الحافلة الجميلة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ماري رشو | المصدر : www.awu-dam.org

لن ينسى يومه هذا! فكّر وهو يترجّل من سيارته الفاخرة، منقبض النفس، منكمشاً. أغلق باب غرفته. راقب وجهه في المرآة. لماذا رفضته تلك الفتاة؟ وهو الذي لم ترفضه امرأة من قبل؟ شعر بالأسى. أسند رأسه بكفّيه، وراح يستعيد التفاصيل.‏

كعادته كل صباح، تنهّد بحزم، بغية جلب الصمت. ألقى رأسه على المسند تاركاً للسائق فرص التكيّف بالسرعة، كي يصل في الوقت المناسب، وكعادته أيضاً، راح ذهنه يعمل، يصنّف الساعات القادمة. يوظّف الأفكار. يرتّب عمليات تعود بالفائدة المرجوّة، مطلقاً العنان لعمليات الذهن الصعبة. يجمع، يطرح، يضرب. تململ.. يجب الاهتمام بأشياء مختلفة. غرق في استرجاع قصير، يحمل نشوة النجاح. شعر بالخصوصية والتميّز. راح ينظر نحو البعيد. لم يشأ التعليق حول تفتّح الزهور، التي جلبت البهجة لعينيه. تنبّه لسرعة السيارة. قطّب. كرّر تنهيدته حاسباً المسافة والزمن. فكّر بالسائق الذي يسترق النظر إليه، من أكثر من مرآة. استطاع قراءة أفكاره. لماذا لم يتزوّج سيّده؟ أو لمن سيترك ثروته؟ أسئلة أجابه عليها منذ اليوم الأول، بطريقة ألغت جميع الأسئلة اللاحقة.‏

لعن ذاكرته وأفكاره. قرّر الاستكانة والاستسلام للآتي. لاحظ جمال الطبيعة. أخذت عيناه تلتقط الصور. السماء. الحقول. السيارات العابرة. فكّر. كل شيء رائع. هاجمه شعور البهجة، إنها حالة تنتابه بين الفينة والفينة، حالة لا يدري مصدرها. يعيش بها لحظات، ويغادرها بلا مبالاة. فمشاعر الاكتفاء تتسلّط عليه، ويرجع ذلك إلى حياته المليئة بالعمل، والمغامرات، وقصص الحب، ولا يستغرب مواقفه أمام الذكريات التي تعبر ببرود، أو دون لمسة ألم أو فرح أو كليهما.‏

عمّ الأجواء صمت، عدا صوت الموسيقى المنبعث من المذياع، ووشوشة النسيم الآتي كالحلم. أتاه شعور جميل، وكأنه يطير. يشقّ الفراغ. إنه يعبر بقوّة. لا مشاكل لديه، لا هموم. يسخّر طاقاته للعمل. تكبر ثقته مع انقضاء يوم مليء بالحركة، وبرفقة الموظفين الذين يقدّمون فروض الطاعة والولاء.‏

يا إلهي كم جميل هذا الصباح؟ فكّر وهو يعبر الطريق. كانت الصور على الجانبين تتوالى أمام عينيه، لوحة إثر لوحة. تغادره، وكأنها تعده بالآني. كل شيء رائع. إنه يوم مختلف، جديد، جريء. هل هو الربيع الذي يفرض وجوده؟ يشعره بالدفء؟ يزرع في عينيه الجمال؟ يوقظ عنده الشباب؟ لماذا تتسلّط عليه هذه المشاعر؟ فكّر ثانية. تململ. هذه أمور لا تهمّه. يجب التفكير بقضايا وخصوصيات العمل. أطبق عينيه. فتحهما، ثم أغلقهما. وخلال ثوان، اكتشف عذوبة الموسيقى الآتية كالحلم. أشياء تدغدغ مشاعره، تحمله وتطير. يا إلهي! إنه يشعر بالحاجة لشيء ما، الحب مثلاً. تراءت صور نساء من حياته. ابتسم تنبّه إذ تذكّر عيني السائق في المرآة. نهض يتابع الطريق.‏

في غمرة ما هو به. لاح لعينيه شيء يشبه باقة ورد. أحنى عنقه، وقد دفع بوجهه إلى الأمام. كانت الورود تخطو ثم تتوقّف، ثم تعود للحركة. وبطريقة لا شعورية طالب السائق بالتمهّل. وخلال ثوان توضّحت الصورة. كانت صبيّة ربيعية الألوان. تتحرّك بثقة. تمشي بخيلاء. تحوّل كل ما يراه وما يقع تحت بصره، وعلى امتداد لامتناه، إلى لوحة يلحظها لأول مرة، وتخلق في نفسه مشاعر غريبة، تشبه الحنين إلى مرابع الطفولة والجمال.‏

سأل السائق بطريقة لا تخلو من الذكاء قائلاً:‏

-ما اسم هذه المنطقة؟‏

-النزهة!‏

تظاهر بالمزاح، وهو يشير إلى عشرات الأمتار:‏

-هذه فتاة تقوم بنزهة!‏

لم يضحك السائق. احتفظ بهدوئه وهو يقول:‏

-ربما تنتظر الحافلة!‏

-أية حافلة؟‏

أجاب السائق بطريقة لا تخلو من الهدوء أيضاً:‏

-الحافلة التي ستقلّها إلى المدينة!‏

فتح النافذة. مدّ نصف جسده. أخرج ذراعه. تلقّى نسمة صافية. راح بصره يشق الطريق، يسابق الزمن، يتساقط على باقة الزهور، يلامسها بقبضة يده، وخلال ثوان ولد ألف قمر، وألف فكرة. خطف نظرة سريعة فيما حوله. تمطّى. إنه على موعد مع الفرح.‏

سيقترب وجه الصبية. يتفحّص جسدها. تقاطيع وجهها، عينيها، نظرتها، حركتها، سبائك شعرها. تلك اللحظة. قفزت إلى ذهنه طرق التنقل، ووسائط النقل. تذكّر منطقة المرائب، وصوراً شتّى، لحافلات، تزدحم بالأجسام، وكم فكّر بهم، حين تتقيؤهم الحافلة، إذ تتقيّأ معهم، الروائح والأنفاس. تذكّر أيضاً فتيات كثيرات كنّ يتهافتن على صحبته، ورفقته، في نزهة، أو زيارة، شعر بالزهو. ستلبّي الفتاة دعوته، تدخل عالمه، تهرب من عالم يضجّ بالقلق والحاجة، تراءت له بابتسامة مشرقة. ابتهج. اقترب. اقترب وجهها. اكتشف جمالها، أنوثتها الصاخبة.‏

فكّر بثوبها الفضفاض الذي يخفي أجمل الأجساد. قفز قلبه. تحفّز. عانق المقعد الأمامي آمراً السائق بالتوقف.‏

توقفت السيارة. توقفت الصبية. توقف الزمن. تصارع الفرح في أعماقه. أصبح ملهماً. أصبح شاعراً. قطع المسافات. عبر الأماسي والأصباح. استعاد أيام الطفولة، وقصص الأحلام، وما تعنيه مواسم الزرع والحصاد، وبيادر القمح والعصافير، وربط الجمال بوجه أطلّ فجأة، ليتلقّف الحرف من ابتسامته، ويترجم أحلى كلماته. ها هي تقول شيئاً. تنظر إليه. في عينيها لهفة واستجابة. إنها ترغب به، بالجلوس إلى جانبه، إنها لحظة الأبدية التي تباغت عمره، حاملة الحلم والأمل، والاستعاضة، وبطريقة لا شعورية، أدار مقبض الباب. أفسح مكاناً، أومأ كي تجلس، وقد شحن كيانه بكل ما في نفسه من رغبات.‏

أجفله صوت الباب الذي صفق ساخراً. أسقطه في ذهول، وخلال ثوان، تراجعت كل التفاصيل. تراجع الربيع. تناءت الصور. غابت. كانت عيناه تشيّعان الحلم. تلتقطان بأسى صورة الحافلة التي توقّفت على عجل، وبقايا زهور لثوب يغيب.‏

لن ينسى هذا اليوم بكل ما حمل. لن ينسى هديل الحافلة وهي تضمّ الصبية. مازال قلبه يخفق. مازالت مساحات عينيه مزروعة بورود مختلفة الألوان، ورود لها رائحة البشر. اجتاحته أفكار عدّة، ومشاعر عدّة. أغمض عينيه ثانية، وراح يستعيد التفاصيل من جديد