التراث الإسلامى والتعريفات والمصطلحات كأداة لفهمه

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

ما هو الدور الذى تلعبه التعريفات والمصطلحات كأداة لفهم التراث الإسلامى ؟
والجواب : 
    أن التعريفات والمصطلحات تعتبر أحد العناصر التي تشكل في ظننا أغلب شفرة التراث، وعندما نقرأ كتب التراث فلابد علينا من استحضار قضية المصطلحات. وهذه المصطلحات على أقسام كثيرة ينبغي أن ندركها جيداً. وحتى نفهم هذه القضية بعمق، فإنه لابد أن نرجع إلى ما يُسمَّى بقضية الوضع التي سبق أن أشرنا إليها. 
    والوضع معناه جعل شيء بإزاء شيء آخر؛ أي في مقابل شيء آخر؛ لأن الناس حين تتواضع على اصطلاح تعني أنهم يتفقون على وضع لفظ معين بإزاء معنى معين. هذه العملية خلافية في اللغة، فليست هناك علاقة قطعية ضرورية ما بين الحروف وما بين المعاني، بل هي علاقة وضعية، ليست هناك علاقة بين أحرف لفظة الأسد وبين الحيوان في ذاته بحيث إنه لو قال أحد الأشخاص "أسد" لفهم كل من على الأرض أنه يتحدث عن الحيوان المفترس ذي الشكل المعروف. إذًا ما الذي حدث حتى تُوضع هذه الكلمة أمام هذا المعنى؟
    ولقد قام الخلاف بين علماء الأصول حول واضع الكلمة مقابل المعنى، بين قائل إنه الله سبحانه وتعالى واستدلوا بقوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}- الآية 31, سورة البقرة، وبين قائل بأن البشر هم الذين وضعوا اللغة، وبين قائل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع الأسس والقوانين، ثم بعد ذلك أنشأ الإنسان تطبيقات هذه القوانين والكثير من مفردات اللغة، بينما لم يُجِب البعض الأخير عن هذا التساؤل قائلين: لا نعرف ما إذا كان الله تعالى أو غيره سبحانه وتعالى هو الذي وضع اللغة. وقد سبقت الإشارة لهذا الخلاف بشيء من التفصيل.
    ولاحظنا (أيضًا فيما سبق) أن اللغة -وإن وُضعت الألفاظ فيها بإزاء المعاني- إلا أن الشرع جاء فأخرج هذه الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانٍ أخرى مخصوصة قد قصدها الشارع. وقد ضربنا –فيما سبق- أمثلة على الفارق بين هذين الوضعين: الوضع اللغوي؛ وهو وضع اللفظ بإزاء المعنى عند أهل اللغة، والوضع الشرعي كوضع للفظ جاء به الشرع الحنيف.
    وكذلك لوحظ أن طوائف عديدة قد اصطلحت على معانٍ مختلفة للفظ الواحد، كلٌ بحسب تخصصه.  فنرى أن الأصوليين –مثلاً- قد وضعوا كلمة "أصل" بإزاء المقيس عليه، في حين أن "أصل" في اللغة ترد على مصدر الشيء، بينما عند الفقهاء -في قولهم إن الزكاة تحرم على الأصل وعلى الفرع- تُحمل كلمة "الأصل" على الأب والأم أو الجد والجدة. وعلى ذلك فكل طائفة تضع المعنى بإزاء لفظ معين، وهذه هي الحالة التي أطلق عليها العلماء كلمة "الاصطلاح".
