الجدار

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد رشيد الرويلي | المصدر : www.awu-dam.org

الجدار

إذا لم يسالمْكَ الزمانُ فحاربْ

 

وباعدْ إذا لم تنتفعْ بالأقاربِ

ولا تحتقر كيدَ الضعيفِ فربما

 

تموت الأفاعي من سموم العقاربِ

فقد هَدَّ قِدْماً عرشَ بلقيسَ هُدهدٌ

 

وخرَّب فأرٌ قبل ذا سدَ مأربِ

 

جداري جداري جداري

 

 

أنت خمري ومتاعي

 

- كفى أيها الأوغاد..

هوت الكفُ الراعشة على وجه الفضولي الذي جاء حاملاً كأسه المترع فهوى، وامتدت بعصبية على آخر وآخر قد اقتربوا، فتعالت القهقهات صاخبة ما لبثت الأفواه أن أُغلقت عندما تقدم حسان متمايلاً، فسدد لكمة سكرى إلى وجه أخيه جاءت على وجه أحد الفضوليين، وسقط حسان أرضاً بأحضان ذلك الفضولي، وبعد استراحة قصيرة في مرقده نهض مزمجراً فسدد لكمةً أخرى إلى وجه أخيه الذي وقف أمامه جامداً كالصنم، فسال الدم غزيراً من أنفه..

تعالت الأصوات مشجعةً ومستنكرةً بآن واحد:

- لكمةً أخرى يا حسان..

- خذ ثأرك من أخيك يا صادق..

- هيّا يا حسان..

- لا ترحمه يا صادق..

لمن أردّ هذه الإهانة.. وإلى من أمدّ في عينه إصبع الإدانة..

أمسك صادق عصاً عجراءَ كانت مسندةً على نافذة قريبة منه، وانهال بها على رؤوس الحاضرين عدا إخوته، فترنحوا جميعاً يسبحون في بركة من الدماء..

وقف حسان وانتزع العصا من يد أخيه، فانهال عليه ضرباً وركلاً حتى أدماه ثانية، وصاح به غاضباً:

- لن تنام الليلة في البيت أيها الوغد.. هيّا ارحل من هنا.. ليس لك ولا لأخوتك حجيرةٌ واحدةٌ من كلِّ أملاكِ أبيك.. ألم تقل لك زوجتك؟. هيّا أخرج، ولا ترني وجهك بعد اليوم.

***

شراعي المنهوك يلوح للشطآن البعيدة.. يزفر آهات العودة.. مطفأةٌ تلويحتي.. مضحك بكائي.. تائه في لجة الكلام والعواطف البلهاء.. لا أملك سوى جسدٍ أدمته العصا العجراء وأصابع صفراء.. وصلعةٍ يقال أَنها علامةُ الذكاء..

وحيداً أدق خطاي على أديم القهر والضياع، وظلي يسابق خيول المطر التي أخذت سنابكها تعزف بصخب ألحان الغد المجهول..

خيول المطر تتوقف فيتوقف ظلي بلا دماء، ويبدأ الصمت الكئيب الذي لا يجرحه سوى أنين الأشجار التي يضاجعها الريح..

- افتحي الباب يا فرح..

- ما بك يا صادق ؟!

- هيّا استعدي للرحيل.. لن ننام الليلة في ظل هذا الجدار الملعون..

- أمهلنا حتى الصباح..

- لا.. هيّا خذي ابنك إلى بيت جده، وسألحق بكما بعد قليل..

لا وجود للحب تحت المقاصل، ولا مكان للصفح أمامَ غدرِ الخناجر..

الجدار يتهاوى تحت وقع ضرباتِ مطرقةٍ صماء انهالت بقوة وعصبيةٍ على كل ركن فيه.. الصراخ يعلو من كل صوب، والضربات تتلاحق بهمجية، فتهبط قطع الجدار الرخو هنا وهناك كقطع السحاب المتناثرة لتكشف بجلاء ووضوح عن قمر ينثر بسخاء أطيافاً سحرية تبعث في النفس الارتياح..

الصمت يخيم هنيهة ما يلبث أن يتململَ حين يشق حجبه صوت حبيب إلى قلبي:

- قم يا صادق كفاك نوماً..

- والدي!! والدي!!

- ما بك يا بني؟! لِمَ ترتجف؟!

- لا شيء.. لا شيء..

- هيّا يا بني، فأخوتك بانتظارك.

أخرج الوالد من جيبه المنتفخ رزمةً من الأوراق المالية وزعها علينا بسخاء..

عيناي تحدقان ببلاهة في عيونِ أخوتي المغلفةِ بالدموع، فاعترتني رجفةٌ ما تعودتها، فتشبثت بأذيال والدي، وبكيت طويلاً عند قدميه.. جفّف دموعي بمنديله القطني وقبلني متسائلاً:

- ما بكم يا أبنائي؟! أهذه أولُ مرة أغادركم فيها إلى بيت الله الحرام؟!

لن أتأخر عليكم إن شاء الله.. أما إذا قدر الله ولم أعُد فوصيتي مودعةٌ عند عمكم صالح.. مطلبي الوحيد وغاية ما أتمناه أن لا تقيموا أي جدار يفصل بينكم مهما قست الظروف وتعددت الأسباب