علماء المغرب العربي مؤكدون لذواتهم

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. مصطفى السعدني | المصدر : www.maganin.com

أحيانا يكون الإنسان مُتأكداً من العواقب المريرة لقولة "لا"، وقد تكون العاقبة هي رقبة الإنسان "أقصد أنه قد يُقتل كثمن لقولة "لا"، ولكن هذا الشخص الأبي الشجاع المؤكد لذاته يضحي بحياته رخيصة في سبيل تأكيده لذاته!، ولا يأبه لمن يوجه له قول "لا" ولو كان خليفة قوياً مثل سليمان بن عبد الملك!!؛ والأقوال التالية تتفق مع الجانب العملي في مفاهيم الحياة لدى قائد عظيم كان الرائد في نشر الإسلام بمشارق الأرض، فرحم الله قتيبة بن مسلم.

يقول عنترة بن شدَّاد:
وَلَقَدْ أَبِيتُ على الطَّى وأَظَلُّهُ        حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَأْكَلِ

ويقول أبوفراس الحمداني:
تَهُونُ عَلَـيْنَا فـي الـمَعَالِـي نُفُوسُنَا            ومَنْ خَطَبَ الـحَسْنَاءَ لَـمْ يُغْلِها الْـمَهْرُ

ويقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: وَالله لَوْ عَلِـمْتُ أَنَّ شُرْبَ الـماءِ يَثْلُـمُ مُرُوءَتِـي ما شَرِبْتُهُ طُولَ حَيَاتِـي.

ويقول المثل العربي:
الـمَنِـيَّةُ ولا الدَّنِـيَّةُ.
والنَّارُ ولا العارُ.
الإباءُ النَّبِـيلُ يُتِـيحُ لِلْـمَقْدِرَةِ أَنْ تَشِعَّ أَكْثَرَ مِنَ التَّواضُع. ريختر

وبعد أن عرفنا قصة البطل قتيبة بن مسلم، فاتح المشرق، تعالوا نقرأ معاً عن بعض أبطال وعلماء المغرب العربي، ولكن في فترة من فترات الضعف الشديد وضياع المسلمين بالأندلس، فقيد الله عز وجل عدة أبطال في بلاد المغرب الإسلامي، نذكر منهم المعتمد بن عباد ملك اشبيلية وقرطبة، ويوسف بن تاشفين زعيم دولة المرابطين ببلاد المغرب، وبعض علماء الأندلس، وعلى رأسهم أبو بكر ابن أدهم:

ابن عباد وابن تاشفين، وأهل المغرب الإسلامي يقولون "لا":
ولنبدأ الحديث معا عن يوسف بن تاشفين بن توقورت الصنهاجي، ويُكنى أبا يعقوب ويلقب بأمير المسلمين وناصر الدين، ويعتبر ابن تاشفين من أهم ملوك دولة المرابطين بالمغرب العربي والأندلس، وإليه يُنسب الفضل دائما في توحيد ممالك الطوائف بالأندلس؛ فهو الذي جعل الممالك الإسلامية بالأندلس تحت قبضة مراكش، عاصمة ملكه، والتي أسسها بالمغرب، وذلك بعد أن كاد الفرنجة يحتلون الأندلس تماما على يد ملك قشتالة الطامع المخادع "ألفونسو بن فرديناند"، والذي تمكن من احتلال أهم مدن الأندلس وأكثرها تحصينا "طليطلة" أو "توليدو" الحالية سنة 478 هجرية، وذلك بعد حوالي أربعمائة عاما من الفتح الإسلامي للأندلس على يد طارق بن زياد عام 92 من الهجرة النبوية الشريفة. ويقترن اسم يوسف بن تاشفين بموقعة من أهم المواقع الإسلامية قاطبة في بلاد الأندلس ألا وهي موقعة "الزلاقة"، هذه الموقعة التي نحن بصدد تفصيل الحديث عنها في هذا المقام.

دولة المرابطين وابن تاشفين:
ذكروا أن يحيى بن إبراهيم بن توقورت حج، وهو كبير قبائل الصحراويين في عام أربعين وأربعمائة من الهجرة، ومر في طريقه للحج على القيروان (بتونس حالياً)، وهي موفورة بالعلماء، وتعرف على الفقيه أبي عمران الفاسي، ورغب إليه أن ينظر له في طلب من يستصحبه ليعلم قومه ويفقههم، فخاطب له فقيهاً من فقهاء المغرب الأقصى اسمه "واجاج"، واختار له "واجاج" أحد شيوخ القيروان هو عبد الله بن ياسين، وبالفعل عاد عبد الله بن ياسين مع يحي بن إبراهيم إلى المغرب، ولم يضيع عبد الله بن ياسين وقتاً، فبدأ يعمل على تأليف قلوب أهل المغرب، فاجتمع عليه سبعون شيخاً من نبهائهم ليعلمهم، فانقادوا له انقياداً كبيراً، وتناسل الناس، فضخم العدد، وغزا معهم قبائل الصحراء.

وتملك الصحراويون كل المغرب، وكان الأمير أبو بكر بن عمر كبير المريدين للشيخ ابن ياسين، وبعد موت ابن ياسين حمل الأمير أبو بكر راية الدعوة لتعاليم الدين بين القبائل من البربر وأهل الصحراء وموريتانيا وأحراش أفريقيا، وقدم الأمير أبو بكر ابن عمه يوسف بن تاشفين بن إبراهيم، على عسكر كبير، فيهم أشياخ لمتونة، وقبائل البربر، وأصبح ابن تاشفين هو الحاكم بأمره في كل أنحاء المغرب كله، ودانت له كل القبائل، وأظهر ابن تاشفين قدرة فائقة على قيادة تلك القبائل وتولي شئون الدولة، أما ابن عمه الأمير أبو بكر فقد توجه لنشر "دعوة المرابطين" في أحراش غرب ووسط أفريقيا، وكانوا يعيشون في خيام بالصحراء لفترات طويلة، وهذا هو السبب في أن أطلقوا على أنفسهم اسم "المرابطين"، وفي تلك الأثناء بني يوسف بن تاشفين مدينة مراكش وحصنها، وتحبب إلى الناس، واستكثر من الجنود والقوة، وجبي الأموال، واستتب الحكم لابن تاشفين في كل أنحاء المغرب.