    فالمصطلح هو "وضع لفظ بإزاء معنى معين عند طائفة بعينها"، وذلك ما يسمى بـ"العُرف الخاص"؛ أي عرف أهل صنعة أو علم أو فن معين. وهناك "عُرف عام" يتعارف عليه أهل منطقة أو قطر معين، ولكنها ليست في اللغة وليست في الشرع بهذا المعنى العُرفي. فكلمة "دابة" –مثلاً- عند المصرين تعني "الحمار" خاصة، ولكن هي في اللغة تعني كل ما يدب برجليه على الأرض بل على كل ما يدب مطلقًا، وعلى ذلك فإن الإنسان -لغةً- من الدواب، لكن لو قال بعض من الناس -في مصر- واصفًاً أخاه بأنه دابة فإن أخاه سيعتبر ذلك سبَّاً يصفه فيه بأنه حمار.
    وهكذا، لابد علينا إن أردنا أن نخوض في فن معين من فنون التراث، أن نعي ونستوعب الاصطلاحات التي وضعها أهل العلم أو الفن بإزاء معانٍ معينة. هذا وإلا تداخلت المعاني ولضاع منا خير كثير.
    لا يمكن الوصول إلى الفهم المناسب إلا إذا عرفنا مصطلحات الفن الذي نخوض فيه، ومثال ذلك كلمة "الجنس" التي وردت في كتاب "البيع" الذي بين أيدينا تُستعمل باستعمالين مختلفين في كل من المنطق والفقه. فإذا ما أردنا أن نعرض لمعناها في المنطق نجد أنها " كلي مقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو؟" مثل "الحيوان"، اللفظ يُطلق على الإنسان وعلى الأسد وعلى الزرافة في حين أن كلمة "نوع" تطلق في المنطق لتعني "كليًا مقولاً على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب ما هو"، فكلمة إنسان تشير إلى معنى النوع عند المناطقة. أما الفقهاء فقد أطلقوا لفظ "الجنس" في كلامهم في مقابل "النوع" عند المناطقة، فالجنس -عند الفقهاء- ما كان متحد الإفراد وإن اختلفت درجاته، فالقمح -مثلاً- جنس وإن اختلفت أحجامه وأنواعه، بينما هو نوع عند المناطقة.
    وعلى هذا، لو أن طالبَ علمٍ قرأ النص الفقهي الذي بين أيدينا وحمل كلمة الجنس على ما تعلمه في المنطق، لكان ذلك حائلاً دون الفهم الصحيح، ولأصبحت العبارة التي أمامه غامضة وغريبة، لاسيما وهو يقرأ أن بيع الشيء بجنسه لا يجوز إلا بشرطين: التماثل والحلول.التماثل بمعنى أنني إذا أردت أن أبيع "القمح" بالقمح فلابد أن يكون بيع مكيال بمكيال مكافئ ومتساو. والحلول يعني الآن أو حالاً أو في الوقت نفسه. وذلك مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ [وهذا هو التماثل] يَدًا بِيَد [وهذا هو الحلول]ٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاء)
(1).
    وهذه معاملة وهمية قالها الرسول صلى الله عليه وسلم سداً للذريعة، حيث أراد الرسول صلى الله عليه وسلم ألا ترتفع الأسعار في الأسواق، فحرَّم التفاضل والنسيئة في الضروريات، وفي وسيط التبادل؛ حتى يحفظ على الناس أسعار أقواتهم؛ ولا يضار الفقير. وكأنه قال: من أراد أن يفعل ذلك، فليفعل بتلك الصورة التي لا يفعلها عاقل؛ أي كأنه كان يقول: لا تفعلوا هذا بالمرة؛ سواء التفاضل أو التأجيل.
    وعليه، فإننا لو قرأنا أحكام هذه الصور أي ربا الفضل وربا النسيئة، وقد استقر في أذهاننا أن الجنس هو ما تحته أنواع مختلفة، لوقع في ظننا أنه لا يجوز بيع القمح بالشعير متفاضلاً، وهذا خطأ حيث يجوز بيع القمح بالشعير متفاضلاً. وفي نفس الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"
(2). أي إنه لو بيع قمح بقمح فإنه يُشترط شرطان: التماثل والحلول، أما إن كان البيع هو بيع قمح بشعير فيُشترط فقط الحلول؛ بمعنى أن يقدم شخص كيلوجرامًا من القمح مقابل اثنين من الشعير، في نفس الوقت.
    وهكذا لو قرأنا الفقه دون وعي بمصطلح الفقهاء، فإننا ربما لا نفهم شيئاً مطلقاً، أو لعلنا نفهم فهماً غير سليم، بل قد يؤدي ذلك إلى قراءة معاكسة لمراد الكاتبين.
    قضية أخرى تتعلق بالمصطلحات، ألا وهي المصطلحات التي وضعها أهل فن معين. فالشافعية مثلاً صاغوا كلامهم بصياغات معينة، وذلك أنهم لما قلدوا الإمام الشافعي الذي كان عمدة المذهب فإنهم أطلقوا على كلامه مصطلح "القول"، فلو قال الفقيه الشافعي: "في المسألة قولان"، فإن ذلك يعني أن الشافعي نفسه قد أصدر في المسألة فتويين مختلفتين.
    إلا أن المذهب الشافعي وغيره من المذاهب لم يقف عند الأئمة، بل خُدِم بعدهم خدمة عظيمة هي التي أبقت تلك المذاهب إلى الآن، فقام مجموعة من العلماء لخدمة كل مذهب، وصارت لأصحاب وتابعي كل إمام أقوال في مذهبه واصطلاحات على كلامهم، تختلف عما خُصَّ به الأئمة أنفسهم. وعلى ذلك فأصحاب الشافعي لما كتبوا، فإن ذلك الذي صدر منهم يسمى بـ"الوَجه"، فَقد يكون في مسألة معينة هناك رأيان لإمامين من أئمة المذهب الشافعي فيما بعد الشافعي، وهنا يطلق عليهم "وجهان".
    وفي حال إذا ما وجد في المسألة رأيان في المذهب، فإن التساؤلات تثور حول العلاقة بينهما، وهنا يقوم احتمالان: الأول- أن يكون هناك خلاف قوي بينهما وحُجة كل رأي منهما قوية، إلا أن رأيًا فيهما أقوى وأحجُّ من حجة الآخر، أو يكون هناك رأيان في المسألة على نفس درجة القوة في الحجة.  وهنا يظهر في المشهد أربع حالات: الأولى رأيان منسوبان للإمام أحدهما قوي والآخر أقوى منه، أو أحدهما قوي والآخر ضعيف، ورأيان منسوبان لمن بعد الإمام أو وجهان للمسألة بينهما قوة، ووجهان أحدهما قوي والآخر ضعيف. هنا يبرز دور المصطلح، حيث أطلقوا على كل حالة مصطلحاً معينًا صار في كتبهم أساسيًا.
    الحالة الأولى- إن قويَ الخلاف بين الأقوال يطلقون عليها "الأظهر"؛ بمعنى أن هناك رأيين للإمام: أحدهما قوي والآخر أقوى منه، فيقولون على هذا الأقوى "الأظهر"، أما الآخر فيُطلق عليه "مقابل الأظهر". أما الحالة الثانية التي يضعف فيها الخلاف؛ بمعنى أن هناك رأيين منسوبين للإمام: أحدهما قوي والآخر ضعيف، فيطلقون على القوي منهما "المشهور"، ومقابل المشهور هو الضعيف.
    وفي حال وجود وجهين بينهما قوة (الحالة الثالثة) فيطلقون على الوجه الأقوى "الأصح". وفي حال وجود وجهين أحدهما قوي والآخر ضعيف فيطلقون على الوجه القوي مصطلح "صحيح".
    أي إننا أمام أربع مصطلحات تجري في كلامهم لتصف حالات معينة، وغيرها كثير. والإمام النووي في "المنهاج" في بدايته علَّم الناس هذه الطريقة، وقال إنه سيقول كذا حين كذا ويقول كذا حين كذا، وبيَّن مصطلحات كثيرة.
    وهناك امتداد لقضية الاصطلاح، هذا الامتداد يختص -ليس بالألفاظ- بل بالأشخاص والكتب. فمثلا إذا ما ذكر أحد المفسرين لقب "القاضي" فإنه يشير إلى الإمام البيضاوي؛ حيث دَرَجَ المفسرون على إطلاق هذا اللقب عليه، ولكن إذا ما وجدت نفس اللقب في مؤلفات علم الكلام، فإن هذا يشير إلى الإمام أبي بكر الباقلاني، أما إذا ما ذكره فقهاء الشافعية، فهم يشيرون به إلى القاضي حسين عند الشافعية، بينما يُطلق على أبي يعلى الفراء عند الحنابلة. وكذلك الحال بالنسبة للقب "الإمام" إذا ما ذُكر في كتب الفقه الشافعي فهو يشير إلى الإمام الجويني، في حين يشير الأصوليون به إلى الإمام الرازي. ولو ذُكر "الشيخان" في علم الحديث فهم يعنون بهما البخاري ومسلمًا، ولكن في فقه الشافعية تشير إلى الرافعي والنووي.
    ولا يكمل العلم إلا بإدراك هذه الأشياء لتوثيق المصدر ولفهم الحُجة وليتسق الكلام. فمثلاً لو قرأت كتابًا في فقه الشافعية وأردت أن توثق كلامًا منسوبًا إلى القاضي، فإنك لابد أن تعلم من هو المقصود بهذا اللقب؛ حتى لا يختلط عليك الأمر: هل تذهب إلى القاضي البيضاوي أم القاضي حسين أم القاضي الفراء..؟ وكذلك الإمام، هل هو الجويني أم الرازي؟
    وكما ينبغي استيعاب المصطلحات في الأشخاص ينبغي استيعابها في الكتب أيضًا. فكلمة "النهاية" إذا ما أُطلقت عند الشافعية فهي تعني كتاب "نهاية المطلب في معرفة المذهب" للإمام الجويني، ولو قالوا: "المحرر" فهو للرافعي، حتى لو وُجدت كتب أخرى في نفس الفقه اسمها المحرر أو النهاية فالمقصود عند الإطلاق لا يتغير. ولو قالوا "المجموع" فهو للإمام النووي.
    أمر آخر متعلق بالاصطلاح ونراه في كتب المتأخرين ومذاهبهم، وهو ما شاع بينهم مما يسمي بـ"النحت الخطّيّ". وكلمة "نحت" أصلاً تُستعمل في اللغة لتشير إلى استخلاص كلمة واحدة من عدة كلمات، فعندما نقول "بسم. الله . الرحمن. الرحيم" نستنبط منها كلمة "البسملة"، أو عندما نقول: "أدام. الله . عزك" فنستنبط منها كلمة "الدمعزة" أو نستنبط من "لا حول ولا قوة إلا ﺑـ الله " الحوقلة، وهكذا. ويقولون إن النحت سَماعي؛ بمعنى أنه لا يجوز لنا أن ننشئ نحتًا، ولكن جرت عادة بعض الناس على إنشاء النحوت، فيقولون لخريج دار العلوم "درعميًا" وهكذا. وحتى في اللغة العامية يقول المصريون كلمة: "معلهش"، وهذه الكلمة أُخذت من عبارة: "ما عليه شيء"، وهي تعني: "لا تثريب عليكم".
    لم يقف الكُتَّاب عند كون النحت سماعيًا أو حتى قياسيًا أو أن يُحد من مساحته في اللغة، بل جعلوه في الخط، من كثرة كتابته في الكتب واستحسان الناس له، فشاع في الأدبيات، وأصبحوا يكتبون حينئذٍ "ح"، ويكتبون والظاهر كذا "الظ"، والمصنف تُكتب "المص". فلو أنك اطلعت على مخطوطة قديمة ووجدت "و ح" فاعلم أن المؤلف يعني بذلك: وحينئذ.ٍ وكان الطلاب إذا ما وجدوا أنفسهم أمام هذه النحوت، كانوا يقرؤونها على ما هي عليه حتى لا ينسوا معناها، فراحت تشيع بين الناس. كما أن هناك بعض النحوت قد ضاعت، فخافوا على الباقي أن يضيع، والبعض جَهِل معناها فبدأت تختلط.
ومنها الحاء التي تذكر في سند الحديث بمعنى كلمة "وحدثني"، وتستعمل هنا بمعنى تحويل إسناد ، أى الإشارة إلى بداية إسناد جديد غير ما ذكر قبله .
    ويفصل ذلك ابن الصلاح في مقدمته قائلاً: إن العلماء لما استحسنوا ذلك النحت الخطي صار عندهم كالمصطلح في أسماء الناس وفي أسماء الكتب، فيقولون للبخاري "خ" ولمسلم "م" ولابن ماجه "ه" وللبيهقي "هق". وعند السيوطي في الجامع الصغير للإشارة إلى الحديث الحسن "ح"، وإلى الحديث الصحيح "ص" وإلى الضعيف "ض".
    ثم استعملوها أيضًا في أسماء الأشخاص. فصاحب جامع الفصولين عند الحنفية أنشأ صفحات كبار حتى يفك هذه الرموز الخاصة بالأشخاص والكتب. وعند الشافعية كثير من المطبوعات والمخطوطات نجد فيها هذا تماماً، فيقولون قال "سم" للإشارة إلى ابن القاسم العبادي، ويقولون: "قال حج" للإشارة إلى ابن حجر، ويقولون: "مر" لمحمد الرملي، ويقولون: "رم" للشهاب الرملي.
    وهكذا ينبغي إدراك هذه الرموز وأن نقرأها على ما هي عليه وفق المقصود منها، وإلا وصلنا إلى أفكار منحرفة. فمثلًا لا يفهم أحد القراء كلمة: "قال: سم"، فيبدأ في الربط بين ما جاء من مقول (أي الكلام الوارد بعد "قال:") وبين السُّمّ الذي يقتل الناس، وبالتالي تحدث الفجوة بين القارئ وبين الكتاب أو الكاتب، الأمر الذي يُبرز مدى أهمية قضية الاصطلاح.
    القضية المهمة التالية هي قضية المصطلح هي ما يتعلق بالتعريف، فالتعريفات الفقهية أحكام شرعية، وقد لعبت دوراً حاسماً في الفقه الإسلامي. لقد اهتم المسلمون أيَّما اهتمام بالتعريف، ومن هنا اهتموا اهتماماً بالغاً بعلم المنطق وسموه "خديم العلوم"؛ حيث رأوا فيه العلم الخادم لكل العلوم الشرعية لما له من دور في مسألة التعريفات؛ ذلك لأن الأخيرة تمثل في ذهن المسلم، وفي ذهن الفقيه، وفي ذهن المجتهد، مجموعة من الأحكام الشرعية. فمتى ذُكر التعريف لدى العالم فقد أمكنه أن يحدد الحلال من الحرام. ولجلال مقام تقرير الحلال والحرام -بوصفه توقيعًا عن رب العالمين كما سماه ابن القيم- علا مقام هذه المسألة.
    فكون الإنسان يتكلم عن الله سبحانه وتعالى يرتب ضرورة الاهتمام والحذر من قِبَل العالِم، فمن أجل ذلك فلابد أن تكون هذه التعريفات من الدقة والضبط على غاية المستطاع من الوسع البشري، و يجب ألا تصدر منا إلا كما تصدر الأحكام الشرعية.. فتعريف الربا وتعريف البيع وتعريف الجهاد وتعريف الفرض.. إلى آخر ذلك من التعريفات الأصولية والفقهية إنما هي أحكام شرعية.
