النفط في ميزان الاقتصاد والسياسة والتنمية

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : ريجار | المصدر : www.startimes2.com

نافلة القول إن النفط هو اليوم السلعة الاستراتيجية الأولى في العالم، هو بالنسبة إلى الصناعة والتنمية كالقمح بالنسبة إلى الغذاء: المادة الحيوية الرئيسية التي من دونها لا تكون صناعة، وخاصة حينما يؤخذ في الحسبان أن مشاريع الاعتماد على الطاقة البديلة (النووية، الكهربائية، الحرارية) تصطدم بحقيقة التكلفة العالية التي يكلفها إنتاجها، وأن تحول الصين والهند إلى قوتين صناعيتين عملاقتين، وحاجة صناعتيهما إلى الطاقة، يزيدان من معدل الطلب على هذه المادة الحيوية ويرفعان من منسوب قيمتها الاستراتيجية. وهذا ما يفسر في جانب من الجوانب، حال الارتفاع الدراماتيكي التي يشهدها سعر النفط منذ سنوات ثلاث وبمعدلات غير مسبوقة في نسبة ارتفاع القيمة وفي وتيرة ذلك الارتفاع.

 
 وفي المقابل ستتوقف هذه الطفرة الهائلة في الفوائض المالية الناجمة عن ارتفاع سعر النفط، موارد استثنائية للدول المنتجة للنفط ومنها دول الخليج العربي لضخها في برامج التنمية الوطنية. وثمة من يقلل من أهمية هذه الفوائض والموارد المالية في ضوء حقيقة الانخفاض المثير في قيمة الدولار (ومن حيث يجري التسعير به في الاقتصاد النفطي الخليجي من دون بيان كبير أثر حتى الآن لسلة العملات المتنوعة). ومع أن هذه الملاحظة لا تخلو من وجاهة (حيث قيمة البرميل الفعلية اليوم ليست أعلى مما كانت عليه قبل عام ونصف حيث كان سعره دون الثمانين دولاراً) إلا أنها تتجاهل أن قيمة الدولار لن تظل منخفضة حين ترتفع الأسباب السياسية التي أدت بها إلى الانخفاض
 
 

على أن هذه المادة الاستراتيجية والحيوية- ولأنها كذلك- تتأرجح بين سعرين ليسا دائماً متناسبين حتى لا نقول إنهما متجافيان متباعدان: بين سعر اقتصادي تفرضه قوانين السوق وتوازنات العرض والطلب بما فيها القدرة الإنتاجية والحاجة الاستهلاكية المتزايدة، وسعر سياسي تقرره حسابات أخرى من خارج منطق السوق، أو قل لا يدخل حساب السوق في اعتبارها إلا بما هو مادة للاستغلال السياسي. لقد كان سعر الدولار سابقاً (حين لم يكن يتجاوز سعر البرميل 20 دولاراً أو ثلاثين) سعراً سياسياً، وهو كذلك لأنه لم يكن عادلاً ولا مناسباً لقيمته الاقتصادية الفعلية، وسعر النفط اليوم هو أيضاً- وبهذا المعنى- سعر سياسي لأن ارتفاعه الصاروخي لا ينتمي إلى دينامية اقتصادية طبيعية بمقدار ما يتصل بأهداف استراتيجية أخرى فوق- اقتصادية، لعل إرهاق الصين ودول الاتحاد الأوروبي (ماعدا بريطانيا) وكبح جماح تقدمها الصناعي والتكنولوجي في مقدم الأسباب التي تقف وراء فرض أسعار سياسية للنفط.

ومن تحصيل الحاصل أن لهذا الارتفاع الكبير لسعر النفط فوائده العالية على المستفيدين منه، وهم بالجملة منتجو النفط دولاً وشركات، لكن درجة الاستفادة متفاوتة ففيما تنحصر لدى منتجين مثل دول "الاوبك" في زيادة فوائضها المالية يرتفع معدل الاستفادة أضعافاً بالنسبة إلى دول منتجة كبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، فإلى أنها تضخ في ميزانياتها وفي مداخيل شركاتها أموالاً جديدة طائلة تستفيد من استنزاف القدرة الاقتصادية والإنتاجية لدولة كالصين باتت مخيفة للغرب الأنجلو أمريكي في السنوات العشر الأخيرة، وتعطل ولو إلى حين تفوقها الاقتصادي والتقاني والعلمي، وما يمكن أن ينجم عنه من نتائج جديدة قد تعيد تشكيل مشهد التوازن والقوة في النظام العالمي وتفرض تغييرات حاسمة فيه.