ولما رجع الأمير أبو بكر من الصحراء سنة خمس وستين وأربعمائة من الهجرة بعد عدة سنوات من المرابطة في الصحراء، فألفى ابن عمه يوسف يصرف أمور الدولة كأحسن ما يكون القائد الهمام والزعيم المحنك، فترك له حكم المغرب، ورجع إلى الصحاري والغابات ينشر دعوة الإسلام، فكان بها تصله هدايا يوسف إلى أن توفي.

[وهنا درس تاريخي هام لابد لي من الوقوف عنده، ألا وهو موقف الأمير إبراهيم من ابن عمه يوسف بن تاشفين؛ وكيف تنازل إبراهيم عن ملك المغرب بسهولة لابن عمه؟؟!!، وذلك عندما رأى أن ابن عمه الأصغر منه عمراً -ونائبه في غيابه- يُصرف شئون الدولة خيراً منه!، فتنازل الأمير إبراهيم لنائبه عن الملك مؤثراً ومختاراً نشر دعوة الإسلام والمرابطة في أحراش أفريقيا!؛ ولم ينازع ابن عمه الأصغر على الملك والسلطة؛ وهكذا يكون الإخلاص والتجرد لله عز وجل بين كبراء وحكام الأمة بأن يضعوا الرجل المناسب في المكان المناسب!، ولو أدى ذلك إلى أن يفقد البعض مراكزهم العالية وسلطاتهم الواسعة، ولكن ذلك هو الفهم الصحيح والحكمة؛ وهي أن المصلحة العامة للأمة مُقدمة على المصلحة الخاصة للحاكم، ولو كانت هذه المصلحة هي عرش الملك وسرير الإمارة والسلطنة!!!!] واستولى يوسف على المغرب كله، ثم اجتاز البحر إلى الأندلس، فهزم الطاغية ألفونسو الهزيمة الساحقة بالزلاقة.

وقد قال أبو بكر بن محمد الصيرفي عن يوسف بن تاشفين: كان رحمه الله خائفاً لربه كتوماً لسره، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلاً على الصلاة، مداوماً على الاستغفار، أكثر عقابه لمن تجرأ أو تعرض لانتقامه: الاعتقال الطويل، والقيد الثقيل، والضرب المبرح، إلا من شق العصا، فالسيف أحسم لبتر الداء، وهو يواصل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها بآرائهم، ويقضي على نفسه وغيرهم بفتياهم، ويحض على العدل، ويصدع بالحق، ويعضد الشريعة، ويقتصد في المال، وهو شديد الزهد والاقتصاد في الملبس والمطعم والمسكن!!؛وذلك إلى أن لقي الله، مجداً في الأمور، ملقناً للصواب، مستحباً حال الجد، مؤدياً إلى الرعية حقها، من الدفاع عنها، والغلظة على عدوها، وإفاضة الأمن والعدل عليها.

يرى صور الأشياء على حقيقتها. تسمى بأمير المسلمين لما تولى زمام الأمور بالأندلس وأوقع بالروم، وكان قبل يدعى الأمير يوسف، وقامت الخطبة باسمه في بلاد المغرب والأندلس، وكان درهمه فضة، وديناره ذهبا خالصا، في إحدى صفحتي الدينار لا إله إلا الله، محمد رسول الله وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وفي الصفحة الأخرى، "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، وكتب على درهمه الفضي، الإمام عبد الله أمير المسلمين، وكتب عليه أيضاً تاريخ ضربه وموضع سكته، وفي جهتي الدرهم مثلما كتب على الدينار.

بعض أخبار ابن تاشفين:
في سنة سبعين وأربعمائة من الهجرة وردت عليه الرسائل من أهل الأندلس، يبثون حالهم، ويدعونه إلى نصرهم. وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، ورد عليه عبد الرحمن ابن أسباط، من ألمرية، يشرح له تفكك الملك بالأندلس، وتسلط الفرنجة على ملوك الطوائف. وفي سنة خمس وسبعين وأربعمائة، وجه أتباعه إلى شراء العدد الحربية من الأندلس، واستكثر منها. وفي سنة 476 هجرية فتح مدينة سبتة، ودخلها عنوة على "سقوت البرغواطي"، الذي أحدث انقلابا في الحكم على واليها التابع لابن عباد. وفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وصله تملك طاغية قشتالة "ألفونسو" مدينة طليطلة بعد حصاره لها لعدة سنوات.

وفاوض المعتمد بن عباد -ملك اشبيلية- يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين- ليساعده الأخير على قتال طاغية الفرنجة ألفونسو، حيث كان بن عباد من أصحاب الكلمة بين ملوك الطوائف بالأندلس، وبالفعل استدعى ابن عباد يوسف ابن تاشفين لنصرة المسلمين بالأندلس، وتنازل لابن تاشفين عن الجزيرة الخضراء، وعلم بذلك ألفونسو، فاخترق بلاد المسلمين معرضاً عن رؤساء الطوائف، لا يرضى أخذ الجزية منهم، حتى انتهى إلى الجزيرة الخضراء في أقصى جنوب الأندلس، ووقف على شاطئ البحر عند منطقة مضيق جبل طارق الحالية- وأمر أن يُكتب إلى الأمير يوسف بن تاشفين، والموج يضرب أرساغ فرسه، بما نسخته: من أمير الملتين ألفونسو بن فرديناند إلى الأمير يوسف بن تاشفين: أما بعد فلا خفاء على ذي عينين أنك أمير الملة المسلمة، كما أنا أمير الملة النصرانية.