    كما درج السابقون قديماً على كتابة أصل الكتابة في الهامش، وكتابة ما يسمى بالحاشية داخل الجدول؛ وعلى ذلك فالذي في الخارج هو الكتاب مع شرحه، والذي في الداخل حاشيته، كحاشية الشيخ القليبوبي، وحاشية الشيخ عميرة. فلو قرأنا الكلام الذي في الخارج في النص الذي بين أيدينا نجد: "كتاب البيع: هو كقوله بعتك هذا بكذا فيقول اشتريته به فيتحقق البيع بالعاقدِ والمعقودِ عليه -ولهما شروطٌ تأتي- والصيغةِ"
*
    مع بدايات القرن العشرين حاول العلماء استخدام علامات الترقيم، وألَّف فيها أحمد باشا زكي -الذي كان يلقب بشيخ العروبة- وذلك لأن علامات الترقيم فائدتها كبيرة في توضيح المعنى المراد من ترتيب الجمل، الأمر الذي يفيد عندما نقرأ أو نعيد طباعة هذه الكتب؛ مما يزيل اللَّبس.
    ونكمل النص: "التي بها يعقد"، نجد أنه بدأ بالشروط كغيره من العلماء؛ لأنها أهم؛ وللخلاف فيها. وقد عبَّر عنها بـ"الشرط" خلاف تعبيره في شرح المهذب للغزالي، في شرح المهذب؛ وهو كتاب المجموع للنووي، حيث عبَّر فيه هناك عن هذه الثلاثة بكلمة "أركان". وقد قلنا –من قبل- إن "الأركان" و"الشروط" متحدتان في أنهما جزء من الشيء، ولكن الأركان داخله والشروط خارجه.
ويبدأ المؤلف في شرح النص: "هو كقوله" بمعنى قوله هو -أي البيع بالمعني الشرعي- وكأنه يقول: البيع بالمعني الشرعي هو مثل قوله: بعتُك هذا بكذا. وعرَّفه بالمثال بقوله: "كـــ"، فالتعريف هنا يتم بالمثال. وقال: "وعرَّفه بالمثال دون الحد". الحد هنا هو الحد المنطقي. ويُكمل: "لأنه أظهر"؛ لأن المثال أظهر من الحد.
    ويُكمل: "والإشارة كالقول". هذا معنى جديد، ويشير إلى بيع من لا يقدر على الكلام كالأخرس، فهو يبيع ويشتري حتى يقضي متطلبات حياته. والإشارة لدى الأخرس تقوم مقام الكلام؛ وبالتالي تأخذ أحكامه، فإذا كان عقد البيع مترتبًا على الكلام فإنه أيضًا يمكن أن يتم بالإشارة من الأخرس. ويقول: "والإشارة كالقول، وغير لفظ البيع مثله"- هذا يعني أن كل الألفاظ من غير ألفاظ البيع والتي تفيد إتمام عملية البيع تأخذ في الحكم حكم لفظ البيع. ونلاحظ أننا لو قرأنا العبارة قراءة خاطئة لانسد علينا باب الفهم.
    قوله: "بعتك فيه الإسناد إلى جملة المخاطب، فلا يكفي الإسناد إلى جزئه كرأسه"؛ بمعنى أنه عندما تريد أن تخاطب الشخص في البيع والشراء فلا تخاطبه بمفردات تمثل أجزاء من الإنسان للدلالة عليه كقولك: بعتُ ليدك أو بعتُ لذراعك أو بعتُ لرأسك. ويكمل: "فيه الإسناد إلى جملة المخاطب فلا يكفي الإسناد إلى جزئه كرأسه وإن أُريد به الجملة"– أي جملة الإنسان أو الإنسان كله. وهذا يعني أن هذه الصياغة لا يجوز بها إتمام العقد حتى لا يقوم النزاع بين الناس، ويقع القاضي في حيرة من أمره عند الفصل فيها. ويُكمل: "ومال شيخنا الرملي إلى الصحة في النفس والعين". وآية ذلك أن النفس والعين من المؤكدات على الذات في اللغة، فنقول جاء الرجل نفسُه أو جاء الرجل عينُه، فالعين هنا يُقصد بها الجوهر، وهذا كلام الرملي.
    ويكمل المؤلف: "وشيخنا الزيادي"، [ويرمز هنا للزيـادي بـ"زي" في النص]، "... إلى الصحة ولو في نحو اليد مع إرادة الجملة، فراجعه". "راجعْهُ": هنا مصطلح يشير لعدم موافقة المؤلف للزيادي.
    "ولا يكفي قصْدُ خطابِ غيرِ العاقد ولا الإشارة لغيره"– يعني لا يكفي في إيقاع العقد خطاب شخص غير العاقد، ولا الإشارة لغيره أيضًا؛ كأن يجلس البائع ويوجه الكلام لشخصٍ ما وهو يقصد شخصًا آخر. هو هنا يريد أن يُحدِث حادثةً يمكن أن يشهد الشهود عليها حفظًا لأموال الناس ووقفاً للتنازع والخصام بين خلق الله سبحانه وتعالى ، فكل الأحكام مترتبة من ذهن الفقيه، وهو يسعى إلى ضبطها حفظًا لحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق الخلق.
    ويُكمل: "ولا يكفي قصد خطاب غير العاقل ولا الإشارة لغيره ولا قصد غيره بالاسم الظاهر".  ويشير هذا إلى مثل أن يقصد غير العاقد باسم آخر ولا الإسناد إلى غير المخاطب، كـ"بعتُ موكلك" أو "باعك الله ". هذا التدقيق أراد به العلماء تجنيب العقود التلاعب الذي قد يلجأ إليه البعض، فلا بد أن يكتنف حادثة إنشاء العقد نوع من أنواع التحديد الذي يفض كل منازعة أو إيهام؛ حيث إنه عقد لا يستقل به المالك بخلاف عقود أخرى نحو العتق.
    وهنا نصل لنهاية رحلة لقينا منها نصبًا، رحلة ارتدنا فيها العقل المسلم القديم، وشاهدنا فيها لقطات من اجتهاد هذا العقل وسعيه الدؤوب لخدمة الكتاب والسُّنة والديانة، وتفوقه المستمر على ذاته، ومواصلة اللاحق فيه لجهود السابق بالتقدير والتبجيل من جهة، وبالنقد والمراجعة والتصحيح والإكمال والخصم من جهة أخرى، والإقدام المستمرّ على مواجهة الآخر في فكره ومبادئه، بالحكمة والمحاورة التي حازت كل أركان وشروط ما نسميه بـ"العلم" و"الدراسة العلمية" و"المنهجية العلمية".
    نقوم بذلك لعل أن يقيد الله سبحانه وتعالى لـهذا التراث من يقدره حق قدره، ومن يرصد له جهده وفكره؛ لتقوم للإسلام قائمته، وليعود للحضارة الإسلامية -بعلومها وسلوكياتها- رونقها وبهاؤها.

 


الهوامش:
-----------------------------
(1)
سبق تخريجه ص 125.
(2)
الحديث: عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب. والفضة بالفضة. والبر بالبر. والشعير بالشعير. والتمر بالتمر. والملح بالملح. مثلاً بمثل. سواء بسواء. يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف, فبيعوا كيف شئتم, إذا كان يدًا بيد. 3887 كتاب المساقاة, باب 15, مسلم.
(*)
انظر كيف فصل المؤلف بين الشرطين الأولين والشرط الثالث بجملة جاء بعدها الشرط الثالث (الصيغةِ) مجرورًا للعطف على الشرطين السابقين. هذا الجر هو الذي أوضح العبارة، فلو قلنا إن الصيغة مرفوعة بالضمة لضاع المعنى. (المحرر)


المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .