التجديد الفقهى؟

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

ما المقصود بالتجديد الفقهى؟

والجواب : 

    جاءت الشريعة الإسلامية بمدح التجديد، وبيان أهميته، بل إن نصوص الشرع الشريف نفسها تؤكد ذلك المعنى، فالناظر في نصوص الشرع الشريف يجد أنها جاءت بمدح التجديد، وبيان أهميته، فتارة يحدثنا الشرع الشريف عن التجديد باعتباره أمرًا واجب التنفيذ، ويحث عليه المسلمين وذلك في مقام الإيمان، فإن الإيمان نفسه يبلى ويَخْلق ويحتاج إلى أن يجدد في قلوب الموحدين، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «جددوا إيمانكم». قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: «أكثروا من قول لا إله إلا الله»
(1)
    وتارة يحدثنا الشرع عن التجديد في الدين باعتبار أنه نعمة يمن الله بها على هذه الأمة الخاتمة، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها»
(2).
    منذ ذلك الحين وعلماء الأمة يمتدحون التجديد، ويرون أنه أمر ديني ونعمة من نعم الله علينا، والتجديد لم يكن قط موضع اتهام وريب في العصور الصالحة، أما في ذلك العصر النكد الذي أخبرنا بقدومه الصادق المصدوق، وهو عصر التزييف والتلفيق والخداع، فأصبح الحليم حيران، لأن الناس يسمون الأشياء بغير أسمائها فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها»
(3).
    وإنما ذلك لأن أقواما في عصرنا الحديث ما أرادوا أن يفصحوا عن نواياهم الخبيثة، وأرادوا أن يتمتعوا بالانتماء إلى الإسلام ظاهرا فلا يفقدون عشيرتهم وذويهم، وهم في أعماقهم يكنون كل الكراهية للإسلام وأهله؛ وحيث إنهم أرادوا أن يهدموا الإسلام من الداخل سموا أعمالهم واقتراحاتهم دعاوى للتجديد والتطوير، وهي في الحقيقة تخريب وتدمير.
    فشاع عند العامة من المتدينين تلك السمعة السيئة عن التجديد وأهله ودعاته، وواجه علماءُ الإسلام المخلصون في دعوتهم للتجديد أشدَّ الصعوبات في بيان ما يقصدونه من كلمة التجديد، وذلك بسبب اختلاط الأوراق والتلبيس الذي لا يتوقف ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

تجديد الفقه الذي نقصده:
    ما هو تجديد الفقه الذي نقصده ونعنيه؟ إن التجديد الذي نعنيه هو تجديد في القوالب والوسائل التي نعرض فيها فقهنا الإسلامي، فيدور أساس التجديد المقصود على إدراك الواقع المتغير، والذي تغير تغيرًا جذريًّا في أقل من ثلاثة قرون، وكأن الدنيا منذ بدء الخليقة وحتى قرابة ثلاثة قرون لم تتغير بهذا الشكل السريع المخيف الهائل.
    ولأننا نتكلم عن التجديد في مجال معين، ألا وهو الفقه الإسلامي، فيجب أن نذكِّر بحقيقة علم الفقه قبل الحديث عن التجديد فيه.

تعريف الفقه: 
   
الفقه في الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية. والمراد بالعلم: المعرفة وليس المراد منه ما يتبادر من لفظه خاصة عند المناطقة؛ لأن العلم إذا أطلق دل على القطع، والفقه من باب الظنون.
    والمراد من الأحكام الشرعية: هي أحكام الشرع من حيث الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة. والمراد من العملية: الاحتراز عن علم العقائد فلا يبحث في الأحكام الشرعية العملية، كما قاله الباجي.
    وهذا العلم لابد أن يُكتسب من أدلة تفصيلية، والدليل التفصيلي هو الشاهد من نص الكتاب أو السنة أو نقل الإجماع أو ذكر القياس في المسألة التفصيلية بعينها؛ فدليل وجوب الصيام قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
(4)، فهذا الجزء من الآية أو تلك الآية هي الدليل على وجوب الصيام. 
والحقيقة أن تجديد الفقه يتضح تمام الإيضاح بالمزج بين ثلاثة عناصر أساسية هي:
1- المصادر.
2- إدراك المصادر في ظل إدراك الواقع.
3- ربط المصادر بالواقع.

وسوف نفصل الكلام في كل عنصر من هذه العناصر فيما يلي:
أولاً:المصادر
    فالفقه موضوعه فعل المكلف، وفعل المكلف أمر واسع؛ لأن المكلف يمارس في حياته كل الأنشطة ويمارس بأفعاله كل مناحي الحياة، وعلى ذلك فنحن في حاجة إلى بيان الممنوع والمشروع في هذه الأفعال: "افعل ولا تفعل" وهنا يأتي دور الفقه الذي يصف الأفعال البشرية بالحظر أو بالإباحة، وهذه الإباحة قد تصل إلى حد الوجوب أو الندب وقد تصل أيضًا إلى الكراهة وهذا الحظر قد يكون حرامًا وقد يكون أيضًا مكروهًا، فالأحكام خمسة: الواجب، والحرام، والمباح، والمندوب، والمكروه.
إذن أمامنا أحكام خمسة نصف بها أفعال البشر جميعًا في أي مجال كان، فكيف ذلك؟ يتأتى هذا بإدراك ثلاثة أركان أو عناصر أو أقطاب ينبغي أن تتضح في أذهاننا وضوحًا تامًّا ولا تغيب على كثير من الناس، أول هذه الأركان: المصادر الشرعية، والمصادر الشرعية المرعية التي وردت إلينا إنما هي القرآن والسنة.

ثانيًا: إدراك المصادر في ظل إدراك الواقع
    والعنصر الثاني لهذه العملية بعد إدراك المصادر - لم يهتم الفقهاء القدماء ببيان الواقع؛ لأن هذا ليس من مسائل علم الفقه، بل إنهم اهتموا بالتنبيه على إدراكه، فدائمًا يُنبهون إلى أن ندرك هذا الواقع ولا يصوغون لنا ما الواقع.
إدراك الواقع بعوالمه الأربعة:
    يشتمل الواقع على عوالم أربعة، وهذه العوالم الأربعة قد جاءت بالاستقراء، ومعنى أنها قد جاءت بالاستقراء أنه يمكن زيادتها في كل عصر، ويمكن زيادتها عند كل إنسان يرى مدخلا آخر لدراسة الواقع، إذن فهذه الخمسة سنذكرها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، أو على سبيل الطاقة الذهنية، وليس على سبيل منع الغير من أن يضيف إليها أو يتعمق فيها أو يفصل أو يقتصر على بعضها إلى آخره. فهي مداخل لا تمنع أحدًا من التفكر فيها ابتغاء الإدراك الصحيح للواقع المعيش. وهي: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار. وهذه العوالم الأربعة لها مناهجها.
العالم الأول: عالم الأشياء: فالتعامل مع عالم الأشياء قد يكون بالمنهج التجريبي، وقد يكون المنهج التجريبي الذي اكتشف فيه الإنسان الحقائق عن طريق المجهر - سواء كان التلسكوب أو الميكروسكوب، سواء في عالم المجرات أو في عالم الذرة - قد يكون هو المنهج الذي أثبت نجاحه وهو الذي اقتصرت عليه مدلول كلمة Science في اللغة الإنجليزية، بل اعتبر بعض الفلاسفة أن حضارة الإنجليز المتقدمة الآن لما تقدم الساكسون وتأخر غيرهم تعتمد على الـ Science فإنها حضارة اعتمدت على ما ترجمناه نحن بكلمة علم، وعلم في اللغة العربية ليست هي تمامًا الـ Science بل هي أمر آخر يوصل إلى اليقين سواء كان من المنهج التجريبي أو من غيره من المناهج.
    إذن فعالم الأشياء ينبغي علينا أن ندرك كيف نتعامل معه، نتعامل مع حقائقه ونعمل على إدراكه على ما هو عليه، وهذا المنهج التجريبي الذي يصلح للأشياء قد لا يصلح للأشخاص وهو العالم الثاني.
العالم الثاني: عالم الأشخاص: الإنسان فريد في التصور الإسلامي؛ لأنه مخلوق قد كرمه ربه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}
(5) فالإنسان هو بنيان الرب - سبحانه وتعالى - وهذا الإنسان مميز بأنه قد خالف البهائم وقد خالف عالم الجماد وقد أصبح مكرمًا بحمل الأمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(6)؛ لأنه لم يهيئ نفسه بعد هذا التحمل للقيام بها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(7). فينبغي علينا أن ندرك أن عالم الأشخاص له منهج آخر، وهذا هو ما يدعو له الطب الحديث، حيث خرج من دراسة جزئيات الأمراض إلى دراسة الإنسان ككل، وإلى الخروج من الطرق الإمبريقية الحادة التي سيطرت على فكر الطب ردحًا من الزمان إلى الطريقة الإنسانية، وأنه ينبغي علينا أن نراعي في هذا الطب الإنسان كإنسان، لأنه مختلف وغير متكرر ولا يصلح لهذا ما قد يصلح لهذا، ولأجل ذلك بدأ الطب الحديث يعدل كثيرًا من مفاهيمه حتى في مجموعات الأدوية وحتى في التعامل مع الإنسان تشخيصًا وعلاجًا وتعاملا وتفاهمًا، مما يعطينا إشارة للنظر في مجال التعامل الشرعي مع الإنسان بتلك الاعتبارات.
العالم الثالث: عالم الأحداث: والأحداث يمكن أن يكون لها مناهج لفهمها وتحليل مضمونها وربطها ومعرفة مآلاتها وكيف نتعامل معها حتى ننظر في النهاية إلى قضية الفعل البشري "نفعل أو لا نفعل" بمقياس المصالح وبمقياس تحقيق المنافع وبمقياس تحصيل اللذات ووسائلها في إطار الإباحة ودفع الآلام ووسائلها.
العالم الرابع: عالم الأفكار: وعالم الأفكار له مناهج للتعامل معه: هناك مناهج المقارنات، وهناك مناهج المقاربات، والمقصود بالمقارنات فلسفة الصراع ومصادرة الحق، والمقاربات: ويقصد بها: المكابرة واعتقاد الكمال في أنفسنا، ويقتضي منها أنه لا يصل أحد من البشر إلى شيء ما إلا ونحن قد وصلنا قبله، وهكذا إلى أن يمثل هذا حجابًا لنا عن الاستفادة حتى عن القبول والرفض، وهناك منهج الانتقاء العشوائي.
    إذن هناك منهج المقاربات، ومنهج المقارنات، ومنهج الانتقاء العشوائي، وكلها مناهج فاسدة باطلة ينبغي علينا أن نتخلى عنها إذا أردنا أن نتعامل مع الأفكار السائدة أو السائرة أو المهيمنة - في بعض الأحيان - أو القادمة - في أحايين أخرى - ينبغي علينا أن ندشن هذه المناهج للتعامل بحيث تكون مناهج أصلية مؤسسة من غير رد فعل ومن غير مقارنات أو مقاربات أو انتقاء عشوائي.

