الواحة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : نزار نجار | المصدر : www.awu-dam.org

حطّت الحافلة في الموقف، موقف ساحة العاصي، شعرت أنّني ملكْتُ الدنيا، فقد انحصر همّي في أن آخذ طريقي إلى البيت بسرعة. بعد أن أضناني التعب، وأخذ بي السغب! فتدريس ست حصص متّصلة ليس سهلاً، ولساني لم يفتر عن التشدّق بقضايا النحو والصرف، ومسائل الخلاف، وفي القضية وجهان، وذلك هو الإنصاف!..

جذبتني الكتلة المتزاحمة داخل الحافلة، لم يكن هناك مجال لموضع قدم، حتى الأيدي امتدّت من النوافذ، زحام غير عادي، وهذا أنا في الحافلة، يلفّني مع الجموع صمت غير مألوف.. أمسك بطرف مقعد وأتطلّع حولي..‏

لم يعرني أحد التفاته.. حتى السائق الذي أعرفه طالعني بوجه حيادي، أو ربّما لم ينتبه إليّ..‏

الأنظار كلّها غير آبهة، بِمَنْ صعد الحافلة أو نزل منها، شباب ببنطلونات الجينز شاردون، عمال مفتولو العضلات بثياب العمل الزرقاء مبهوتون، طالبات صغيرات بمراييل المعاهد، لوين أعناقهن بصمت، مهندمات بربطات عنق ملوّنة ومضحكة قوّسن حواجبهنّ وفتحن عيونهن على اتّساعها...صغار بسراويل ضيقة وعصرية، فوقها كنزات مقلّمة، واسعة الصّدر تكشف عن وجوه محتارة، وعيون مفعمة بالدهشة، أناس بأردية ملوّثة بالهباب والسخام تعلّقوا بسقف الحافلة وهم يمدّون أنظارهم بجسارة. كلّهم شغلوا المقاعد والممرّ. كلّهم ارتصّوا، كتلةً متلاحمة، بدت نظراتهم تائهة تماماً، لا مشتّتة بل غامضة، التقت في اتجاه واحد.. أخذت مساراً محدّداً، لم يكن أحد ينظر إلى أحد...‏

السائق الذي أعرفه منطلق إلى غايته، يكمل دورته في المدينة الصّغيرة، غير آبه بشيء، إلاّ من نظرة حانية يمدّها بين الفينة والفينة، لتلتقي مع أنظار ركابه في نقطة!.‏

نقطة بدت لي بهيجة مشعّة؛ عنصر نوراني. طالعني فجأة من ظلمة المكان وكدره، توهّج أمام عيني، فجذبني تجاهه أو أنّني انجذبت إليه..‏

أيّ نور آسر أشرق في الحافلة؟!.أيّ جاذبيّة خفيّة كانت ترفّ في استحياء وخفر! في هذه المركبة الغارقة في بحر الصّمت الخصيب؟!‏

كانت هناك في كرسيّها، لمحت جانب وجهها النقيّ النّاعم، خيّل إليّ أنّني لم أر في حياتي وجهاً يشبهه، تجلّى في رونق الصّبا. وشعّ بابتسامة رقيقة هادئة، وطاف في العينين حلم طاغٍ...‏

لم يكن وجه صبيّة، إنّما هو وجه السعادة نفسها!..‏

وبأسرع من وميض البرق. داهمني الوله، وأخذني الانشداه....في لحظة خاطفة، شعرتُ بالغبطة، لأنني مع هؤلاء جميعاً في تقاربهم ووجودهم وحضورهم الحميمي...‏

بدا لي أنّ روحاً جديدة تلبّستهم...ملء أنفسهم شعور مبهم، لكنّه ينطوي على كلّ شيء.. كلّ شيء.. فهو الحزن وهو الفرح، هو الرغبة في الحياة، وهو الرهبة منها..‏

أطبقت من حولهم رؤى محلّقة، والعيون تسيّج وجه السعادة، النظرات تحدق به..‏

أيّ وجه، وأيّ عينين، واسعتين باهرتين، ها هنا منبع الضيّاء، ها هنا منسكب النّور.. سحر خاص، روح شفيفة، بريق متوهّج، والنظرات تلتحم من أجلها، تتوحّد، تتعانق بالمحبّة والسلام...‏

توقّفت الحافلة..‏

نزل أناس وهم كارهون، صعد آخرون ليدخلوا مدار الغبطة. تباشير سرور، تلويحات فرح، ارتسمت على الوجوه المكدودة الساغبة، اللاهفة، النازفة، الراعفة... ما الذي يدور في كلّ رأس؟.. ما الذي يصطرع في كلّ صدر؟ ما الذي يخفق به في كلّ قلب؟..‏

هيهات، هيهات لما يقارنون.. بين نسائهم وزوجاتهم، وما يرون.. مع أحلامهم طاروا، أجنحتهم رفرفت في سماء لا تُرى، نحنحات ابتلعت، وبريقهم بدأوا يجرضون.. لم يفصح واحد عن مبهماته، والوجه الملائكي يتراءى لهم كالبشارة، يغسل أوصاب العمر، يزيح ليالي القهر، يخفّف أغلال النكد والذلّ، والأرق والتعب والعذاب..‏

الواحة ظليلة وهم يتفيأون، راحةً وأماناً يلتمسون، وعلى أعتابها تضجّ قلوبهم، وتتوحّد أحلامهم، تراءت أمنيات لا نهاية لها، ولا هدف.. شعروا أنّهم سعداء، ولكنْ ممّ هذه السعادة؟!.‏

لم يكن أحد راغباً في شيء، ولا مفكراً في شيء.. كانوا سعداء وكفى.. اشتعلت أرواحهم جملة.. انداحت موسيقى خفيفة مسكرة، لم يسمعوا بها من قبل، لانت نظراتهم المتجهّمة، استسلمت أوجاعهم لخدر لذيذ، استنامت أكفّهم المعروقة، استراحت أحزانهم استراحة المحارب، وضعوا أسلحتهم المشهرة، قلّموا أظافرهم المستطيلة، رفعوا راياتهم البيضاء...‏

مطر ربيعي ناعم، غسل نفوسهم المقهورة، أزال ماران على قلوبهم الموجوعة.. فراشات ملوّنة طارت من كلّ صوب، ابتسامات مبهمة ارتسمت، دوائر من متعة اتّسعت، حنان دافئ احتوى أرواحهم.. عند أول منعطف توقّفت الحافلة...‏

نهضت الصّبية، نهضت معها عيوننا، بدت قسماتها هذه المرّة أشدّ سناء وبهاء..‏

لم يتحرّك أحد من موضعه، ليفسح الطريق..‏

نظرات في أعيننا مباشرة، نظرة فيها كلّ الثقة والابتهال والعرفان. وفي لحظة...لمرأى وجهها الآسر، تزحزح كلّ مَن في الممرّ.. لانت الكتلة المزدحمة دفعة واحدة.. ذابت حناناً ورقّة.. وبهدوء.. نزلت.. وابتعدت..‏

هبطت الرؤى من عليائها.. تبعثرت الأطياف. تشرّدت النّظرات، لملم الراكبون هواجسهم وأحلامهم.. لملموا أنفسهم... جمعوا أشتاتهم المبددّة.. عاد كلّ شيء إلى رتابته ومَلله.. إلى تجهّمه وقسوته... إلى تحدّيه وصراعه.. وانكفأ الجميع يواجهون خيباتهم المقبلة..