التسعير

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org

المقصود بالتسعير:
    يقال في اللغة: سعرت الشيء تسعيرًا جعلت له سعرًا معلومًا ينتهي إليه وأسعرته بالألف لغة ([1]).
    وأما في الاصطلاح فهو تحديد الحاكم للقيمة التي يشيع البيع عليها في الأسواق فلا يزاد عليه ([2]).
 النص الحاكم للمسألة، وفقهه:
     عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ. وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ" ([3]).
    ومعنى هذا الحديث: لفت نظر الصحابة إلى نسبة الأفعال حقيقةً إلى الله تعالى، كما في قوله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]؛ فإنهم لَمّا اشتكَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلاء السعر نبههم على أن غلاء الأسعار ورخصها إنما هو بيد الله تعالى، وأرشدهم بذلك إلى التعلق بالله تعالى ودعائه، كما جاء في الرواية الأخرى عند أبي داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ، فقال: "بَلْ أَدْعُو" ([4])، وليس في ذلك تحريم للتسعير، كما أن امتناعه من التسعير في هذه الحالة لا يعني أنه حرام مطلَقًا، فإن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز؛ فإذا تضمن ظلمَ الناس وإكراهَهم بغير حق على البيع بثمن لا يرضَوْنه، أو مَنْعَهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومَنْعَهم مما يَحرُم عليهم من أخذ زيادة على عِوَض المثل فهو جائز، بل واجب ([5])، ومن منع التسعير مطلقًا محتجًّا بهذا الحديث فقد غلط؛ فإن هذه قضية معينة وليست لفظًا عامًّا، وقد تقرر في علم الأصول أن وقائع الأعيان لا عموم لها ([6])، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "قَضَايَا الأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الاحْتِمَال كَسَاهَا ثَوْبَ الإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الاسْتِدْلال" ([7])؛ فهذا الحديث لَمّا كان واردًا على قضية عين لم يصح حملُه على عمومه.
    ومعنى ذلك: أن امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم من التسعير هو من تصرفاته بمقتضى الإمامة والسياسة الشرعية؛ حيث راعى عليه الصلاة والسلام المصلحةَ التي كانت تدعو إليها تلك الظروف حينئذٍ، وكان امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم عن التسعير معلَّلاً بقوله: "وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ"؛ أي أنه راعى ألا ينال أحدًا شيءٌ من الظلم، بائعًا كان أم مشتريًا، وذلك بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم، وذلك كما يكون بحماية البائع من إلزام المشتري إياه بسعر دون الذي يريد بغير حق، يكون أيضًا بحماية المشتري من غبن البائع له واستغلال ضرورته وحاجته، كما في حالة الاحتكار التي تستدعي التسعير لمقاومة ظلم المحتكرين، ولو كان هذا الغلاء مسبَّبًا عن ظلم الباعة من جهة أو المشترين من جهة أخرى لسعى صلى الله عليه وآله وسلم في رفع هذا الظلم بالأخذ على يد الظالم وإلزامه بحدٍّ لا يتجاوزه؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ" ([8]).
    والدليل على ذلك: أن معنى التسعير موجود في الشرع الإسلامي؛ كما في الشفعة، وكما في سِرَايَة العتق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" ([9])؛ فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تقويم جميع العبد بقيمة المثل هو حقيقة التسعير ([10])، وهو أصل في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرًا بثمنه للمصلحة الراجحة، وإذا كان هذا واجبًا لمصلحة العبد الخاصة وهي تكميل عتقه فهو أوجب وأولى في المصلحة العامة التي تكون حاجة الناس إليها أعظم كالطعام والشراب واللبس وغير ذلك مما فيه قوام عيشهم وعماد حياتهم.
    وهذا الفهم هو الذي دل عليه فعل السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين:
    فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن مَرَّ ِحاطِب بنِ أَبي بَلتَعَة رضي الله عنهما وَهُوَ يَبِيعُ زبيبًا له بِالسُّوق، فقال له عمر بن الخطَّاب: "إِمَّا أَنْ تَزِيدَ في السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا" ([11]).
    وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتابه "الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار": "وقال الليث بن سعد، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد: لا بأس بالتسعير على البائعين للطعام إذا خيف منهم أن يُفسِدوا أسواق المسلمين ويُغلوا أسعارَهم، وحق على الوالي أن ينظر للمسلمين فيما يُصلحهم ويعمُّهم نفعُه.
    قال الليث: وقال ربيعة: السوق موضع عصمة ومنفعة للمسلمين؛ فلا ينبغي للوالي أن يترك أهل الأسواق وما أرادوه من أنفسهم إذا كان في ذلك فساد لغيرهم، ولو كان في ذلك إخراجهم من السوق وإدخال غيرهم فيه، والقيمة حسنة (أي: تحديدها)، ولا بد منها عند الحاجة إليها مما لا يكون فسادًا ينفر به الجالب ويمتنع به التاجر من البيع؛ لأن ذلك أيضًا بابُ فسادٍ لا يدخل على الناس ولم يكن رأي الوالي إقامة السوق وإصلاحها، قال ربيعة: وإصلاح الأسواق حلال" ([12]).
    وقال: "وقد قال مالك: لا يجوز احتكار الطعام في سواحل المسلمين؛ لأن ذلك يضر بهم ويزيد في غلاء سعرهم، ومن أضر بالناس حيل بينه وبين ذلك" ([13]).
    وقال أيضًا: لا يُخرَج الطعام من سوق بلد إلى غيره إذا كان ذلك يضر بأهله، فإن لم يضر بهم فلا بأس أن يشتريه كلُّ من احتاج إليه" اهـ  ([14]).
    وقال الإمام الباجي في "المنتقى شرح الموطأ": "وروى أشهب عن مالك في "العتبية" في صاحب السوق يُسعِّر على الجزّارين: لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل، وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعَّر عليهم قدرَ ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق" ([15]).
    ونصوص الفقهاء في ذلك تدور على أن هذه المسألة ترجع إلى مراعاة المصلحة، وأنها من قبيل السياسة الشرعية التي تُقَدَّم فيها المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وأن الحرمة في التسعير إنما هي في حالة انعدام المصلحة الشرعية منه.
 
الحالات التي يكون للحاكم فيها حق التسعير:
    وقد نص الفقهاء على بعض الحالات كمثال لِمَا يكون للحاكم فيه حقُّ التسعير، ومن هذه الحالات:
1- تعدي أرباب الطعام عن القيمة تعديًا فاحشًا:
    وفي هذه الحالة صرح فقهاء الحنفية بأنه يجوز للحاكم أن يسعر على الناس إن تعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديًا فاحشًا، وذلك بعد مشورة أهل الرأي والبصيرة، وهو المختار وبه يُفتَى؛ لأن فيه صيانةَ حقوق المسلمين عن الضياع ودفعَ الضرر عن العامة.
    جاء في "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نُجَيم من الحنفية: "يُتحمَّل الضررُ الخاص لدفع الضرر العام، وعليه فروع: منها التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش" ([16]).
2- حاجة الناس إلى السلعة:
    وفي هذا المعنى قال الحنفية: لا ينبغي للسلطان أن يُسَعِّر على الناس إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة، كأن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديًا فاحشًا ([17]).
    وكذا إذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد: فعلى أهل السلاح بيعه بعوض المثل، ولا يُمَكَّنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو.
    ويقول ابن تيمية: إن لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة: فإنه يُجبَر على بيعه للناس بقيمة المثل.
    ولهذا قال الفقهاء: من اضطُّر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره ([18]).
3- احتكار المنتِجين أو التجار:
    لا خلاف بين الفقهاء في أن الاحتكار حرامٌ في الأقوات؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ" ([19])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الْجَالِب مَرْزُوق وَالْمُحْتَكِر مَلْعُونٌ" ([20])، وقوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ اِحْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّه تعالى وَبَرِئَ الله تعالى مِنْهُ" ([21]).
    كما أنه لا خلاف بينهم في أن جزاء الاحتكار هو بيع السلع المحتكرة جبرًا على صاحبها بالثمن المعقول مع تعزيره ومعاقبته إن اقتضت المصلحة ذلك.
    قال العلامة الأُبِّي المالكي في شرح مسلم: "وكان الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه وأن يباع بأقل مما يبيع الناس حتى يرجع الناس إلى ما رسم من الثمن، ثم يأمر أيضًا أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو القدر الذي يصلح بالناس، ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل وكان ذلك من حسن نظره" ([22])
4- حصر البيع لأناس معيَّنين:
    صرّح ابن تيمية بأنه لا تردُّدَ عند أحد من العلماء في وجوب فرض التسعير في حالة إلزام الناس أن لا يبيع الطعامَ أو غيرَه إلا أناسٌ معروفون، فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون إلا بقيمة المثل؛ لأنه إذا كان قد مُنِع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو يشتروا بما اختاروا لكان ذلك ظلمًا لغيرهم من البائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلما للمشترين منهم.
    فالتسعير في مثل هذه الحالة واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل ([23]).
5- تواطؤ البائعين ضد المشترين أو العكس:
    إذا تواطأ التجار أو أرباب السلع على سعر يحقق لهم ربحًا فاحشًا، أو تواطأ مشترون على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس فإن التسعير يكون واجبًا حينئذٍ.
    يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا منع غير واحد من العلماء -كأبي حنيفة وأصحابه- القُسّام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا؛ فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلَوْا عليهم الأجر، فمَنْعُ البائعين -الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدَّروه- أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا؛ فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضًا، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعًا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه -فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف، ويُنَمُّوا ما يشترونه- كان هذا أعظم عدوانًا من تَلَقِّي السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش (وهي كلها بيوعٌ منهيٌّ عنها)، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يُضطَّروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه، وما احتاج إلى بيعه وشرائه عمومُ الناس فإنه يجب أن لا يُباع إلا بثمن المثل إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة" اهـ ([24]).
6- احتياج الناس إلى صناعة طائفة:
    وهذا ما يقال له "التسعير في الأعمال": وهو أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفةٍ كالفِلاحة والنِّساجة والبناء وغير ذلك، فلولي الأمر أن يُلزمهم بذلك بأجرة المثل إذا امتنعوا عنه، ولا يُمَكِّنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يُمَكِّن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم.
    وقد حرَّر ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى حكم التسعير في الإسلام تحريرًا جيدًا، وخلاصة رأيهما فيه: أنه إذا لم تتم مصلحة إلا بالتسعير سعر عليهم السلطان تسعيرَ عدلٍ بلا وَكْسٍ ولا شَطَطٍ، أمّا إذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
    وهذا يدل على أن الحالات المذكورة ليست حصرًا للحالات التي يكون للحاكم فيها حق التسعير، بل كلما كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير ولا تتحقق مصلحتهم إلا به كان على الحاكم أن يقوم به حقًّا للعامّة؛ مثل أن يقوم الوالي بالتسعير عام الغلاء كما نقل عن الإمام مالك ([25])، وهو وجهٌ في مذهب الشافعية أيضًا ([26]).
    كما أنه لا بد لفرض التسعير من تحقق صفة العدل؛ إذ لا يكون التسعير محققًا للمصلحة إلا إذا كانت فيه المصلحةُ للبائع والمبتاع، ولا يسوغ له منه ما يضرُّ بالناس أو يُلغِي ربح التُّجّار بالكلية؛ ولهذا اشترط الإمام مالك عندما رأى التسعير على الجزارين أن يكون التسعير منسوبًا إلى قدر شرائهم، أي: أن تُراعَى فيه ظروفُ شراء الذبائح ونفقة الجزارة، وإلا فإنه يخشى أن يقلعوا عن تجارتهم ويقوموا من السوق كما سبق النقل عنه رحمه الله.
    فقد روى أَشهب عن مالك في العتبية في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل , ولحم الإبل نصف رطل , وإلا خرجوا من السوق قال إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به , ولكن أخاف أن يقوموا من السوق ([27]).
    وقد صرّح فقهاء الشافعية بأن الإمام له أن يعزِّر من خالف التسعير الذي رسمه؛ لِمَا فيه مجاهرة الإمام بالمخالفة ([28]).
    قال الإمام النووي: "وإذا سعر الإمام عليه فخالف استحق التعزير" اهـ ([29]).
    وسئل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى عن متولي الحسبة إذا سعَّر البضائع بالقيمة، وتعدَّى بعض السوقيَّة (أي: من أهل السوق) فباع بأكثر من القيمة، هل له أن يعزِّره على ذلك؟ فأجاب: إذا تعدَّى السوقيُّ وباع بأكثر من القيمة يعزره على ذلك ([30]).