ثالثًا: ربط المصادر بالواقع:
    القضية الثالثة - وهي المهمة بل الأهم - قضية الربط بين المصادر وإدراكها وإدراك الواقع، فلا يكفي لواحد أن يعيش مع المصادر ويتدرب على كيفية استنباط واستثمار الأحكام الشرعية المرعية منها، ولا أن يدرك الواقع ويعيش فيه بدقة ويتنبأ بدراسته المستقبلية عما سيكون فيصح تنبؤه دائمًا ويستعمل الـ back casting في الـ Fore casting، ولا يكفي هذا لإحداث الفقه الجديد بل لابد أن يعيش رابطًا بين هذا الذي استثمره يوقعه على ذلك الواقع المعيش.
    إذن إدراك الواقع قد يمثل في ذهن ذلك المجدد مرحلة التصوير فإنه يريد أن يتصور الواقع على ما هو عليه، ولا يتكلم ويهرف بما لا يعرف ويوقع كلامًا مكتوبًا في الكتب على واقع قد تغير تغيرًا شديدًا ولم يعد هو المذكور في الكتب، يقول الإمام القرافي في كتاب «الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام»: وهو ضلال مبين ومن يفعله ضال مضل، هذا الكلام يقوله في القرن السابع الهجري.
    ويتم ذلك الربط بعد أن يتم التصوير، ينبغي عليه أن يكيف ما صور بعد أن يعرف المشكلة فالطبيب يلجأ إلى التشخيص، والتشخيص هو مرحلة التكييف عند المجدد ثم بعد ذلك يظهر حكم الله في مثل هذا.

حدود التجديد والاجتهاد في الفقه الإسلامي:
    تعرض للمجددين من علماء المسلمين قضيتان؛ الأولى: هي التزامنا الأدبي والأخلاقي بعد أو قبل التزامنا الديني أمام الله عز وجل، بأننا ورثة لهذا التراث الطيب الذي قام به أئمتنا وعلماؤنا عبر التاريخ من لدن الصحابة الكرام وإلى يومنا هذا، وهذا التراث والنتاج الفكري عاش عصره وأدى كل إمام واجب وقته، ولا ينبغي إطلاقًا إذا ما رأينا اختلافًا في المسائل التي نعيشها أن نتهمهم بالقصور أو التخلف، أو مثل هذه الدعاوى التي تخالف الواقع والحقيقة.
    فهم أدركوا واقعهم إدراكًا دقيقًا، وساروا في المنهج العلمي الذي يتلخص عندهم كما تقرر في تعريف مدرسة الرازي لأصول الفقه بأنه أولا: إدراك مصادر البحث، ثانيًا: كيفية طرق البحث، ثالثًا: شروط الباحث، وهي الثلاثة التي أشار إليها "روجرز بيكون" بعد ذلك، فإن أصحاب الرازي يعرفون أصول الفقه بأنه: "معرفة دلائل الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة، وحال المستفيد" هذا كلام البيضاوي في "المنهاج" والرازي في "المحصول".
    فهذا هو المنهج الذي ينبغي علينا أن نسير عليه كما سار أسلافنا، ونقوم بواجب وقتنا كما قاموا بواجب وقتهم. فيجب علينا أن نتعلم منهم كيف كانوا يفكرون؟ وكيف تعاملوا مع هذه المصادر؟ وما الضوابط والخطوط والأطر التي لا يمكن أن نتعداها؟ وما المجالات التي يمكن فيها الخلاف؟ وفي نفس الوقت لا نجمد على مسائل عصرهم التي ارتبطت بواقعهم، والتي لا تنسجم مع واقعنا بسبب الثورة الهائلة في الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة، وخاصة بعد نشوء الشخصية الاعتبارية واستقرارها بهذا الشكل، وبعد وجود هذه الشركات عابرة القارات، وهذه الطرق السريعة والحديثة في التمويل عبر البنوك. كل تلك الأشياء تسببت في تغير الواقع المعيش تمامًا عما كان، مما يحتم علينا إدراك هذا الواقع الجديد، والتعامل معه بمنهج السلف الصالح؛ حتى نصل إلى المقاصد الشرعية التي ينبغي أن نصل إليها.
    إذا انطلقنا من العلم الموروث - وهو أصول الفقه - نجد أن الأساس فيه هو إدراك النص وتحديد الحجة، فالحجة هي الكتاب والسنة؛ ولا يمكن التعامل مع الحجة إلا من خلال علوم التوثيق الخاصة بهذين الأصلين "الكتاب والسنة". وعلم أصول الفقه يجيب عن أسئلة مهمة خاصة بتوثيق تلك الحجة مثل: ما الفرق بين القراءة المتواترة والشاذة؟ وما الفرق بين الحديث الصحيح والضعيف؟ ما الذي يكون محل قطع؟ ما الذي يكون محل ظن؟
    فعلم أصول الفقه - بعد هذا التوضيح - هو الأساس لفهم النص الذي هو مصدر البحث، وهو تحصيل حكم الله في أعمال البشر، ولكن هناك واقع معيشي بعوامل متشابكة له سمات: عالم الأشخاص، والأشياء، والأحداث، والأفكار، هذه العوالم الأربعة متصفة بالتطور والتركيب والتعقد والتغير والتجاوز والنسبية والتقاطع في نحو ثلاثين صفة لهذا العصر.
    ينبغي على المجتهد أن يكون عنده القدرة على النظر في النص وطريقة فهمه وفي الواقع وطريقة فهمه، ثم عليه أمر ثالث وهو كيفية الوصل بينهما، كيف يغير هذا الواقع بمؤسسات وبأفكار وبعقود تتواءم مع هذه الأحكام التي قد حصلها من النص؟ هذا الواقع يدفع العالم أن يبدع ولا يبتدع، فيبدع بمعنى أن ينشئ ما لم يكن قد نشأ من قبل، ولا يبتدع بمعنى ألا يخرج عن مقتضيات ذلك النص الكريم الشريف وهو الوحي؛ إذ إن هذا يحتاج منا أن نعرف أن مصادر معرفتنا هي: الوحي والكون معا، وأن الوحي هو كتاب الله المسطور، والكون هو كتاب الله المنظور، وكلاهما قد صدر عن الله تعالى هذا عالم الخلق وهو الكون، وذلك عالم الأمر وهو الوحي، ولذلك لا تناقض بينهما، فهما مصدران من مصادر المعرفة لدى المسلم، وقد أشار الكتاب العزيز إلى هذين المصدرين فقال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ}
(8).

أما القضية الثانية:
    وهي أننا متمسكون بالحفاظ على هويتنا، ولا نريد محو ثقافتنا وتراثنا، فنستعمل أصول الفقه لفهم النص المقدس، ونستعمل عقولنا بأدوات شتى قد لا تكون معنا الآن لإدراك واقعنا، فإن عناصر النموذج المعرفي الإسلامي تختلف وتتقاطع مع بعض الأديان والمذاهب الأخلاقية، هذا الذي ينحي قضية الألوهية، ولا أقول ينكرها، وينحي قضية الغائية، وينحي قضية الإطلاق ويقول بالنسبية، وينحى قضية الآخرة، ويعيش للدنيا فقط. مما يترتب عليه اختلاف في النظام والتحليل والسلوك اختلافًا تامًّا عن النموذج المعرفي الإسلامي، فالمسلم عندما يكون متشبعًا بهذا النموذج المعرفي يكون صاحب قضية يلتزم بالعمل من أجلها أمام الله ثم أمام الناس.
    فكان ينبغي أن تكون أداتنا لفهم الواقع مختلفة، ولكن جامعاتنا تدرس العلوم الاجتماعية والإنسانية على نفس النموذج المعرفي الغربي، وليس على النموذج المعرفي الإسلامي؛ لأن إدخال هذا النموذج إلى حيز التدريس في الجامعات يحتاج إلى ما يمكن أن نسميه بالصناعات الفكرية الثقيلة، التي تحتاج إلى بناء أسس هذه العلوم بناءً مؤسسًا على الواقع وإدراكه بصورة قوية صناعية كأصول الفقه الذي وضعه علماؤنا، وتوَّجه الشافعي بالرسالة ثم بعد ذلك توجه بهذا التراث الضخم.
    ونحن في عصرنا هذا نفتقد هذه الأداة، فإن أصول الفقه يوفر للمجتهد ما يحتاجه لفهم النص، ولكن ليس هناك ما يوفر فهم الواقع، فغياب هذه الأداة يفسر لنا كثيرًا من أسباب اختلاف العلماء في المجامع الفقهية، وإنكار بعضهم على بعض، فمدى إدراك الواقع هو أساس اختلاف الفتوى في العصر الحديث.
    إن واجب وقتنا هو بناء أداة لإدراك الواقع، وبتأمل الواقع نجد سمات أساسية واضحة تصل إلى ثلاثين سمة منها: التجاوز، والجوار، والنسبية، والتغير، والتركب، والتقاطع، والتطور... إلخ، وهذه السمات منها السلبي، ومنها الإيجابي، فينبغي أن ندرك المساحة السلبية في تلك السمات حتى نتمكن من تنحيتها بقدر الإمكان، أو تفاديها، وكذلك ندرك المساحة الإيجابية التي يمكن أن نستعملها لتمكين الدين والمنهج الذي أمرنا الله به في حياتنا الدنيا.
    كما يجب على المجتهد في أثناء الاجتهاد أن يكون له سقف وخط لا يتعداه، ألا وهو نص الكتاب وصحيح السنة بعد توثيقهما وقبول هذا التوثيق، فلا يمكن أن نقبل الخروج عن القطعي الذي في الكتاب والسنة، ولذلك لابد أن نضيف من ضوابط الاجتهاد الفقهي الإجماع، فالإجماع ضابط مهم جدًّا، فلا يجوز لنا الخروج عليه بحال من الأحوال.
    كذلك ينبغي الاهتمام باللغة العربية التي نزل بها النص، لأن هناك طوائف من الذين ادعوا التجديد قدحوا في دلالات اللغة، ومن هنا يبدأ الخطأ؛ حيث يتسع المجال لكل من شاء أن يقول في دين الله ما شاء، فلا نقبل دعوى التلاعب باللغة، وهي ما يدعو إليها معسكر ما بعد الحداثة، حيث تمثل هذه الدعوى القدح في دلالات اللغة، وليست اللغة العربية وحدها إنما أي لغة يريدون جعل وظيفة اللغة مجرد التلقي، واللغة في الحقيقة الأداة والتلقي، فالاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع قبلهما، وبذلك فإنهم يسعون إلى تفسير النص الشريف حسب انطباعات المفسر، دون الالتزام بدلالات اللغة، فنستطيع أن نقول: إن النص الشريف، والإجماع، ودلالات اللغة، وهي مع ما يأتي أسقف ينبغي للمجتهد ألا يتعداها.
    ينبغي على المجتهد كذلك مراعاة مقاصد التشريع؛ إذ تمثل النظام العام وهي: حفظ النفس، والعقل، والدين، وكرامة الإنسان - حسب التسمية المعاصرة وكانت تسمى قديمًا بالعِرض أو النسل - والملك - وهي تسمية معاصرة كذلك والتسمية القديمة المال - وإنما رَتبتُ هذه المقاصد بهذا الترتيب؛ لأنه ليس مُتفق على ترتيبها بشكل معين، فالشاطبي بدأ بالدين، والزركشي يورد الخلاف في هذا الترتيب، وهذا الترتيب أراه مناسبًا للتفكير وللعصر كذلك، فالإنسان يحافظ على نفسه ثم على عقله ثم يكلَّف فيحافظ على دينه ثم يحافظ على كرامته وملكه. وعلى هذا الترتيب نكون قد جعلناه نظامًا يصلح لغير المسلمين أيضا؛ لأنه متفق عليه بين البشر، فليس هناك نظام قانوني يبيح القتل العدوان، أو يبيح السرقة إلى يومنا هذا في أي مكان، مما يجعل هذا النظام العام يتسع للتعددية الحضارية التي فعلها المسلمون عندما أبقوا غير المسلمين بكافة طوائفهم.
    والمبادئ الدينية التي تبين أنه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(9) {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (10) {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}(11) ، وهو ما يسمى بفورية القوانين و....إلخ من المبادئ الحاكمة للعقل المسلم، والقواعد الفقهية مثل: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، واليقين لا يرفع بالشك، والعادة محكمة، وكذا المشقة تجلب التيسير.
    فبعض هذه القواعد خلاصة الفقه، وهذه القواعد يتفرع منها قواعد أخرى، لابد لنا من إدراك المنهج، ولابد لنا من عملية التجريب التي تسقط المشخصات، وتبقي المعنى لابد لنا من النظر إلى المآل، لابد لنا من النظر إلى المصالح، لابد لنا من إدراك مراتب هذه المقاصد وأن منها ضرورية وحاجية وتحسينية ودرجات العلاقات البينية بينها وهو ما لم يتم إلى الآن.
    فكتاب المقاصد نجده يتكلم عن المقاصد ومراتبها، ولكن لا يتكلم عن العلاقات البينية، فإن هذا محتاج إلى عمل كثير حتى نستطيع أن نُفعلها، أي نجعلها أداة أو آلة بيننا، إذا حدث هذا فهذه بعض ضوابط الاجتهاد، ولابد أن تكتمل من إدراك النص وإدراك الواقع، ومن الوصل بينهما، لابد أن يكون تحت سقف صريح النص والإجماع واللغة والمقاصد والمصالح والمبادئ والقواعد.
    فإذا كان الاجتهاد على هذا الشكل من إدراكه للنص والواقع ومن الوصل بينهما تحت هذه المظلة، فإن اجتهاده اجتهاد صحيح خاصة في الجانب المالي الذي نحن في أشد الحاجة إليه؛ لأن العبادات - والحمد لله - ليس هناك فجوات كبيرة فيها ولا هناك مستحدثات تعكر صفوها أو تعطل مسائلها ومقاصدها وثمرتها بقدر ما حدث في عالم المال.
    وبعد ذلك العرض يتضح لنا مفهوم التجديد الذي نقصده وكيفيته، وهو بإدراك الواقع بعوالمه المختلفة، وربط الواقع بالمصادر، مع الالتزام بالحدود الأساسية للمجتهد المسلم.

الهوامش:
-----------------------------
(1
) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 333، 359) حديث (8387)، (8695)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 285) حديث (7657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 52)، وقال: «وإسناده جيد».
(2 )
أخرجه أبو داود في كتاب «الملاحم» باب «ما يذكر في قرن المائة» حديث (4291)، والطبراني في «الأوسط» (6/ 324) حديث (6527)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 567- 568) حديث (8592)، (8593) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 282) وقال عن إسناد الطبراني: «رجاله ثقات».
( 3)
أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (7/ 352) حديث (4390)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 164) حديث (7237) وصححه، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 294) من حديث عائشة رضي الله عنها.
( 4)
من الآية 183 من سورة البقرة.
(5 )
الآية 70 من سورة الإسراء.
(6 )
الآية 72 من سورة الأحزاب.
( 7)
الآيات 4: 6 من سورة التين.
(8 )
من الآية 54 من سورة الأعراف.
(9 )
من الآية 164 من سورة الأنعام.
( 10)
الآية 39 من سورة النجم.
(11 )
من الآية 95 من سورة المائدة.


المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .