الكلام المتناقض

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : . د / عبد العظيم المطعني | المصدر : www.dar-alifta.org

الشبهة

" جاء فى سورة النساء : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) (1).
ولكننا نجد فيه التناقض الكثير مثل :

 

كلام الله لا يتبدل

كلام الله يتبدل

( لا تبديل لكلمات الله ) (2) ( وإذا بدلنا آية مكان آية . . ) (3)
( لا مبدل لكلماته ) (4) ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) (5)
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (6) ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) (7)

هذه طريقتهم فى عرض هذه الشبهة يقابلون بين بعض الآيات على اعتبار تصورهم ، وهو أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، على غرار ما ترى فى هذا الجدول الذى وضعوه لبيان التناقض فى القرآن حسب زعمهم .

 
الرد عليها
أ. د / عبد العظيم المطعني

الرد على الشبهة :
الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس : ( لا تبديل لكلمات الله ) وآية النحل ( وإذا بدلنا آية مكان آية . . ) لا وجود لها إلا فى أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا . فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد ، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، مثل الموت والحياة  .  فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه فى وقت واحد ، ومحال أن يكون حيًّا و ميتاً فى آن واحد ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان فى محل واحد .
ومحال أن يكون إنسان ما لا حى ولا ميت فى آن واحد وليس فى القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلى إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون .
والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال محال ؛ لأن قوله تعالى فى سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله ) معناه لا تبديل لقضاء الله الذى يقضيه فى شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية .  ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصرالموجودات ، أو تغييرات تطرأ عليها  . كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة  .  هذه هى كلمات الله عزّ وجلّ.
وقد عبر عنها القرآن فى مواضع أخرى بـ . . السنن وهى القوانين التى تخضع لها جميع الكائنات ، الإنسان والحيوان والنبات والجمادات .  إن كل شىء فى الوجود ، يجرى ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التى ليس فى مقدور قوة فى الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها فى الكون .
ذلك هو المقصود بـ " كلمات الله " ، التى لا نجد لها تبديلاً ، ولا نجد لها تحويلاً .
ومن هذه الكلمات أو القوانين والسنن الإلهية النافذة طوعاً أو كرهاً قوله تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت ) (8) . فهل فى مقدور أحد مهما كان أن يعطل هذه السنة الإلهية فيوقف " سيف المنايا " ويهب كل الأحياء خلوداً فى هذه الحياة الدنيا ؟
فكلمات الله - إذن - هى عبارة عن قضائه فى الكائنات وقوانينه المطردة فى الموجودات وسننه النافذة فى المخلوقات .
ولا تناقض فى العقل ولا فى النقل ولا فى الواقع المحسوس بين مدلول آية : ( لا تبديل لكلمات الله ) وآية : ( وإذا بدلنا آية مكان آية . . ) .
لأن معنى هذه الآية : إذا رفعنا آية ، أى وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أى وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضون الأولى .  قال جهلة المشركين : إنما أنت مفتَرٍ (9).
فلكل من الآيتين معنى فى محل غير معنى ومحل الأخرى .
فالآية فى سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله ) والآية فى سورة النحل :  ( وإذا بدلنا آية مكان آية . . ) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً ، ليوهموا الناس أن فى القرآن تناقضاً .  وهيهات هيهات لما يتوهمون .

* * *

أما الآيتان (  لا مبدل لكلماته ) و( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) وقد تقدم ذكرهما فى الجدول السابق .
هاتان الآيتان بريئتان من التناقض براءة قرص الشمس من اللون الأسود :
فآية الكهف ( لا مبدل لكلماته ) معناها لا مغير لسننه وقوانينه فى الكائنات .  وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس .
وحتى لو كان المراد من " كلماتـه " آياته المنـزلة فى الكتاب العـزيز " القرآن " فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهى باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (10).
أما آية البقرة : ( ما ننسخ من آية . . . ) فالمراد من الآية فيها المعجزة ، التى يجريها الله على أيدى رسله .  ونسخها رفعها بعد وقوعها .  وليس المراد الآية من القرآن ، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل .  بدليل قوله تعالى فى نفس الآية :  ( ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير  ) .
ويكون الله عز وجل قد أخبر عباده عن تأييده رسله بالمعجزات وتتابع تلك المعجزات ؛ لأنها من صنع الله ، والله على كل شىء قدير .
فالآيتان ـ كما ترى ـ لكل منهما مقام خاص بها ، وليس بينهما أدنى تعارض ، فضلاً عن أن يكون بينهما تناقض .

* * *
أما الآيتان الأخيرتان الواردتان فى الجدول ، وهما آية الحجر : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وآية الرعد : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فلا تعارض بينهما كذلك ؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه فى الوجود الزمنى ، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها .
والإنجيل الذى أنزله الله على عيسى عليه السلام .
أما الآية الثانية : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فهى إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف فى شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد .  فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ ، يحيى ويميت ، يغنى ويفقر ، يُصحُّ ويُمْرِضُ ، يُسْعِد ويُشْقِى ، يعطى ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب على حكمه ( لا يُسأل عما يفعل وهم يُسـألون ) (11) . فأين التناقـض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى ؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى .  أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم ، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد ، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة ؟ نكتفى بهذا الرد الموجز المفحم ، على ما ورد فى الجدول المتقدم ذكره .
وهناك شبه أخرى يمكن سردها بإيجاز :
 1- إنهـم توهـموا تناقضـاً بين قوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (12) .  وبين قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) (13) . وفى عبارة شديدة الإيجاز نرد على هذه الشبهة الفرعية ، التى تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو فى آية السجدة ألف سنة وهو فى آية المعارج خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفـارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض . ولماذا ؟ لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد .

* * *

فالعارج فى آية السـجدة الأمر ، والعـروج عروج الأمر ، والعارج فى آية المعارج هم الملائكة والعروج هو عروج الملائكة .
اختلف العـارج والعـروج فى الآيتين .  فاختلف الزمن فيهما قصـراً أو طولاً .  وشرط التناقض  ـ لو كانوا يعلمون  ـ  هو اتحاد المقام .

* * *

2- وقالوا أيضًا : إن بين قوله تعالى : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) (14)  .  وقـوله تعالى : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) (15) تناقضا . وشـاهد التنـاقض عندهم أن الله قال فى الآية (13) ( وقليل من الآخـرين ) وقال فى الآية (40)  ( وثلة من الآخرين ) إذ كيف قال أولاً : ( ثلة من الأولين * وقـليل من الآخرين ) ثم قال ثانياً ( ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين ) ولو كان لديهم نية فى الإنصاف ، ومعرفة الحق ناصعاً ونظروا فى المقامين اللذين ورد فيهما هذا الاختلاف لوصلوا إلى الحق من أقصر طريق .  ولكنهم يبحثون عن العيوب ولو كلفهم ذلك إلغاء عقولهم .
هذا الاختلاف سببه اختلاف مقام الكلام ؛ لأن الله عز وجل قسم الناس فى سـورة الواقعة ، يوم القـيامة ثلاثة أقسام .  فقال : ( وكنتم أزواجاً ثلاثة ) :
* السابقون السابقون .   * وأصحاب الميمنـة .    *وأصحاب المشئمة.
ثم بين مصير كل قسـم من هـذه الأقسام فالسابقون السابقـون لهم منزلة : " المقربون فى جنات النعيم "
 ثم بيَّن أن الذين يتبوأون هذه المنزلة فريقان :
كـثيرون من السـابقين الأوليـن ، وقلــيلون من الأجيال المتأخـرين
وذلك لأن السابقين الأولين بلغوا درجات عالية من الإيمان وعمل الباقيات الصالحات .  ولم يشاركهم من الأجيال المتأخرة عن زمنهم إلا قليل .
أما أصحاب اليمين أو الميمنة فبلاؤهم فى الإسلام أدنى من بلاء السابقين الأولين .  لذلك كانت درجاتهم فى الجنة أدنى من درجات السابقين الأولين ويشاركهم فى هذه المنزلة كثير من الأجيال اللاحقة بهم ؛ لأن فرصة العمل بما جعلهم أصحاب اليمين ، متاحة فى كل زمان .
ويمكن أن نمثل للسابقين الأولين بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحاب اليمين بالتابعين ، الذين أدركوا الصحابة ولم يدركوا صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - .
واذا صح هذا التمثيل ، ولا أظنه إلا صحيحاً ، صح أن نقول :
 إن قليلاً منا ، بل وقليل جدِّا ، من يسير فى حياته سيرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كثيراً منا من يمكن أن يسير سيرة التابعين رضى الله عنهم .
وعلى هذا فلا تناقض أبداً بين الآيتين :
( ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين ) .
و ( ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين ) .
3- وقالوا أيضًا : إن فى القرآن آية تنهى عن النفـاق ، وآية أخـرى تُكره الناس على النفاق أما الآية التى تنهى عن النفاق  ـ  عندهم  ـ  فهى قوله تعالى ( وبشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليما ) (16) .
وأما الآية التى تُكره الناس على النفـاق  ـ  عندهم  ـ  فهى قوله تعالى : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفـروا من قـبل قاتلهـم الله أَنَّى يؤفكـون ) (17) .
من المحال أن يفهم من له أدنى حظ من عقل أو تمييز أن فى الآية الأولى نهياً ، وأن فى الآية الثانية إكراهاً ويبدو بكل وضوح أن مثيرى هذه الشبهات فى أشد الحاجة إلى من يعلمهم القراءة والكتابة على منهج : وزن وخزن وزرع .
ويبدو بكل وضوح أنهم أعجميو اللسان ، لا يجيدون إلا الرطانة والتهتهة ؛ لأنهم جهلة باللغة العربية ، لغة التنزيل المعجز . ومع هذه المخازى يُنَصِّبُون أنفسهم لنقد القرآن ، الذى أعجز الإنس والجن .
لا نهى فى الآية الأولى ، لأن النهى فى لغة التنزيل له أسلوب لغوى معروف ، هو دخول " لا " الناهية على الفعل المضارع مثل : لا تفعل كذا .
ويقـوم مقامه أسلوب آخر هو : إياك أن تفعل ، جامعًا بين التحذير والنهى ، ولا إكـراه فى الآية الثانيـة .  وقد جهل هؤلاء الحقدة أن الإكراه من صفات الأفعال لا من صفات الأقـوال أما كان الحرى بهم أن يستحيوا من ارتكاب هذه الحماقات الفاضحة .
إن الآية الأولى : ( وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) تحمل إنذاراً ووعيدا ً.  أما النهـى فلا وجـود له فـيها والآية الثانية تسـجل عن طريق " الخبر " انحراف اليهود والنصارى فى العقيدة ، وكفرهم بعقيدة التوحيد ، وهى الأساس الذى قامت عليه رسالات الله عز وجل .
وليس فى هذه الآية نفاق أصلاً ، ولكن فيها رمز إلى أن اليهود والنصارى حين نسبوا " الابنية " لله لم يكونوا على ثقة بما يقولون ، ومع هذا فإنهم ظلوا فى خداع أنفسهم .
وكيف يكون الـقرآن قد أكرههـم على هذا النـفاق " المودرن " وهو فى الوقت نفسه يدعو عليهم بالهلاك بقبح إشراكهم بالله :
 ( قاتلهم الله) .

 

 

الهوامش:
------------------------------
(1) النساء: 82.
(2) يونس: 64.
(3) النحل: 101.
(4) الكهف: 27.
(5) البقرة: 106.
(6) الحجر: 9.
(7) الرعد: 39.
(8) آل عمران: 185.
(9) انظر تفسير فتح القدير (ج2/232)
(10) تفسير فتح القدير (ج3 ـ ص 333).
(11) الأنبياء: 23.
(12) السجدة : 5 .
(13) المعارج : 4 .
(14) الواقعة : 13 - 14 .
(15) الواقعة : 39 - 40 .
(16) النساء : 138 .
(17) التوبة : 30 .