    وقد أعطت الشريعة الإسلامية للحاكم حق تقييد المباح إذا رأى في ذلك المصلحة؛ كما في تقييد الملك الخاص بل ونزعه استثناءً إذا اقتضت ذلك المصلحةُ العامة، وإحياء الموات، وتملك المعادن، وحماية الحِمَى، ونص الفقهاء على أن للحاكم أن يتخير من أقوال العلماء ومذاهبهم في المسائل الخلافية والأمور الاجتهادية ما يراه محققًا لمقاصد الشرع ومصالح الناس، وأن عليه أن يجتهد في تحقيق المصلحة قدر ما يستطيع فيما لا يخالف قطعيات الشرع وثوابته، وأنه إذا أخطأ في اجتهاده هذا مع توخِّيه المصلحةَ وقصدِه وجهَ الله تعالى من وراء ذلك فإن خطأه مغفور، بل إن الشرع الشريف كفل له الأجر في الحالتين: حالة الخطأ وحالة الصواب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" ([31])، وفي رواية: "إِذَا قَضَى القاضي فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ كَانَ لَهُ أجر أو أَجْرَانِ" ([32]).
    فإذا انضاف إلى ذلك أن عقود البيع والشراء لم تَعُدْ عقودًا بسيطة تقتصر آثارها على أطرافها أو على طائفة معينة أو أناس معينين كما كان الحال في السابق، بل أصبحت في العصر الحاضر عقودًا مركَّبةً مرتبطةً بالنظام العامّ للدولة؛ حيث دُعِمَت السِّلَع والأقوات، وارتبطت الأسعار بأجور الموظفين، وأصبح الاحتكار خطرًا يهدد أمن الدولة واقتصادها واستقرارها، فإن التسعير حينئذٍ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الاقتصادية للدولة، ويصبح القضاء على الاحتكار واجبًا شرعيًّا وقوميًّا لا خلاف ولا نزاع فيه، مع مراعاة التوازن في ذلك بما يحافظ على تطوير الاستثمار وإنعاش الصناعة وزيادة التنافس في جودة الإنتاج.

فتوى دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ عبد المجيد سليم:
    وبذلك أفتت دار الإفتاء المصرية في عهد فضيلة مفتى الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم، وذلك بتاريخ: 15 جمادى الأولى 1362 هجرية- 19 من يونيه 1943م عندما سُئِل من وزارة التموين قالت: يتحرج بعض الناس من التبليغ ضد التجار الجشعين لبيعهم المواد بأسعار مرتفعة فادحة تزيد على الأسعار المقررة، أو ضد من يختزنون أقوات الناس وأهم ما يلزمهم من احتياجات معاشهم من ذوى الأطماع ومنتهزي الفرص؛ لاعتقادهم أن هذا التبليغ ليس واجبًا عليهم شرعًا، بينما ترى الوزارة أن التبليغ عن هؤلاء المجرمين توجبه الشريعة. فما رأي الشريعة السمحاء في ذلك؟
    فأجاب رحمه الله تعالى بما يلي: "اطلعنا على كتاب وزارة التموين رقم 325 المؤرخ 16/5/1943م، ونفيد: أنه إذا قررت الحكومة أسعارًا لِمَا يحتاجه الناس في معيشتهم من طعام ولباس وغيرهما؛ دفعًا لظلم أربابها ومنعًا للضرر العام عن الناس: وجب شرعًا البيعُ بهذه الأسعار، وكان البيع بأزيد منها من الظلم المحرم شرعًا، وإذا نهت عن اختزان ما يحتاجه الناس كان الاختزان أيضًا محرَّمًا شرعًا ومنكَرًا يجب إزالتُه، ويجب على كل من يعلم أن من التجار من يبيع بأسعار زائدة عن الأسعار المقررة أو يختزن ما يحتاجه الناس مِمّا نُهُوا عن اختزانه أن يبلغ الحكومة لتعمل على إزالة هذا المنكر وتغييره؛ فإنها لا تستطيع إزالته إلا إذا علمت به، فإذا توقف منعُ الظالمين عن ظلمهم وإزالةُ المنكر على تبليغ وإعلام الحكومة به وجب شرعًا على من يعلم أن يبلِّغها ويُعْلِمَها بذلك؛ لأن ذلك سعيٌ في إزالة الظلم، والسعيُ في إزالة الظلم من أعظم وجوه البر.
    وقد قال اللّه تعالى: {وتَعَاوَنوا عَلَى البِّرِّ والتَّقوَى ولا تعاوَنوا عَلَى الإثمِ والعُدوان} [المائدة: 2]، وكيف لا يكون هذا ظلمًا وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على تحريم الاحتكار، وهو احتباس الشيء انتظارًا لغلائه:
    فقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: "لا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ" ([33]). الخاطئ: المذنب العاصي.
    وروى أحمد بن حنبل رحمه اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: "مَنْ دَخَلَ في شيء مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ([34])، أي: بمكان عظيم من النار.
    ورَوَى أيضًا عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: "مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ" ([35])، وقد رَوَى هذا الحديثَ الحاكمُ بما نصُّه: "مَنِ احْتَكَرَ يُرِيدُ أَنْ يتغالى بِهَا عَلَى الْمُسلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ وَقَد بَرِء مِنهُ ذِمَّةُ الله" ([36]).
    وروى ابن ماجه عن عمر أنه قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: "مَن اِحتَكَرَ عَلَى المُسْلِمِينَ طَعَامًا ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالجُذَامِ وَالإفلاسِ" ([37])، إلى غير ذلك من الأحاديث.
    وهذه الأحاديث تدل بمجموعها بطريق العبارة أو بطريق دلالة النص على تحريم اختزان أقوات الناس وسائر ما يحتاجون إليه في معايشهم من غير فرق بين قوت الآدمي والدواب وبين غيره.
    وقصرُ حظرِ الاحتكار على قوت الآدمي والدواب قصْرٌ لا يقوم عليه دليل؛ كيف وظاهرٌ أن العلة هي الإضرارُ بالناس، وهى متحققة في كل ما يحتاجون إليه ولا تقوم معيشتهم إلا به.
    هذا ولولى الأمر أن يسعِّر ما يحتاج إليه الناس إذا كان في هذا التسعير إكراهُ التجار على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعُهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة عليه، وذلك إذا امتنع أرباب السلع عن بيعها مع حاجة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، كما هو حال التجار الآن، في هذه الحالة يجب عليهم بيعُها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بالبيع بهذه القيمة.
    والتسعير ها هنا كما قال شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية": إلزامهم بالعدل الذي ألزمهم اللّه به، وما ورد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من تركِه التسعيرَ ومن قوله: "إن اللّه هو القابض الباسط" ([38]) هو من قبيل واقعة الحال التي لا تَعُمُّ؛ إذ ليس في هذه الواقعة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن أحدًا امتنع عن بيع ما الناس يحتاجون إليه، وحينئذ فالتسعير كما قال ابن القيم في هذه الحالة جائز بل واجب.
    فإذا سعرت الحكومة وجب العمل بما سَعَّرَتْ به وحرُم تَعَدِّي السعر الذي حددته؛ لأن طاعة ولي الأمر واجبة بالكتاب العزيز وبالسنة الصحيحة وبإجماع علماء المسلمين إذا أمر بما ليس بمعصية.
    هذا، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الجوامع في السياسة الإلهية" ما خلاصته:
    ولو كان رجل يعلم مكان المال المطلوب بحقٍّ أو الرجل المطلوب بحقٍّ وجب عليه الإعلامُ به والدلالةُ عليه، ولا يجوز كتمانه؛ فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، وذلك واجب".. إلى أن قال: "فإذا امتنع هذا العالِمُ من الإعلام بمكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق جاز عقوبته بالحبس وغيره حتى يُخبِرَ به؛ لأنه امتنع من حقٍّ واجبٍ عليه، وهذا مطَّردٌ فيما يتولاه الولاة والقضاة وغيرهم في كل من امتنع من حقٍّ واجبٍ عليه من قولٍ أو فعلٍ، وليس هذا من قبيل عقوبة الرجل بإثم غيره حتى يدخل في قوله تعالى: {ولا تَزِرُ وازِرَة وِزر أُخرى} [فاطر: 18]، بل هذا يعاقَب على ذنب نفسه؛ وهو أن يكون قد علم بمكان الظالم الذي يُطلَب حضورُه لاستيفاء الحق منه أو يعلم بمكان المال الذي قد تعلق به حقوقُ المستحقين فامتنع من الإعانة ومن النصرة الواجبة عليه بالكتاب والسنة والإجماع؛ إما محاباةً وحميَّةً لذلك الظالم، وإما إعراضًا عن القيام لله بالقسط الذي أوجبه اللّه تعالى وجبنًا وفشلاً وخذلانًا" إلى آخر ما قال، وما معنا من قبيل أو نظير ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

والخلاصة:
    أنه يجب على من يعلم أن من التجار من يبيع بأسعار مرتفعة تزيد عن الأسعار المقررة أن يبلغ الحكومة ذلك، كما يجب عليه أن يبلغها من يختزن أقوات المسلمين وما يلزمهم في معاشهم كما جاء فى كتاب الوزارة، وإذا كان من يعلم ذلك شخصًا واحدًا وجب عليه وحده التبليغ، فإن لم يُبلغ كان آثمًا، وإذا كان من يعلم أكثر من واحد وجب على كل منهم أن يبلغ؛ فإذا قام به بعضهم لم يأثم أحد منهم لحصول المقصود بتبليغ بعضهم، وإذا تركوا كلُّهم التبليغ كانوا جميعًا آثمين كما هو حكم الواجب الكفائي" انتهت الفتوى.

والله تعالى أعلم.

كتبه:
محمد وسام عباس (عضو أمانة الفتوى)

راجعه:
أحمد ممدوح سعد (رئيس قسم الأبحاث الشرعية)



الهوامش:
 ---------------------------------
([1]) المصباح المنير للفيومي ص 277.
([2]) انظر: شرح البهجة الوردية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري 2/ 436، الموسوعة الفقهية الكويتية 11/ 301.
([3]) رواه الإمام أحمد في مسنده 3/ 286، وأبو داود (2994)، والترمذي (1235)، وابن ماجه (2191) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الإمام الترمذي: "حسن صحيح"، وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 3/ 31: "إسناده على شرط مسلم، وقد صححه ابن حبان والترمذي" اهـ.
([4]) سنن أبي داود (2993)، وحسنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 3/ 31.
([5]) الطرق الحكمية لابن القيم ص 355.
([6]) حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2/ 104.
([7]) البحر المحيط 4/ 208.
([8]) رواه ابن ماجه (2332)، ومالك في الموطأ  (1234).
([9]) متفق عليه رواه البخاري (2338)، ومسلم (3147).
([10]) مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 97، الطرق الحكمية ص 376.
([11]) رواه مالك في الموطأ (1164).
([12]) الاستذكار  6/ 411، 412.
([13])  الاستذكار  8/ 372.
([14]) الاستذكار 8/ 372.
([15]) المنتقى 5/ 18.
([16]) الأشباه والنظائر 1/ 282 -مع شرح الحموي-.
([17]) تبيين الحقائق 6/ 28.
([18]) مجموع الفتاوى 28/ 75، 76.
([19]) رواه مسلم (3013).
([20]) رواه ابن ماجه (2144)، والدارمي (2432)، وضعفه الحافظ في الفتح 4/ 348.
([21]) رواه أحمد 2/ 33، والحاكم في المستدرك 2/ 261، وقال الحافظ الذهبي في التلخيص: "عمرو بن الحصين العقيلي تركوه، وأصبع بن زيد الجهني فيه لين".
([22]) إكمال إكمال المعلم 4/ 304.
([23]) مجموع الفتاوى 28/ 77.
([24])مجموع الفتاوى 28/ 77.
([25]) نقله عنه صاحب الدر المختار من علماء الحنفية 6/ 400 -مع حاشية ابن عابدين-.
([26]) روضة الطالبين 3/ 411.
([27]) المنتقى شرح الموطأ 5/ 18، وانظر: الطرق الحكمية: ص 216.
([28]) تحفة المحتاج 9/ 176، الأشباه والنظائر ص 528.
([29]) روضة الطالبين 3/ 411.
([30]) الفتاوى الأنقروية 1/ 147 -بواسطة الموسوعة الفقهية الكويتية 11/ 310-.
([31]) متفق عليه: رواه البخاري (6805)، ومسلم (3240).
([32]) رواه أحمد 2/ 187، والدارقطني 4/ 203.
([33]) رواه مسلم (3013).
([34]) رواه أحمد 5/ 27، والحاكم في مستدركه 2/ 15، وقال الهيثمي في المجمع 4/ 101: "وفيه زيد بن مرة أبو المعلى، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح".
([35]) رواه أحمد 2/ 351، وقال الهيثمي في المجمع 4/ 101: "وفيه أبو معشر وهو ضعيف وقد وثق".
([36]) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 14، وفي سنده إبراهيم بن إسحاق العسيلي، قال الذهبي في التلخيص: "العسيلي كان يسرق الحديث".
([37]) رواه ابن ماجه (2146)، قال الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة 3/ 11: "هذا إسناد صحيح، رجاله موثقون".
([38]) سبق تخريجه.