريب ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدني بالذي هو خير ونشتري فيها الضلالة بالهدى ونؤثر فيها الحرب على السلام إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية قبل أن ننقذ نحن أنفسنا وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه والجاهلية كلها ظلمات ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين والنور هو النور هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفا في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور ويهديهم إلى صراط مستقيم مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات إن الله الذي خلق الإنسان وفطرته ; وخلق الكون ونواميسه ; هو الذي وضع للإنسان هذا المنهج ; وهو الذي رضي للمؤمنين هذا الدين فطبيعي وبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم حيث لا يهديهم منهج غيره من صنع البشر العاجزين الجهال الفانين وصدق الله العظيم الغني عن العالمين الذي لا يناله من هداهم أو ضلالهم شيء ولكنه بهم رحيم ذلك هو الصراط المستقيم فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر ; وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب التي تخفي نصاعة التوحيد ; والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير إن الذي جاء به عيسى عليه السلام من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات ; بسبب دخول الوثنيين في النصرانية ; وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها ولم تجيء هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة ; ولكنها دخلت على فترات ; وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى ; حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير الذي تحار فيه العقول حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح عليه السلام في تلامذته وفي أتباعهم وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت وهو إنجيل برنابا يتحدث عن عيسى عليه السلام بوصفه رسولا من عند الله ثم وقعت بينهم الاختلافات فمن قائل إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل ومن قائل إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة ومن قائل إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب ولكنه على هذا مخلوق لله ومن قائل إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام ميلادية مجمع نيقية الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية وكانوا مختلفين في الآراء والأديان فمنهم من كان يقول إن المسيح وأمه إلهان من دون الله وهم البربرانية ويسمون الريمتيين ومنهم من كان يقول إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها وهي مقالة سابليوس وشيعته ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب لأن الكلمة دخلت في أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهي مقالة إليان وأشياعه ومنهم من كان يقول إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره وإن ابتداء الابن من مريم وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ولذلك سمي ابن الله ويقولون إن الله جوهر قديم واحد وأقنوم واحد ويسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم البوليقانيون ومنهم من كان يقول إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه وزعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين وأنكروا بطرس ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا وقد اختار الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم وشرد أصحاب سائر المذاهب ; وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده وناسوتية المسيح وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه وأنه لم يوجد قبل أن يولد وأنه وجد من لا شيء أو من يقول إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب وكل من يؤمن أنه خلق أو من يقول إنه قابل للتغيير ويعتريه ظل دوران ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع آريوس وقد غلبت على القسطنطينية وأنطاكية وبابل والإسكندرية ومصر ثم سار خلاف جديد حول روح القدس فقال بعضهم هو إله وقال آخرون ليس بإله فاجتمع مجمع القسطنطينية الأول سنة ليحسم الخلاف في هذا الأمر وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع بناء على مقالة أسقف الإسكندرية قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله وليس روح الله شيئا غير حياته فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق فقد قلنا إن روح الله مخلوق وإذا قلنا إن روح الله مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة وإذا قلنا إن حياته مخلوقة فقد زعمنا أنه غير حي وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به ومن كفر به وجب عليه اللعن وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية وتم الثالوث من الآب والابن وروح القدس ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية أو اللاهوت والناسوت كما يقولون فقد رأى نسطور بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ; وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم فمريم أم الإنسان في المسيح وليست أم الإله ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم كما نقله عنه ابن البطريق إن هذا الإنسان الذي يقول إنه المسيح بالمحبة متحد مع الابن ويقال إنه الله وابن الله ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة ثم يقول إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة أو هو ملهم من الله فلم يرتكب خطيئة وما أتى أمرا إدًا وخالفه في هذا الرآي أسقف رومه وبطريرك الإسكندرية وأساقفة أنطاكية فاتفقوا على عقد مجمع رابع وانعقد مجمع أفسس سنة ميلادية وقرر هذا المجمع كما يقول ابن البطريق أن مريم العذراء والدة الله وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين متوحد في الأقنوم ولعنوا نسطور ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد انعقد له مجمع أفسس الثاني وقرر أن المسيح طبيعة واحدة اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت ولكن هذا الرأي لم يسلم ; واستمرت الخلافات الحادة ; فاجتمع مجمع خلقيدونية سنة وقرر أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة وأن اللاهوت طبيعة وحدها والناسوت طبيعه وحدها التقتا في المسيح ولعنوا مجمع أفسس الثاني ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع ووقعت بين المذهب المصري المنوفيسية والمذهب الملوكاني الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة سير ت و أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام في مطالع تفسير سورة آل عمران ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح ; والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف وما تزال إلى اليوم ثائرة وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية ; ولتقول كلمة الفصل ; ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة كما سيجيء في السورة ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه وبين ذات عيسى عليه السلام وذات أمه وكل ذات أخرى في نصاعة قاطعة حاسمة فذات الله سبحانه واحدة ومشيئته طليقة وسلطانه متفرد ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا وهو سبحانه مالك كل شيء وخالق كل شيء والخالق غير المخلوق وكل شيء مخلوق ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية ووضوحها وبساطتها وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية في تقرير حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين بلا غبش ولا شبهة ولا غموض واليهود والنصارى يقولون إنهم أبناء الله وأحباؤه وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه فزعموا لله سبحانه أبوة على تصور من التصورات إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح وهي أيا كانت تلقي ظلا على عقيدة التوحيد ; وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور ولا تستقيم الحياة إلا بتقريره كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية ; وتتوحد الجهة التي تشرع للناس ; وتضع لهم القيم والموازين والشرائع ; والقوانين والنظم والأوضاع دون أن تتداخل الاختصاصات بتداخل الصفات والخصائص وتداخل الألوهية والعبودية فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه كانوا يقولون تبعا لهذا إن الله لن يعذبهم بذنوبهم وإنهم لن يدخلوا النار إذا دخلوا إلا أياما معدودات ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه وأنه سبحانه يحابي فريقا من عباده فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة ويقرر عدل الله الذي لا يحابي ; كما يقرر بطلان ذلك الادعاء قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان يقرر بطلان ادعاء البنوة ; فهم بشر ممن خلق ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه لا بسبب بنوة أو صلة شخصية ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء وأن مصير كل شيء إليه ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير والمالك غير المملوك تتفرد ذاته سبحانه وتتفرد مشيئته ويصير إليه الجميع وينهي هذا البيان بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام المصير وجها لوجه بلا غبش ولا عذر ولا غموض يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير وبهذه المواجهة الحاسمة لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم فالله سبحانه يقول يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنًا ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل ; يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف فقد جاءهم الآن بشير ونذير ثم يذكرهم أن الله لا يعجزة شيء لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون والله على كل شيء قدير وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب ; فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي ; وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية ; وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا إلى الصراط المستقيم

الدرس الرابع قصة تيه بني إسرائيل

وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم موسى عليه السلام على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم الله ; وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم ; ; وكيف نقضوه ; وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق الوثيق وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ; وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ; وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ; وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين إنها حلقة من قصة بني إسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل ذلك لحكمة متشعبة الجوانب من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة ; وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم ; كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها ما طبيعتهم وما تاريخهم وما وسائلهم وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ولقد علم الله أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ; كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ; ووسائلهم كلها مكشوفة ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة ; ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ; ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ; ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها بتاريخ القوم وتقلبات هذا التاريخ ; وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة إلى حصيلة تجاربها ; وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون ولتتقي بصفة خاصة مزالق الطريق ومداخل الشيطان وبوادر الانحراف على هدى التجارب الأولى ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها ; وتنحرف أجيال منها ; وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل ; فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم ; يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها وينفض عنها الركام لجدته عليها وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة فأما القلوب التي نوديت من قبل فالنداء الثاني لا تكون له جدته ولا تكون له هزته ; ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف وإلى الصبر الطويل وجوانب شتى لحكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل وعرضها مفصلة على الأمة المسلمة وارثة العقيدة والدين ; القوامة على البشر أجمعين جوانب شتى لا نملك هنا المضي معها أكثر من هذه الإشارات السريعة لنعود إلى هذه الحلقة في هذا الدرس في هذه السورة وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين وإننا لنلمح في كلمات موسى عليه السلام إشفاقه من تردد القوم ونكوصهم على الأعقاب فلقد جربهم من قبل في مواطن كثيرة في خط سير الرحلة الطويل جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر ; وحررهم من الذل والهوان باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر وأغرق لهم فرعون وجنده فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم فيقولون يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي التي سرقوها معهم من نساء المصريين عجلا ذهبا له خوار ; ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر أرض الذل بالنسبة لهم فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص والهدف الأسمى الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون وجربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ فذبحوها وما كادوا يفعلون وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم بعد كل هذه الآلاء وكل هذه المغفرة للخطايا ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رؤوسهم وظنوا أنه واقع بهم لقد جربهم في مواطن كثيرة طوال الطريق الطويل ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته لقد جربهم فحق له أن يشفق وهو يدعوهم دعوته الأخيرة فيحشد فيها ألمع الذكريات وأكبر البشريات وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين نعمة الله ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكا وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحدا من العالمين حتى ذلك التاريخ والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله فهي إذن يقين وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده وهذا وعده الذي هم عليه قادمون والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين ولكن إسرائيل هي إسرائيل الجبن والتمحل والنكوص على الأعقاب ونقض الميثاق قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ; وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إن جبلة يهود لتبدو هنا على حقيقتها مكشوفة بلا حجاب ولو رقيق من التجمل ذلك أنهم أمام الخطر ; فلا بقية إذن من تجمل ; ولا محاولة إذن للتشجع ولا مجال كذلك للتمحل إن الخطر ماثل قريب ; ومن ثم لا يعصمهم منه حتى وعد الله لهم بأنهم أصحاب هذه الأرض وأن الله قد كتبها لهم فهم يريدونه نصرا رخيصا لا ثمن له ولا جهد فيه نصرا مريحا يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ولكن تكاليف النصر ليست هكذا كما تريدها يهود وهي فارغة القلوب من الإيمان قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين هنا تبرز قيمة الإيمان بالله والخوف منه فهذان رجلان من الذين يخافون الله ينشيء لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة ; وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين مخافته جل جلاله ومخافة الناس والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده ; ولا يخاف شيئا سواه ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب أقدموا واقتحموا فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم ; وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فعلى الله وحده يتوكل المؤمن وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته ; وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه ولكن لمن يقولان هذا الكلام لبني إسرائيل قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون ; ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين ; بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن فيحرج بأنه ناكل عن الواجب فيسب هذا الواجب ; ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون هكذا في وقاحة العاجز الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان فاذهب أنت وربك فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال إنا ها هنا قاعدون لا نريد ملكا ولا نريد عزا ولا نريد أرض الميعاد ودونها لقاء الجبارين هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام نهاية الجهد الجهيد والسفر الطويل واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل نعم ها هي ذي نهاية المطاف نكوصا عن الأرض المقدسة وهو معهم على أبوابها ونكولا عن ميثاق الله وهو مرتبط معهم بالميثاق فماذا يصنع وبمن يستجير قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين دعوة فيها الألم وفيها الالتجاء وفيها الاستسلام وفيها بعد ذلك المفاصلة والحسم والتصميم وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول وفي إيمان النبي الكليم وفي عزم المؤمن المستقيم لا يجد متوجها إلا لله يشكو له بثه ونجواه ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق الله الوثيق ما يربطه بهم نسب وما يربطه بهم تاريخ وما يربطه بهم جهد سابق إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى الله وهذا الميثاق مع الله وقد فصلوه فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق وما عاد يربطه بهم رباط إنه مستقيم على عهد الله وهم فاسقون إنه مستمسك بميثاق الله وهم ناكصون هذا هو أدب النبي وهذه هي خطة المؤمن وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون لا جنس لا نسب لا قوم لا لغة لا تاريخ لا وشيجة من كل وشائج الأرض ; إذا انقطعت وشيجة العقيدة ; وإذا اختلف المنهج والطريق واستجاب الله لنبيه وقضى بالجزاء العدل على الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين وهكذا أسلمهم الله وهم على أبواب الأرض المقدسة للتيه ; وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة ; وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل جيل يعتبر بالدرس وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود جيل غير هذا الجيل الذي أفسدة الذل والاستعباد والطغيان في مصر فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب ويتركهم السياق هنا في التيه لا يزيد على ذلك وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني على طريقة القرآن في التعبير ولقد وعى المسلمون هذا الدرس مما قصه الله عليهم من القصص فحين واجهوا الشدة وهم قلة أمام نفير قريش في غزوة بدر قالوا لنبيهم ص إذن لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون لكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة ; وبعض جوانب حكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل