المنهج النبوي في الدعوة

الناقل : ام احمد | الكاتب الأصلى : إعداد - مصطفى عاشور | المصدر : www.islamonline.net

السيرة النبوية المطهرة هي الجهد البشري للنبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة الإسلام، وهي التفاعل الرشيد بين منهج السماء والواقع؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسله الله تعالى إلى الناس، لم تكن الطريق معبدة أمامه لتبليغ رسالته، وهداية الناس إلى الحق القويم، ولكنه قابل عقبات كئودا، وعنادا طويلا، واضطهادا وحصارا وتهجيرا وقتالا شديدا وهو في كل ذلك مستمسك بأداء الأمانة وتبليغها.

فالسيرة النبوية لم تكن سجلا للمعجزات والخوارق، كما يحلو للبعض أن يتناولها من خلال هذا المنظور، ولكنها كانت جهادا جهيدا، وتوكلا سليما، تعامل فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع نواميس الكون وقوانينه، تعامل الخبير بها، لا تعامل المعرض عنها المتجاهل لها، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن هذه النواميس غلابة قاهرة، وإن ذللها الله تعالى في بعض المواطن فإن هذا التذليل لا يعني الدوام، ولكنه كان لحكمة ربانية في فتح القلوب المغلقة عن الحق والإيمان وإقامة الحجة عليها في حالة العصيان والنكران.

وفي هذا الإطار من الفهم الصحيح لحقيقة السيرة التي هي قرآن يمشى على الأرض جاء كتاب (منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة: المعرفة – التربية – التخطيط – التنظيم) للداعية المغربي، وأستاذ التاريخ الإسلامي، الدكتور محمد أمحزون ، ليضع النقاط مع حروفها، وفي مكانها الصحيح.

ولعل من جميل التقدير لهذا الكتاب المتميز أن حصل على جائزة أفضل كتاب في النشر العربي عن عام 1423 هـ، نظرًا لمنهجه المتميز في فهم السيرة، ومحاولته النفاذ إلى غايتها من خلال وضعها في سياقها الصحيح، وهو خلاصة الجهد البشري للنبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة الإسلام، وهذا الجهد قابل للدراسة والتحليل وليس عصيا على الاقتداء والتنفيذ من دعاة الإسلام.

وتكمن روعة المؤلف في أنه نظر إلى السيرة النبوية وعرضها من خلال منهج واضح وعلمي، واستنبط من خلاله عددا من القواعد والأسس التي من الواجب مراعاتها من الدعاة؛ حتى لا تكون حركتهم في الدعوة عفوية، أو حركة بدون خريطة إدراكية واضحة للإسلام ومنهجه في الدعوة والبلاغ.

وقد أهمل الكاتب في عرضه لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم اعتبار الزمن في الدعوة؛ لأنه رأى أن الدعوة ليست مقيدة بتوقيت؛ لأن ارتباطها الحقيقي بأهداف سامية وغايات كبرى، وهو بذلك يرد ضمنيًّا على بعض الأفكار التي تتبناها بعض الأحزاب الإسلامية التي تدعي أنه لا بد من إقامة الخلافة الإسلامية خلال 13 عاما؛ لأن ذلك كان عمر الدعوة قبل إقامة الدولة في المدينة المنورة!!.

وعالج "أمحزون" منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة على اعتبار أن حركة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنطلق من رؤية إستراتيجية تدرك متطلبات كل مرحلة وتدرك طبيعة البيئة التي تتحرك فيها، مع عدم إغفال أهدافها الأساسية؛ فكانت مثل النهر في مرحلة تكوينه بتدفق، فإذا صادف عقبات في طريقه أكمل السير والتف عليها؛ لأن هدفه واضح جيدًا.

خصائص المنهج النبوي

أشار "أمحزون" في بداية الكتاب إلى أن الدعوة إلى الله هي السبب في خيرية هذه الأمة واستحقاقها القوامة على العالمين، ووظيفة البلاغ تقتضي الاستقامة على المنهج؛ لأن مضمون الدعوة وجوهرها لا يتغير، وحقائقها ومبادئها لا تتبدل، ولكن خَلْط بعض الدعاة بين المنهج والطريقة، وبين الجوهر والأسلوب، وبين الموضوع والكيفية أدى إلى نتائج خاطئة وتحريف وتمييع لمضمون الدعوة، ولأجل ذلك ينبغي الفصل بين المنهج والوسيلة؛ لأن تعدد الوسائل وأساليب البلاغ، سُنَّة ربانية، ولكن ثبات شرط الاتحاد في الأهداف والاتفاق على الأصول والثوابت تعد مرجعية للمنهج.

ولفت "أمحزون" الانتباه إلى نقطة جوهرية تحتاج إلى فهم عميق، وهي أن حسم الخلاف بين المناهج المتباينة في ساحة العمل الإسلامي غير ممكن بدون العودة إلى المنهج النبوي في التغيير، فهو المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في دعوته منذ بعثته حتى وفاته، وأهم خصائصه:

1- منهج مسدد بالوحي في منطلقاته وأهدافه وثوابته وأصوله ومرتكزاته.

2- منهج شامل ومتكامل يستقصي جميع قضايا الدعوة، علمًا وعملاً وفكرًا وسلوكًا وعقيدة وشريعة، كما يضبط السلوك ويحكم الحركة أثناء التعامل مع واقع الأمور وحقيقة الأشياء.

3- منهج يُعلم الداعي كيف يتعامل مع الواقع بالمعرفة العميقة والفحص الدقيق لاستقراء المناط الحقيقي، ليتنزل عليه حكمه الصحيح لإصابة الحكم الشرعي المطالب به أثناء الواقع.

ومن ثم، فهذا المنهج النبوي هو الإطار الوحيد الذي لا يملك أي داعية أن يخرج عليه؛ لأنه صمام الأمان من الزيغ والانحراف، فهو الخط الصحيح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفته تنتج عنها عقوبة رادعة مثلما حدث للجيل الأول في غزوة أحد، لأنها أصبحت البديل عن العتاب الرباني، وأصبحت الأحداث والنكبات هي وحدها التي تربي الأمة وتصحح مسارها.

منهج الكتاب وأبوابه

وأشار "أمحزون" إلى أن منهجه في الكتاب هو اعتماد الروايات الصحيحة والحسنة فيما يتعلق بقضايا العقيدة والشريعة، وعدم التشدد في الروايات المتعلقة بالعمران ووصف ميادين القتال وما شاكل ذلك، مثلما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما أو يرفعه تساهلنا في الأسانيد".

وقسم "أمحزون" كتابه إلى بابين كبيرين، احتوى كل واحد منهما على أربعة فصول في المعرفة والتربية والتخطيط والتنظيم، أما البابان فهما: الفترة المكية، والفترة المدنية.

ونحن في قراءة الكتاب سنعرض الفصول الأربعة من خلال الفترتين حتى يستوعب القارئ هذا المنهج النبوي القويم.

المعرفة

أ- خصائص المعرفة في الفترة المكية:

حدد الكاتب خصائص المعرفة في تلك الفترة في ثلاثة مباحث، هي: العلم بالعقيدة والعلم بالسنن الربانية والعلم بمقاصد الهجرة وأهدافها.

كانت أول الآيات التي نزلت في القرآن الكريم هي "اقرأ باسم ربك الذي خلق" تعطي إشارة إلى أن معالم هذه الرسالة مبنية على العلم والمعرفة والعقل، ولهذا كان يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في دار الأرقم كما كان يقوم "خباب" بإقراء القرآن.

وكان أول هذه العلوم: العلم بالعقيدة، مثل توحيد الله في ربوبيته وألوهيته والتأكيد على أن التوحيد قول وعمل، وتوحيد الأسماء والصفات، والإيمان باليوم الآخر.

كذلك العلم بالسنن الربانية، مثل سنن الابتلاء والتمحيص والتمكين، وسنن التغيير والتداول والنصر، وسنة الإعداد وسنة التدافع.

أما العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها فتناول فيه أهمية الهجرة وحكمتها.

ب- خصائص المعرفة في الفترة المدنية:

وحدد المؤلف ثلاث خصائص لهذه الفترة، هي الحركة العلمية، والعلوم التي عُني بها المسلمون، وفقه أحكام الشريعة.

ففي المبحث الأول -وهو الحركة العلمية- تناول منزلة العلماء والحث على طلب العلم، ودور المسجد النبوي في هذه الحركة، حيث كان من مهامه تعليم المسلمين وتفقيههم، والحض على طلب العلم فرادى وجماعات، واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بنشر العلم بين المسلمين، وإقبال الصحابة - رضوان الله عليهم - الدءوب على طلب العلم، ودور النساء في الحركة العلمية، مثل السيدة عائشة – رضي الله عنها – ومراعاة المؤهل العلمي عند إسناد المسؤولية.

أما العلوم التي عُني بها المسلمون، فكانت القرآن الكريم والسنن والمغازي والشعر والأنساب والكتابة.

وفي المبحث الثالث - فقه أحكام الشريعة - تناول حث القرآن على الاستنباط، واستنباط الأحكام في السنة، وتنمية ملكة النظر والفهم لدى الصحابة، والتوجيه أثناء النقاش، ودور السنة في فقه الأحكام، وضرورة تبني منهج الصحابة في الاستدلال.

التربية

أ- خصائص التربية في الفترة المكية:

حدد "أمحزون" هذه الخصائص في خمسة مباحث، هي التربية بالأحداث، والتربية بأعمال القلوب، والتربية بالأخلاق، وتكوين القاعدة الصلبة نتيجة للتربية الشاملة، والثبات على المبدأ، ورفض المساومة عليه.

وأشار إلى أن من خصائص "التربية بالأحداث" أنها ترسخ الاستفادة من تجارب الآخرين والسابقين، وأنها تحول المفاهيم إلى حركة، وأنها بطيئة الخطى إذ استغرقت في حساب الزمن 13 عامًا، بينما استغرق بناء الدولة الإسلامية أقل من ذلك الزمن. ومرجع ذلك أن مهمة الإصلاح وتغيير النفوس ليست مهمة سهلة، كما أنها تربية تربط النفس بالعمل لا النتيجة، وهذا العمل يستمد قيمته من الإخلاص وإصلاح النية، لذا كان هناك اهتمام بالتربية بأعمال القلب وغرس أخلاق الصبر والمحبة واليقين في الأعماق.

وكان للابتلاء والإيمان أثرهما في تشكيل النواة الصلبة للإسلام في تلك الفترة، وهذه النواة هي التي ثبتت على الإسلام أمام تهديدات الكفر وإغراءاته، وهي التي رفضت أنصاف الحلول في هذه الدعوة واستعصت على المساومة.

ب- خصائص التربية في الفترة المدنية:

واشتملت هذه الفترة على ثلاثة مباحث، هي: التربية بالأحداث، والتربية بأعمال القلوب، والتربية بالأخلاق.

وتناول في "التربية بالأحداث" إيذاء المنافقين للمسلمين والغزوات، أما في المبحث الثاني فتناول أعمال القلوب مثل الإيثار والإخلاص والمحبة واليقين، أما في التربية بالأخلاق فتناول الشجاعة والكرم والوفاء.

التخطيط

أ- خصائص التخطيط في الفترة المكية:

وتناول الكاتب ثلاثة مباحث في هذه المرحلة، هي:

- الدعوة السرية، وفيها التركيز على النوعية في بناء النواة الأولى، وتفادي الصدام المبكر، واستيعاب الفئات الاجتماعية المختلفة، وهو ما كفل لها انفتاحا متوازنا على الجميع ساعد على انتشار الإسلام.

- الدعوة الجهرية، وفيها توطين الحركة على الانضباط النفسي، ضمن خطة مراحل تشريع الجهاد، وخطة الهجرة للحبشة، والمرونة في التعامل مع الواقع.

- الخطة النبوية في المرحلة الثالثة في مكة، وفيها طلب النصرة من القبائل والبحث عن سند اجتماعي للدعوة، والإحاطة بالخريطة النفسية الاجتماعية لبيئة الدعوة، وخطة الهجرة للمدينة.

ب- خصائص التخطيط في الفترة المدنية:

وينقسم هذا الفصل إلى خمسة مباحث هي:

- خطة مراحل تشريع الجهاد، وفيها أهداف الجهاد.

- خطة إدارة الصراع في مواجهة المشركين، وفيها مفهوم الردع بالقوة، والردع بالقتال؛ والردع بإجهاض تدابير العدوان، والردع بتأديب المعتدين، والردع بتضييق الخناق على العدو اقتصاديا، والردع بانتزاع المبادرة من الأعداء، والردع بتجريد العدو من الحلفاء، والردع باغتيال رموز الكفر، وردع الأعداء الأخفياء.

- البعد الإستراتيجي بخطة النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الروم البيزنطيين.

- مراعاة الظروف المتغيرة في رسم الخطط الأمنية والاقتصادية.

التنظيم

أ- خصائص الفترة المكية في مجال التنظيم:

وتناول الكاتب فيها ثلاثة مباحث هي:

- الدعوة السرية، وفيها الاستخفاء بالدعوة، واتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرا للدعوة، وفوائد الاستخفاء والحكمة من سرية الدعوة، وأهمية القيادة في سير الدعوة.

- تربية الفرد في إطار الجماعة، وفيه أهمية الجماعة في بناء صرح الإسلام، حيث سجلت السيرة في تلك الفترة أمثلة كثيرة للتكافل والتآزر بين المسلمين، ووجوب التجمع شرعًا، وأهمية الاتصال بين الجماعة، قيادة وأفرادًا.

- إدارة الدعوة، حيث كان للدعوة أهداف محددة، وجهاز قائم لتنفيذ تلك الأهداف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم منذ بداية الدعوة بعنصر التنظيم، مثل تنظيم شئون الجماعة المسلمة، والاستفادة من خبرات الآخرين، والتخصص، وتقسيم العمل.

ب- خصائص الفترة المدنية في مجال التنظيم:

وتناول "أمحزون" فيها خمسة مباحث هي:

- التنظيمات الاجتماعية، وفيها المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتنظيم العلاقات بين سكان المدينة، والتنظيم العشائري.

- التنظيمات الإدارية والسياسية، وفيها دور المسجد في الإدارة، و"الصحيفة"، والتنظيم السياسي للدولة الجديدة، حيث نظمت هذه الوثيقة العلاقة بين ساكني المدينة والإدارة اللامركزية للمدينة المنورة، والتقسيمات الإدارية في العهد المدني، والرقابة الإدارية، واستخدام الإحصاء، والاستفادة من الوسائل العصرية.

- التنظيمات الحربية وفيها كيفية تنظيم الجيش الإسلامي والتنظيمات الحربية عند المسلمين مع تطبيق ذلك على بعض الغزوات.

- التنظيمات المالية، وفيها ركائز النظام المالي الإسلامي، ومفهوم جباية الأموال وصرفها، والنقود ودورها في ضبط المعاملات المالية، ونظام الحسبة، والملكية العامة للثروات الطبيعية.

- التنظيمات العمرانية، وفيها التخطيط العمراني الإسلامي في المدينة، وارتباط ذلك بالنواحي الصحية والحياتية للمسلمين.