هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشك في الوحي؟

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org

الشبهة
ورد في القرآن قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس :94]
و قوله: ً{ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف :2]
وواضح من هذا أن نبي الإسلام كان يشك في مصدر وحيه حتى نصحه مصدر وحيه أن يسأل في ذلك اليهود والنصارى الذين يقرأون الكتاب من قبله. فإن كان الرسول يشك في رسالته والمبلغ يرتاب في صدق بلاغه، فكيف يتوقع من سامعيه أن يصدقوه؟
 
الرد عليها
مركز الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية
وثوق النبي -صلى الله عليه وسلم-فيما يوحى إليه :
    بنظرة كلية على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى خطاب القرآن الكريم له يتبين بجلاء مدى ما كان عليه من الوثوق بما كان يتلقاه من الوحي الكريم وأن مصدره  من عند رب العالمين جل شأنه.
    فانظر -مثلاً- إلى موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن نازله العداء طول عمره فجاهدهم وصبر على جهادهم  طيلة ثلاث وعشرين سنة ثابتاً على دعواه بأنه نبي مرسل وأنه يوحى إليه، أيعقل من إنسان أن يصبر هذا الصبر على جهاد  بني عمومته من العرب وهو يشك فيما يوحى إليه؟!
    و انظر كيف عانى في سبيل توصيل ما أمر أن يبلغه للناس إذ كُذِّبَ وأوذي بالضرب مرة وبالشتم أخرى وبالهجر والمقاطعة ثالثة كل هذا وهو ثابت الجأش لا يتزعزع عن دعوته،أتراه يفعل ذلك وهو شاك -حاشاه-و لو للحظة في مصدر ما يتلقاه؟
    و انظر كذلك إلى تعريضه حياته –بأبي هو وأمي- للخطر  بأن ينهى الحراسة التي كانت تحرسه من أخطار أعداء متربصين به وذلك بعد أن نزل قولُه تعالى: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة :67]، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }[المائدة :67] فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم:" أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله" (1) هل يعقل أن يعرض عاقل حياته-وهي أهم ما يحتاط له- للخطر بناء على أوهام أو شكوك ؟و ربي إن ذاك لبعيد.
     وغير ذلك كثير من المواقف تريك ما كان عليه من ثبات على دعوته بما لا يدع مجالاً لشك أو ريب.

معنى الآيتين :
     لا يعقل أن يكون في  الآية معنى فيه شيء من إثبات الشك في مصدر الوحي خصوصًا إذا كان هذا الشك –المٌدَّعى- في جانب من مهمته تبليغ الوحي، فإن المتصدر لإقناع الناس يجتهد في أن لا يظهر ما يعطي لسامعه حجة على ارتيابه في أمر دعوته، وكيف يفعل ذلك وحوله من الأعداء من لو فهم هذا لشنعوا عليه أي تشنيع ؟ بل وإن حوله من الأصحاب والأتباع من لو التفت إلى هذا المعنى لقاتلوه بعدما قاتلوا معه خصوصا بعد أن باعوا من أجل هذا الأمر الغالي والنفيس وتركوا الأهل والولد، فلا جرم قد جرى نظم هذه الآيات على سنن من اللغة يفهمه من تدرب على أساليب العربية  يخرس ألسنة المعاندين ويرطب قلوب الأصحاب .
    فأما قوله تعالى:{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ }[يونس :94]
    فإنه بيان من الله على صدق دعوى النبي صلى الله عليه وسلم  بأن هذا الكتاب وحي الله إذ قد جاءت الآية بعد سرد قصص بعض الأنبياء نوح وموسى وذلك ابتداء من قوله {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ} [يونس :71]
  فأفادت أن من أراد أن يستوثق على صحة مصدر هذا الكتاب –و التثبت حق للمتأمل- فعليه بواحد من هذه الأدلة وهو أن ما سبق وسمعته من القصص القرآني فيه قدر مشترك مع كتب السابقين وهذا القدر دليل على أن منزل الكتابين واحد إذ كيف لأميٍ-وهو محمد صلى الله عليه وسلم- أن يأتي بتلك الأخبار ولم يقرأ من هذه الكتب شيئاً.
    يقول الخادمي: وأما قوله تعالى { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب } - فليس لوجود الشك فيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى البشرية كما وهم بعض المفسرين بل المراد قل يا محمد للشاك إن كنت في شك إلى آخره بدليل قوله تعالى - { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } الآية وقيل : الخطاب لغير النبي من قبيل - { لئن أشركت ليحبطن عملك }(2)
     يقول الإمام الطاهر عن معنى الآية الكريمة ووجه ربطها بالآية السابقة: "تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلا لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم، انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل بهم ما حل بالأمم المماثلة لهم، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث، ومـا في الكتب السابقة مـن الأنباء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ". (3) 
    و أما قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف :2]
    فليس فيها -من قريب ولا بعيد-ما يفيد وقوع شيء من الشك في مصدر الوحي بل هو توجيه بأن لا يبالي من يؤمن بهذا الكتاب مما عساه أن يضيق به صدره من تكذيب مكذب أو شبهة مشتبه فالحرج الضيق لا الشك.
    قال الرازي: "أي: هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصدر به، فإنه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكر المؤمنين، والمقصود: تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم وإغاظة الكافرين، و تأنيس المؤمنين، أي: هو كتاب أنزل لفائدة، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صدرك حرج إن كذبوا. وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السور العجيبة البيان" ثم قال: "والمعنى أن الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج بل لينشرح صدرك به"(4)
 
 
 

الهوامش:
--------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين (ج 3 / ص 147) ،و قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
 (2) بريقة محمودية 1/196
(3) التحرير والتنوير 11 / 2840 0
(4) انظر مفاتيح الغيب 8 / 12 وما بعدها0