على أن من نتائج السياسة الدافعة نحو الإرهاق الأمريكي لبعض الخصوم والأعداء، من طريق تسعير الطاقة تسعيراً سياسياً، تمكين هذه السياسة نفسها لدول وقوى أخرى معادية للولايات المتحدة أو شديدة الاعتراض على سياساتها من موارد قوة مالية واقتصادية تسمح لها اليوم وفي المستقبل المنظور بالخروج من ضائقتها المادية الخانقة أو بتعزيز مشاريعها التنموية العملاقة وإعادة تأهيل قواها في مواجهة التهديدات الأمريكية، وذلك ما ينطبق مثلاً على دول ثلاث في علاقة صراعية -متفاوتة الحجم والحدة- مع الولايات المتحدة هي: روسيا وإيران وفنزويلا، ففي حين استفادت روسيا من ارتفاع سعر الطاقة فأعادت تأهيل اقتصادها شبه المدمر، وبعثت الروح في برامجها العسكرية، وباتت أقرب إلى التمرد على السياسة الدولية للولايات المتحدة، كسرت إيران الحصار الاقتصادي المضروب عليها، ووفرت لبرامجها العسكرية والاستراتيجية موارد مالية لم تكن في حوزتها قبل أربع سنوات، وزادت من قدرتها على تهديد المصالح الأمريكية، تماماً مثلما أصبح في حوزة فنزويلا شافيز من موارد القوة ما يمكنها من أن تمضي بعيداً في صياغة حلف إقليمي راديكالي في أمريكا اللاتينية مناوئ للسياسة الأمريكية في وسط القارة وجنوبها.

غير أن المسألة الأدعى إلى التفكير في معرض الحديث عن ارتفاع أسعار النفط هي التنمية ومستقبل برامجها في ضوء ذلك الارتفاع، إن بين المسألتين شديد صلة إذ لا إنتاج من دون طاقة، وكلما ارتفعت تكلفة الأخيرة ألقى ذلك بنتائجه على حركة الإنتاج والتنمية وتراكمها، وهي علاقة تصح أكثر ما تصح في حالة البلدان الفقيرة إلى موارد الطاقة أو خاصة تلك التي ينعدم فيها وجود هذه الموارد، وإذا كان يسع بلداناً صناعية غير منتجة للطاقة مثل اليابان وألمانيا أن تتغلب نسبياً على ارتفاع أسعار المحروقات بسبب غناها وقدرة اقتصادها القوي على استيعاب مثل ذلك الارتفاع، فإن الغالبية العظمى من دول الجنوب لا تملك أن تواجه ثقل ذلك الارتفاع على اقتصاداتها، الأمر الذي يضغط على برامج التنمية فيها وعلى الانفاق على تلك البرامج، ويرفع من مخاطر الغلاء الفاحش والركود الاقتصادي فيها، ولعل ثلثي البلدان العربية- غير المالكة لموارد الطاقة- من فئة البلدان التي ستتضرر برامج التنمية فيها بسبب ذلك الارتفاع وستشهد ذيولاً اجتماعية قاسية.

وفي المقابل ستتوقف هذه الطفرة الهائلة في الفوائض المالية الناجمة عن ارتفاع سعر النفط، موارد استثنائية للدول المنتجة للنفط ومنها دول الخليج العربي لضخها في برامج التنمية الوطنية. وثمة من يقلل من أهمية هذه الفوائض والموارد المالية في ضوء حقيقة الانخفاض المثير في قيمة الدولار (ومن حيث يجري التسعير به في الاقتصاد النفطي الخليجي من دون بيان كبير أثر حتى الآن لسلة العملات المتنوعة). ومع أن هذه الملاحظة لا تخلو من وجاهة (حيث قيمة البرميل الفعلية اليوم ليست أعلى مما كانت عليه قبل عام ونصف حيث كان سعره دون الثمانين دولاراً) إلا أنها تتجاهل أن قيمة الدولار لن تظل منخفضة حين ترتفع الأسباب السياسية التي أدت بها إلى الانخفاض.

لكن الأهم من ذلك كله أن تتقن دول الخليج الاستفادة الناجعة- هذه المرة- من فوائضها فتسلك سبيل الانفاق الرشيد، وتتجه إلى الاستثمار في القطاعات المنتجة بدل قطاعات الخدمات والعقار، وأن تهيئ بناها الاقتصادية والإنتاجية لحقبة ما بعد النفط. التحدي الأضخم لديها اليوم هو الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي.

* نقلا عن جريدة "الخليج" الإماراتية