ولم يخف عليكم ما عليه رؤساؤكم بالأندلس من التخاذل، والتواكل، وإهمال الرعية، والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم سوء الخسف!، وأضرب الديار، وأهتك الأستار، وأقتل الشبان، وأسبي الولدان، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، إن أمكنتك قدرة!!. هذا وأنتم تعتقدون، أن الله تبارك وتعالى، فرض على كل منكم قتال عشرة منا، ثم خفف عنكم فجعل على كل واحد منكم قتال اثنين منا، وإن قتلاكم في الجنة، وقتلانا في النار، ونحن نعتقد أن الله أظهرنا وأعاننا عليكم، إذ لا تقدرون دفاعاً، ولا تستطيعون امتناعاً، وبلغنا عنك أنك في الاحتفال على نية الإقبال، فلا أدري إن كان الحين يبطأ بك أمام التكذيب لما أنزل عليك. فإن كنت لا تستطيع الجواز فابعث إلي ما عندك من المراكب لأعبر إليك، وأحاربك في أحب البقاع إليك، فإن غلبتني، فتلك غنيمة جاءت إليك، ونعمة مثلت بين يديك، وإن غلبتك، كانت لي اليد العليا، واستكملت الإمارة. والله يتم الإرادة.

وانظر معي أخي القارئ لأسلوب العنجهية والغرور والكبر في رسالة ألفونسو إلى يوسف بن تاشفين!!.
فأمر يوسف بن تاشفين أن يكتب في ظهر كتاب ألفونسو: جوابك يا ألفونسو ما تراه، لا ما تسمعه إن شاء الله وأردف الكتاب ببيت أبي الطيب:
ولا كتبٌ إلا المشرفية والقنا       ولا رسلٌ إلا الخميس العرمرم

وعبر ابن تاشفين البحر بعدما أعد العدة للقاء ذلك الطاغية، وقد نادى بالجهاد في أهل الأندلس. وكان اللقاء يوم الجمعة في العشر الأول من رمضان عام تسعة وسبعين وأربعمائة؛ حيث وقعت حرب عظيمة، اختلط فيها الفريقان، بحيث اقتحم الطاغية محلة المسلمين، وصدم ميسرة جيوش الأندلس، ثم اقتحم المرابطون بعد أن صمدت جيوش الأندلس بقيادة ابن عباد، والذي كان في مقدمة جيش المسلمين. ثم برز الجميع إلى مأزق المواجهة بالسيوف، تعارفت فيه الوجوه، فأبلوا بلاءً عظيماً، وأجلت المعركة عن هزيمة العدو، واستئصال شئفته. وأفلت ألفونسو في فل قليل، قد أصابته جراحه، وأعز الله المسلمين ونصرهم نصراً لا مثيل له، وأكثر شعراء المعتمد القول في ذلك، فمن ذلك قول عبد المجيد بن عبدون من قصيدة له:

فأين العجب يا أذفونش هلا ... تجنبت المشيخة يا غلام
شملك النساء ولا رجال ... فحدث ما وراءك يا عصام
أقمت لدى الوغى سوقاً فخذها ... مناجزة وهونٌ لا تنام
فإن شيت اللجين فثم سام ... وإن شيت النضار فثم حام
أقام رجالك الأشقون كلا ... وهل جسدٌ بلا رأس ينام
رفعنا هامهم في كل جذع ... كما ارتفعت على الأيك الحمام
سيعبد بعدها الظلماء لما ... أتيح له بجانبها اكتتام
ولا ينفك كالخفاش يغضي ... إذا ما لم يباشره الظلام
نضا إذ راعه واجتاب ليلاً ... يود لو أن طول الليل عام
سيبقى حسرةً ويبيد إن لم ... أبادتنا القناة أو الحسام

وعاد يوسف بن تاشفين بعد موقعة الزلاقة منتصراً إلى مراكش عاصمة ملكه ببلاد المغرب.

وفاته
توفي رحمه الله بمدينة مراكش يوم الاثنين مستهل محرم سنة خمسمائة. وممن رثاه أبو بكر بن سوار من قصيدة أنشدها على قبره:
ملك الملوك وما تركت لعامل             عملاً من التقوى يشارك فيه
يا يوسف ما أنت إلا يوسف              والكل يعقوب بما يطويه
اسمع أمير المؤمنين وناصر              الدين الذي بنفوسنا نفديه
جُزيت خيراً عن رعيتك التي             لم ترض فيها غير ما يرضيه
أما مساعيك الكرام فإنها                 خرجت عن التكييف والتشبيه
في كل عام غزوةٌ مبرورة                 تردي عديد الروم أو تفنيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفقاً          حتم القضاء بكل ما تقضيه
ويجيىء ما دبرته كمجيئه                فكأن كل مغيب تدريه
متواضعاً لله مظهر دينه                   في كل ما تبديه أو تخفيه
ولقد ملكت بحقك الدنيا وكم           ملك الملوك الأمر بالتمويه
لو رامت الأيام أن تحصي الذي        فعلت سيوفك لم تكد تحصيه
إنا لمفجوعون منك بواحد              جمعت خصال الخير أجمع فيه
وإذا سمعت حمامة في أيكة           تبكي الهديل فإنها ترثيه
وميضٌ قد استرعى رعية أمة          فأقام فيهم حق مسترعيه

ذكر تفاصيل موقعة "الزلاقة" بالأندلس 479 هجرية
قد تقدم ذكر سيطرة ملك الفرنج القشتالي ألفونسو على طليطلة في سنة478، وهي قلب الأندلس ومن أكثر مدن العالم تحصينا طبيعيا؛ حيث تُحاط بسبع هضاب مرتفعة ومثلهم من السهول المنخفضة، ثم المدينة تقع بعد ذلك على قمة جبل يصعب صعوده إلا بشق الأنفس!، وكان صاحبها الملك القادر بن المأمون قد استضاف لديه هذا الخبيث ألفونسو لعدة شهور، وخلال تلك الشهور درس ذلك الغادر مداخل ومخارج المدينة وبعض نقاط الضعف فيها، ولما عاد ألفونسو إلى قشتالة واستقر له الملك عليها، جهز جيشاً واستولى على طليطلة، ومن وقتها لم ترجع للمسلمين مرة أخرى إلى أن تم طرد المسلمين بعد ذلك من الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي!.

وسمع مشايخ قرطبة بما يجرى، ورأوا قوة الفرنج تزداد، وضعف المسلمين يزداد أيضاً، مع استعانة بعض ملوك الطوائف بالفرنجة على بعضهم البعض!؛ لذا اجتمع المشايخ وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنجة، ولم يبق من هذه البلاد إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت!.

وساروا إلى القاضي أبي بكر بن أدهم، وكان من أكثرهم حكمة وعلماً، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمين من الصغار والذلة؟!، وعطائهم الجزية لملوك الفرنج بعد أن كانوا يأخذونها منهم؟!، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك. قال: ما هو؟، قالوا: نكتب إلى عرب إفريقيا ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله. قال: نخاف، إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقيا من قبل، ويتركون الفرنجة ويبدءون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا.

قالوا له: فكاتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ورغب إليه ليعبر إلينا، أو يرسل بعض قواده.
وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم على ذلك الحال، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وكأنما أراد أن يزيل عن نفسه تهمة الاستعانة بالمرابطين!، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فأبلغه الرسالة، وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من ألفونسو.

وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره، فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار، فاجتمع بالمعتمد بن عباد باشبيلية، وكان قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير. وقصد هذا الجيش المتطوعون من سائر بلاد الأندلس.

معركة الزلاقة:
بطحاء "الزلاقة" من إقليم بطليوس في غرب الأندلس، فيها كانت الموقعة الشهيرة للمسلمين على الطاغية عظيم الجلالقة ألفونسو بن فرديناند معاهد المعتمد بن عباد، وكان ذلك في العشر الأول من رمضان -على أصح الأقوال- سنة 479 من الهجرة.

وكان السبب في ذلك فساد الصلح المنعقد بين الطاغية وبين المعتمد؛ فإن المعتمد اشتغل عن أداء الضريبة المفروضة عليه -في الوقت المحد سنوياً لملك قشتالة- بغزو "ابن صمادح" صاحب ألمرية؛ وفرغت خزائن ابن عباد، فتأخر لأجل ذلك عن أداء الإتاوة المفروضة عليه، فاستشاط الطاغية ألفونسو غضباً، وبالغ ألفونسو في طلباته فطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة، وأمعن في محاولة إذلال ابن عباد؛ فسأل ألفونسو ابن عباد أن تدخل امرأته إلى جامع قرطبة لتلد فيه!، حيث أشار إليه بذلك القسيسون والأساقفة، لمكان كنيسةٍ كانت في الجانب الغربي منه، ومعظمةٍ عندهم، وقد أقام المسلمون الجامع الأعظم بقرطبة في ذلك المكان منذ زمن بعيد؛ وسأل ألفونسو أن تنزل امرأته المذكورة بمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة، بحيث تتنقل من القصر الذي تعيش فيه بمدينة الزهراء إلى الجامع الكبير، حتى تكون تلك الولادة بين طيب نسيم الزهراء، وفضيلة ذلك الموضع الموصوف من الجامع، وزعم أن الأطباء أشاروا عليه بالولادة في الزهراء، كما أشار عليه القسيسون بالجامع!!.

وانظر معي أخي القاريء إلى استبداد الحكام المتغطرسين في كل زمان ومكان، وكيف يفتعلون المشاكل ويشعلون الفتن ويتحججون بالحجج الواهية؛ وذلك ليكون لهم ذريعة في الاعتداء على الدول الأخرى واحتلالها، وما حدث بالعراق في السنوات القليلة الماضية ليس منا ببعيد، وكيف تحججوا بوجود أسلحة للدمار الشامل بالعراق ليحتلوه!!، وهكذا نرى أن التاريخ يعيد نفسه، وعلينا أن نعتبر!!. ونعود لقصة ألفونسو وابن عباد؛ حيث كان السفير بينهما يهودياً، وكان وزيراً لألفونسو بن فرديناند، فتكلم بين يدي المعتمد ببعض ما جاء به من عند صاحبه، فرفض ابن عباد كل تلك الطلبات المهينة المذلة؛ والتي تنتقص من ملك ابن عباد بصورة مشينة للغاية، فأغلظ له اليهودي في القول، وشافهه بما لم يحتمله، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه، فأنزلها على رأس اليهودي!، وأمر به فصلب منكوساً بقرطبة.

واستفتى ابن عباد الفقهاء لما سكت عنه الغضب، عن حكم ما فعله باليهودي، فبادره الفقيه "محمد بن الطلاع" بالرخصة في ذلك، لتعدى الرسول حدود الرسالة وإساءة الأدب مع ابن عباد، إلى ما يستوجب له القتل، إذ ليس له أن يفعل ما فعل؛ وقال للفقهاء حين سألوه: إنما بادرت بالفتوى خوفاً أن يكسل الرجل (يقصد ابن عباد) عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً!، وبلغ ألفونسو ما صنع ابن عباد (وهذا ما كان يتمناه ألفونسو في نفسه ليستولي على اشبيلية وقرطبة بعد أن استولى على طليطلة)، فأقسم بآلهته ليغزونه باشبيلية، ويحصره في قصره؛ فجرد جيشين جعل على أحدهما كلباً من كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس، ويغير على تلك التخوم والجهات، ثم يمر على اشبيلية، وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه؛ ثم زحف ابن فرديناند بنفسه في جيش آخر عرمرم، فسلك طريقاً غير طريق صاحبه، وكلاهما عاث في بلاد المسلمين فساداً وخرب ودمر!، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم، قبالة قصر ابن عباد، وفي أيام مقامه هناك كتب إلى ابن عباد متهكماً عليه: "كثر بطول مقامي في مجلسي الذباب، واشتد علي الحر، فألقي علي من قصرك بمروحةٍ أروح بها على نفسي، وأطرد بها الذباب عنى!"، فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة:

"
قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية، في أيدي الجيوش المرابطية، تروح منك لا تروح عليك، إن شاء الله!". فلما تُرجم لا بن فرديناند توقيع ابن عباد في الجواب، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببالٍ!.

وفشا في بلاد الأندلس خبر توقيع ابن عباد، وما أظهر من العزيمة على الاستعانة بالصحراويين والاستظهار بهم على ألفونسو، فاستبشر الناس، وفُتحت لهم أبواب الآمال، وانفرد ابن عباد بتدبير ما عزم عليه من الاستعانة بيوسف بن تاشفين، ورأت ملوك الطوائف بالأندلس ما عزم عليه من ذلك، فمنهم من كتب إليه، ومنهم من شافهه، كلهم يحذره سوء عاقبة ذلك، وقالوا له: "الملك عقيم"، "والسيفان لا يجتمعان في غمدٍ واحدٍ!"، فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: "رعى الجمال خير من رعى الخنازير!"؛ أي أن كونه أسيراً يرعى الجمال في الصحراء لابن تاشفين، خيراً من كونه عبداً ممزقاً لألفونسو بن فرديناند، أسيراً يرعى خنازيره في قشتالة؛ وكان مشهوراً برزانة الاعتقاد، وحسن اعتقاده في الله، وقال لمنتقدي استعانته بابن تاشفين وجنوده:

"يا قوم أنا من أمري على حالتين، حالة يقين وحالة شكٍ، ولا بد لي من إحداهما؛ أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ألفونسو ففي الممكن أن يفيا لي ويبقيا على، ويمكن ألا يفعلا؛ فهذه حالة الشك. وأما حالة اليقين، فهي أني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله تعالى، وإن استندت إلى ألفونسو أسخطت الله، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضى الله وآتي ما يسخطه!"، وحينئذ كف أصحابه عن لومه.

[
وهنا وقفة هامة أيضاً، ألا وهي موقف المعتمد بن عباد الإيماني الشجاع!!؛ وقد أدرك أنه بين شقي رحى؛ فإما أن يكون ذليلاً خاضعاً وخائناً لعقيدته ودينه ثم أمته في نفس الوقت، وذلك باستسلامه لطلبات ألفونسو، وإما أن يتنازل لابن تاشفين ويستعين به على حرب ألفونسوا المتكبر الغادر!؛ وهنا قد يخسر ملكه وسلطانه، ولكنه سيحافظ على دينه وعقيدته ولن يخون أمته؛ وبالفعل اختار ابن عباد الرأي الثاني، وخسر بالفعل ملكه، ولكنه حفظ عقيدته، واحترم نفسه، وأكد ذاته، وكان أميناً على أمته؛ فرحم الله تعالى المعتمد بن عباد وجزاه عن موقفه الإيماني الشجاع هذا خير الجزاء، والذي بسببه -كما يقول المؤرخون ظل الإسلام في الأندلس لأربعة قرون أخرى!!].

فلما عزم ابن عباد خاطب جاريه المتوكل عمر بن محمد صاحب بطليوس، وعبد الله الصنهاجي صاحب غرناطة يأمرهما أن يبعث إليه كل واحدٍ منهما قاضي حضرته، ففعلا؛ ثم استحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم، وكان أعقل أهل زمانه؛ فلما اجتمع القضاة عنده باشبيلية، أضاف إليهم وزيره أبا بكر ابن زيدون، وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف، وترغيبه في الجهاد؛ وأسند إلى ابن زيدون ما لا بد منه في تلك السفارة، من إبرام العقود والاتفاقات مع ابن تاشفين.

وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس، مستعطفين، مجهشين بالبكاء، ناشدين بالله وبالإسلام، ومستنجدين بفقهاء مجلسه وبلده، ووزراء دولته، فيستمع إليهم، ويصغى لقولهم، وترق نفسه لهم؛ فبمجرد أن عبر رسل ابن عباد البحر كان بانتظارهم رسل يوسف بالمغرب على الجانب الآخر؛ وقد أعلم ابن تاشفين صاحب سبتة بقصده الغزو، وتشوقه إلى نصرة أهل الإسلام بالأندلس، وسأله أن يخلى الجيوش تمر من مضيق جبل طارق في سلام؛ فرفض حاكم سبتة وهي المدينة المتحكمة في المضيق، فشكاه يوسف إلى الفقهاء، فأفتوا أجمعين بما لا يسر صاحب سبتة!، ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم، وأكرم مثواهم، وجددوا الفتوى في حق صاحب سبتة بأنه يأثم إن منع أساطيل ابن تاشفين من المرور إلى الأندلس، ووصل ذلك لعلم ابن عباد، فوجه من اشبيلية أسطولاً نحو صاحب سبتة، فارتدع وأعلن الطاعة ليوسف بن تاشفين.

فأخذ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في التأهب للعبور إلى جزيرة الأندلس وذلك في شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة فاستنفر من قدر على استنفاره من القواد وأعيان الجند ووجوه قبائل البربر فاجتمع له نحو من سبعة آلاف فارس في عدد كثير من الرجل، ثم عبر يوسف البحر عبوراً هنيئاً آمناً، حتى أتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له، وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وجعلوا سماطاً أقاموا فيه سوقاً، جلبوا عليه ما عندهم من خيرات مساعدة لجيش ابن تاشفين، وأذنوا لأهل المغرب في دخول البلد، والتصرف فيها، فامتلأت المساجد والساحات بضعفاء المتطوعين وتواصوا بهم خيراً.

وقد مر "ابن تاشفين" باشبيلية على أحسن الهيئات، جيشاً بعد جيش، وأميراً بعد أمير، وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف، وأمر أهل البلاد بجلب الأقوات والضيافات، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه، وتواردت الجيوش مع أمرائها في اشبيلية، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من اشبيلية في مائة فارسٍ ووجوه أصحابه، فأتى محلة يوسف فركض نحو القوم وركضوا نحوه، فبرز إليه يوسف وحده، والتقيا منفردين، وتصافحا وتعانقا، وأظهر كل واحدٍ منهما المودة والإخلاص، وشكرا نعم الله عليهما، وتواصيا بالصبر والرحمة، وبشرا نفسيهما بما استقبلاه من غزو أهل الظلم والعدوان، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه، مقرباً إليه وافترقا؛ فعاد يوسف لمحلته، ورجع ابن عباد إلى جهته، ولحق بابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحفٍ وألطافٍ، وأوسع بها محلة ابن تاشفين. وباتوا تلك الليلة. فلما صلوا الصبح ركب الجميع؛ وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم إلى اشبيلية، ففعل، ورأى الناس من عزة سلطانه ما سرهم؛ ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر وأعان وخرج وأخرج؛ وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف بكل صقع من أصقاعه: "رابطوا وصابروا".

ولقي يوسف أمير المسلمين ملوك الأندلس الذين كان عليهم طريقه، كصاحب غرناطة والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية وابن عبد العزيز أبو بكر صاحب بلنسية.

وقعة الزلاقة
وقد دعا علماء الأندلس الناس للجهاد من سائر الجهات وأمد ملوك الجزيرة يوسف والمعتمد بما قدروا عليه من خيل ورجال وسلاح فتكامل عدد المسلمين من المتطوعة والمرتزقة زهاء عشرين ألفاً والتقوا هم والعدو بأول بلاد الروم.

وكان ألفونسو ملك قشتالة قد استنفر الصغير والكبير ولم يدع في أقاصي مملكته من يقدر على النهوض إلا استنهضه، وكان مقصوده الأعظم هو إرهاب المرابطين، وصدهم عن الأندلس، وإظهار بأسه وسيطرته وسطوته على كل من بالأندلس، أما ملوك الطوائف بالأندلس فلم يكن منهم أحد إلا ويؤدي إليه الإتاوات وهم كانوا أحقر في عينيه وأقل من أن يهتم بأمرهم!.

ثم اتجه ابن فرديناند بالمختارين المتميزين من أفضل جنوده تدريباً، وترك بقية جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره من جموع جنوده: "بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء"، وانظر معي أخي القارئ إلى بغي وظلم وتكبر وعتو ذلك الملك من خلال كلماته المتجبرة فكان عاقبة أمره الخسران والهزيمة المروعة!!. واتفق جميع المؤرخين على أن عدة المسلمين كانت أقل من عدة الفرنجة. ورأى ألفونسو بن فرديناند في نومه كأنه راكب على فيلٍ، فضرب نقيرة طبلٍ فهالته رؤياه، وسأل عنها رجال الدين فلم يجبه أحد!؛ ودس يهودياً إلى من يعلم تأويلها من المسلمين، فدُل على عابر للأحلام فقصها عليه، ونسبها إلى نفسه، فقال له العابر: كذبت! ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني من صاحبها وإلا فلن أعبرها لك!، فقال له: اكتم ذلك، هو ألفونسو بن فرديناند! فقال العابر: قد علمت أنها رؤياه ولا ينبغي أن تكون لغيره، وهي تدل على بلاء عظيمٍ، ومصيبةٍ فادحة، تؤذن بهزيمته وهلاك جيشه عن قريب، أما الفيل فقد قال الله تعالى: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل"، (الفيل1).

وأما ضرب النقيرة فقد قال الله تعالى: "فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير"،(المدثر 8 ) ،فانصرف اليهودي إلى ألفونسو، وألف له تأويلاً!، وذكر له ما وافق خاطره، ولم يفسرها له، كما عبرها له المعبر!.

ثم خرج ألفونسو بأقصى سرعته، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس، فتقدم يوسف فقصده، وتأخر ابن عباد لبعض الأمر، ثم انزعج يقتفي أثر جيش يوسف بن تاشفين بجيش فيه حماة الثغور، ورؤساء الأندلس، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته، وسار ابن عباد وهو يتفاءل لنفسه، مكملاً البيت المشهور كامل:
لا بد من فرج قريب           يأتيك بالعجب العجيب
غزو عليك مبارك             سيعود بالفتح القريب
لله سعدك إنه                 نكس على دين الصليب
لا بد من يوم يكون          أخاً له يوم القليب

ووافت الجيوش كلها بطليوس، فناموا فيها، وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد فلقيهم بما يجب من الأقوات والضيافات، وبذل كل مجهوده، ثم جاءهم الخبر بشخوص ألفونسو إليهم، ولما اكتملت كتائب وألوية الجيش المسلم؛ نشر المعتمد عيونه في محلات الصحراويين (جنود المرابطين) خوفاً عليهم من مكايد ألفونسو، إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إن الرجل من الصحراويين كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه، أو لقضاء حاجته، فيجد ابن عباد بنفسه على رأس الطريق الذي يمشي فيه، فلا يكاد الخارج منهم من خيمته يخطيء إذ ذاك من لقاء ابن عباد؛ وذلك لكثرة تطواف ابن عباد عليهم في الليل.

ثم كتب يوسف إلى ألفونسو يدعوه إلى الإسلام أو الجزية أو يأذن بحربه فامتلأ غيظاً وعتا وطغى وراجعه بما يدل على شقائه، ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعباد يعظون الناس ويحضونهم على الصبر، ويحذرونهم الفرار؛ وجاءهم الطلائع بخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم، وهو يوم الأربعاء فأصبح المسلمون قد أخذوا مصافهم، ثم أصبح يوم الخميس فأخذ ألفونسو في إعمال الحيلة، فبعث لابن عباد يقول: غداً يوم الجمعة وهو عيدكم، وبعده الأحد وهو عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت! فعرف المعتمد بذلك يوسف، فقال: نعم! فقال له المعتمد: هذه خديعة من ألفونسو! إنما يريد الغدر بالمسلمين! فلا تطمئن إليه، وليكن الناس على استعدادٍ له طول يوم الجمعة كل النهار! وبات الناس ليلتهم على أهبةٍ واحتراسٍ بجميع المحلات، خائفين من كيد العدو، وبعد مضي جزءٍ من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي وكان في محلة ابن عباد فرحاً مسروراً، يقول إنه رأى النبي "صلى الله عليه وسلم" فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غدٍ وتأهب ودعا ودهن رأسه وتطيب استعدادا للشهادة في سبيل الله، وانتهى ذلك إلى ابن عباد، فبعث إلى يوسف فخبره بها تحقيقاً لما توقعه من غدر ألفونسو، فحذروا أجمعين، ولم ينفع ألفونسو ما حاوله من الغدر.

ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد، يخبران أنهما أشرفا على محلة ألفونسو وسمعا ضوضاء الجيوش، واضطراب الأسلحة، ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ألفونسو، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلة ألفونسو يقولون: استرقنا السمع الساعة فسمعنا ألفونسو يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون، وإن كانوا أهل حفاظٍ وذوي بصائر في الجهاد، فهم غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، واصبروا، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة!

وفي فجر الجمعة هاجم ألفونسوا بفرسانه جيوش المسلمين، فصدمها ابن عباد صدمةً قطعت آماله، ولم ينكشف له، فحميت الحرب بينهما، ومال ألفونسو على المعتمد بجموعه ثانية، وأثخن ابن عباد بجراحات عديدة، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته، حتى وصلت إلى صدغيه، وجرحت يمنى يديه، وطعن في أحد جانبيه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس!، كلما هلك واحد آخر قدم له، وهو يقاسي حياض الموت، ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحالة ابناً له صغيراً، كان مغرماً به، تركه باشبيلية عليلاً، اسمه العلاء، وكنيته أبو هاشم، فقال "متقارباً":
أبا هاشم هشمتني الشفار             ولله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج              فلم يثننى ذكره للفرار

ثم كان أول من وافى ابن عباد، من قواد ابن تاشفين، داود بن عائشة، وكان بطلاً شهماً، فنفس بمجيئه عن ابن عباد؛ ثم أقبل يوسف بعد ذلك، وطبوله تصدع الجو، فلما أبصره ألفونسو وجه خيرة جنوده إليه، وقصده بمعظم جنوده، وقد كان معداً العدة لذلك من أول النهار، وأعد له هذه المجموعة المختارة من الجنود البواسل، وهي معظم جنوده، فبادر إليه يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم، وإذا المعتمد وأصحابه من وراء الناس فأغنى ذلك اليوم غناء لم يشهد لأحد من قبله، وأخذ المرابطون سلاحهم فاستووا على متون الخيل، واختلط الفريقان فأظهر يوسف بن تاشفين وأصحابه من الصبر وحسن البلاء والثبات ما لم يكن يحسبه المعتمد، وهزم الله العدو واتبعهم المسلمون يقتلونهم في كل وجه ونجا ألفونسو في القليل من أصحابه، حيث تسلل ألفونسو وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحداً بعد واحدٍ من أثر جراحهم، ورجع مهزوماً خائباً إلى طليطلة وكل من تبقى معه -من الخمسين ألف جندي الذين دخل بهم موقعة الزلاقة أقل من مائة رجل، وفي رواية تبقى معه تسعة رجال فقط!! .

وكتب ابن عباد إلى ابنه باشبيلية: كتابي هذا من المحلة يوم الجمعة بالعشر الأول من رمضان، وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين، وفتح لهم الفتح المبين؛ وأذاق المشركين العذاب الأليم، والخطب الجسيم؛ فالحمد لله على ما يسره من هذه الهزيمة العظيمة، والمسرة الكبيرة، هزيمة ألفونسو إذ أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم. بعد إتيان النهب بكل طرقه، واستئصال القتل في جميع أبطاله وأجناده، وحماته وقواده، فلله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني بحمد الله تعالى إلا جراحات يسيرة ألمت بي، لكنها قرحت بعد ذلك، وغنمت وظفرت.

ولما فرغ يوسف من موقعة يوم الجمعة، تواردت عليه أنباء من قبل السفن، فلم يجد معها بداً من سرعة الكرة، فانصرف إلى اشبيلية، فأراح بظاهر ثلاثة أيام، ونهض نحو بلاده، و ابن عباد معه يوماً وليلةً. فعزم عليه يوسف في الرجوع، وكانت جراحاته تسيل دماً وتورم معظم رأسه، فرجع وأمر ابن عباد ابنه بالمسير بين يدي ابن تاشفين إلى حيث يعبر البحر إلى بلده.

ولما دخل ابن عباد اشبيلية جلس للناس وهنيء بالفتح، وقرأت القراء، وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه. قال عبد الجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم، وأعددت قصيدة أنشده إياها، فقرأ القارئ: "إلا تنصروه فقد نصره الله"، فقلت: بعداً لي ولشعري! والله ما أبقت لي هذه الآية معنىً أحضره إليه، وأقوم به.

لقد كانت معركة الزلاقة من المعارك المشهودة بالأندلس؛ أعز الله فيها دينه وأعلى كلمته، وقطع طمع ألفونسو في فرض سيطرته التامة على الأندلس، بعد أن كان يقدر أنها في ملك يمينه، وأن ملوك الطوائف خدم له؛ وذلك كله بحسن نية أمير المسلمين "يوسف بن تاشفين"، وإخلاص المعتمد بن عباد في استنجاده بزعيم المرابطين "ابن تاشفين"، والدور التاريخي الذي قام به علماء الأندلس وعلى رأسهم أبي بكر بن أدهم وأحمد بن رميلة القرطبي ومحمد بن الطلاع، كل هؤلاء قالوا "لا" للذل والهوان، وكان قولهم "لا" لألفونسو بن فرديناند سببا في بقاء الإسلام بالأندلس لمدة أربعة قرون أخرى، وعندما عجز المسلمون بالأندلس عن قول "لا" لعدوان الفرنجة عليهم في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وبقيادة فرديناند وإيزابيلا ملكي أرجون وقشتالة المتزوجين والمتحدين- كان عاقبة المسلمين الطرد من الأندلس شر طردة إلى بلاد المغرب ومصر، والقتل بأبشع أدوات التعذيب لمن بقي على ملة الإسلام!!؛ وذلك على يد رجال الدين من الصليبيين المتعصبين وقادة محاكم التفتيش!!، واندثر المسلمون من الأندلس؛ بعد أن شُنت عليهم حملات منظمة من التطهير العرقي المستمر على مدار فترة زمنية تتجاوز المائة سنة!!!!، هذا الغروب الحزين للمسلمين من الأندلس بعد حضارة مزدهرة استمرت لمدة ثمانية قرون متواصلة!!؛ فهل من معتبر؟!؛ وهل من متعظ؟!، وهل من مدكر؟!!.

إن انتصار المسلمين في موقعة الزلاقة هو خير دليل على أن وحدة المسلمين في مواجهة الأطماع الصهيونية العالمية هو الطريق الوحيد المتاح لوقف هذا المد الطامع في أراضي وخيرات شعوب أمتنا!.

وتصنف هذه المعركة الخالدة الفاصلة في مصاف معارك أمتنا الخالدة من أمثال بدر وفتح مكة والقادسية ونهاوند واليرموك واجنادين وحطين وعين جالوت وفتح القسطنطينية، والتي وقعت بالزلاقة وكان لقاء المسلمين عدوهم كما ذكرت في يوم الجمعة بالعشر الأول من شهر رمضان -على أرجح الأقوال- الكائن في عام 479 من الهجرة، ولقد استشهد في ذلك اليوم جماعة من أعيان الناس، كابن رميلة القرطبي المتقدم الذكر، وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي وغيرهما. وطار ذكر ابن عباد بهذه المعركة، وشهد مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعاً بالتهنئة، ولم يزل ملحوظاً معظماً.

ورجع يوسف بن تاشفين وأصحابه عن ذلك المشهد منصورين مفتوحاً لهم وبهم؛ فسر بهم أهل الأندلس وأظهروا التيمن بأمير المسلمين "ابن تاشفين"، والتبرك به، وكثر الدعاء له في المساجد وعلى المنابر، وانتشر له من الثناء بالأندلس ما زاده طمعاً في أن تكون الأندلس درة لدولته!؛ وذلك أن الأندلس كانت قبله في حالة من التفتت والتمزق والحروب الداخلية والمؤامرات المستمرة بين ملوك الطوائف من المسلمين، وكان الفرنجة هم المتفرجين على ما يحدث بين حكام الممالك الإسلامية المفتتة بالأندلس، ومع زيادة ضعف تلك الممالك ازدادت قوة ممالك الفرنجة بالشمال، وأصبح حكام الطوائف ألعوبة في يد ملوك الفرنجة، لدرجة أن ألفونسوا ملك قشتالة فرض الإتاوات الباهظة والمخزية على ملوك الطوائف، وهم له مذعنين خاضعين، وأحوالنا اليوم كدول وإمارات وممالك إسلامية ليست عن أحوال ممالك الطوائف بالأندلس ببعيد!.

فهل سيتطوع منا واحدٌ يُضحي ويُخلص لله ويكون مثل المعتمد بن عباد ويقولها صريحة: لأن أرعى الإبل لابن تاشفين في صحراء المسلمين أحب إلى الله ثم إلى نفسي من أن أرعى الخنازير لفرديناند بقشتالة؟؟!!"، وهل من بيننا من سيؤسس دولة قوية ثابتة الأركان قوية البنيان، مثل دولة يوسف بن تاشفين؟!!؛ وهل سيكون بيننا من العلماء المخلصين كعبد الله بن ياسين وأبي بكر بن أدهم وابن رميلة القرطبي ومحمد بن الطلاع؟؟!!. إننا نتمنى ذلك كي نحافظ على أنفسنا وأموالنا وأهلينا، وليس من باب فرض السيطرة والتسلط على الآخرين؛ لذا يجب علينا أن نعد أبناءنا لذلك؛ بقولهم "لا" للظالمين المعتدين، وأن نعلمهم أهمية حفاظهم على وحدة أمتهم، وأهمية عملهم على استرداد حقوقهم المسلوبة، وتأكيدهم لذاتهم!.

بعد كل تلك المواقف التاريخية في قول كلمة "لا"، وتلك الأقوال الحماسية الملتهبة لأحرار العالم، دعونا نلخص ما ندعوا إليه في نهاية هذا الجزء من هذا الفصل:
يعتبر قول "لا" مهارة حياتية مهمة في هذا العالم السريع، إنها طريقة لحماية نفسك من الضغوط والأعباء الحياتية، فإلى جانب القدرة والكفاءة تُضاف الكلمة الثالثة "لا" إلى مفردات توازن الحياة.

يمكن أن تكون لبقا وتبقى مع ذلك حازما، وستفاجأ بدرجة شعورك بالحرية وسيسهل الأمر مع الممارسة. إذا أردت نموذجا لقول "لا" راقب في المرة المقبلة صبيا في الثانية من العمر يقول "لا" إلى شخص راشد، أما إذا كان لديك من الشجاعة بعضاَ مما كان لدى القائد الشجاع العبقري قتيبة بن مسلم في قول "لا" فأنت وشأنك!.

والآن فلننتقل معا إلى تلك الجولة في رياضة النفس وتأديبها، وتأديب النفس كما قلت في هذا الكتاب مرارا وتكرارا لا يعني أبدا الإذعان والخجل والخضوع وتمام الانصياع لحاجات ورغبات من حولنا، ولكن هناك جزء أخلاقي إيجابي من تأديب النفس كالذي ذكرته في أول هذا الفصل من قول كلمة "لا" عند اللزوم وفي الوقت المناسب، ولكن كما قلت من قبل فالأولى هو عدم الإكثار من قول هذه الكلمة؛ ولكن لن يحدث ذلك أبداً إلا إذا كان هناك التزاماً شبه جماعي في المجتمع الذي نعيش فيه بمكارم الأخلاق، وعندها فقط سيقل قولنا جميعاً لكلمة "لا".