تنكيل قريش بأصحاب رسول الله ص

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، وقبل أن أبدء الحديث عن فقرات هذا الدرس لا بد من مقدمة :

لماذا أدخل الله جل جلاله نبياً كريماً السجن ؟ ـ سيدنا يوسف ـ لعل واحداً من المؤمنين الصادقين لسبب أو لآخر دخل السجن ، فله في هذا النبي الكريم أسوة حسنة .

ولماذا اتهمت السيدة عائشة بأعظم ما تعتز به المرأة بعفتها ، لماذا ؟ إن أية امرأة إلى يوم القيامة اتهمت ، وهي بريئة فلها في هذه السيدة أسوة حسنة .

لماذا كان ابن سيدنا نوح شقياً ؟ لعل أباً بذل قصار جهده في تربية ابنه ، لكن الابن مخير ، واختار طريقاً آخر ، هذا الأب المتألم أشد الألم ، لعل له في هذا النبي الكريم نوح عليه السلام أسوة حسنة .

لماذا كانت زوجة لوط امرأة كافرة ؟ لعل أي إنسان ابتلي بزوجة سيئة ، فله في هذا النبي الكريم أسوة حسنة .

لماذا ابتلي سيدنا أيوب بالمرض ؟ لعل أي مؤمن اختار له ربه مرضاً لحكمة بالغة له في هذا النبي أسوة حسنة .

ولماذا كان سيدنا سليمان ملكاً ؟ أي إنسان ولاه الله أمر المسلمين قدوته هذا النبي الكريم ، بالعدل ، والرحمة ، وإحقاق الحق ، وإبطال الباطل .

لماذا كان أحد أنبياء الله عقيماً ـ سيدنا زكريا ـ ؟ لعل الله اختار الله لإنسان أن يكون عقيماً لحكمة بالغة له في هذا النبي أسوة حسنة .

هؤلاء قمم البشر ، هؤلاء نخبة البشر ، ومع ذلك آتى الله بعضهم الملك ، وجعل بعضهم ضعافاً ، جعل من بعضهم ذرية ، ولم يجعل لبعضهم ذرية ، إذاً هؤلاء الذين اختارهم الله عز وجل ليكونوا قمم البشر كانوا قدوة للبشر .

الدرس اليوم أيها الإخوة ، حينما نأخذ فقرات هذا الدرس ، وكيف نكلت قريش بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف تفننت في تعذيبهم ، وفي إذلالهم ، وفي إفقارهم ، عندئذٍ يهون علينا ما يعانيه المسلمون اليوم في شتى بقاع الأرض من اضطهاد وحرب همجية قاسية لا هوادة فيها .

لذلك يجب أن نعلم أن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، وأن من حِكم الله عز وجل أي يكون البشر فريقين ، فريق على حق ، وفريق على باطل ، فريق يعيش للناس  ، وفريق آخر يعيش الناس لهم ، فريق يملك قلوب الناس ، وفريق يملكون رقاب الناس .

أيها الإخوة ، روى البخاري ومسلم في قوله تعالى :

( سورة الإسراء الآية : 110 ) .

عن ابن عباس يقول : " نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفٍ بمكة ، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع المشركون قراءته سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ﴾ ، أي بقراءتك فيسمع المشركون ، فيسبوا القرآن ، ﴿ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾ ، عن أصحابك ، فلا تسمعهم :

( سورة الإسراء ) .

والآن هناك من يسب هذا الدين ، ومن يتهم هذا القرآن الكريم بأنه كتاب قتال  ، كتاب قتل ، كتاب إرهاب ، التاريخ يعيد نفسه ، وحين قال الله عز وجل :

 

( سورة الأحزاب الآية : 33 ) .

ماذا يستنبط ؟ أن هناك جاهلية ثانية ، هي أدهى وأمر .

(( كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف ، ولم تنهوا عن المنكر ؟ قالوا : أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : وأشد منه سيكون ، قالوا : وما أشد منه ؟ قال : كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ، ونهيتم عن المعروف ؟ قالوا : أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : وأشد منه سيكون ، قالوا : وما أشد منه ؟ قال : كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً  )) .

[علل ابن أبي حاتم]

وروى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه ، وأبوا أن يسمعوا منه ، وكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو ، وهو يصلي ، يسترق السمع فرقاً منهم ؛ أي خوفاً منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم ، ولم يستمع ، وإن خفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته لم يسمعوا شيئاً من قراءته ، فأنزل الله قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ﴾ ، أي فيتفرقوا عنك ، ﴿ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾ ، فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دون علمهم ، ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا.

وعندما كان المسلمون يسبون أصنام الكفار أخذ المشركون يسبون الله تعالى عَدْواً بغير علم ، فأنزل الله تعالى :

( سورة الأنعام الآية : 108 ) .

فقرات ثلاث ماذا نستنبط منها ؟ أن سيد الخلق ، وحبيب الحق كان ضعيفاً ، وقد تفنن المشركون في التنكيل بأصحابه ، وفي إيذائهم ، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً ، فإذا كنت ضعيفاً في وقت ما ، وفي حقبة ما ، وفي ظرف ما ، لا تتألم كثيراً ، سيد الخلق ، وحبيب الحق كان ضعيفاً ، ولم يستطع أن يدافع عن أصحابه ، ولا أن يعطيهم شيئاً ، وكان يقول لهم   دائماً :

( سورة الجن ) .

بل أبلغ من ذلك :

( سورة الأعراف الآية : 188 ) .

( سورة هود الآية : 31 ) .

( سورة الأعراف 188 ) .

( سورة الأنعام ) .

أربع آيات ، لا يعلم الغيب ، لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً ، لا يملك لنفسه نفعاَ ، ولا ضراً ، يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم ، هل يجرؤ الآن إنسان يعمل في حقل الدعوة أن يدعي أنه يعلم الغيب ؟ هو كاذب إذاً ، أن يدعي أنه بإمكانه أن ينفع أو أن يضر ، كاذب ، إذا كان سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وهذه خصائصه لا يجرؤ إنسان كائناً من كان مهما علا نجمه ، ومهما سطع اسمه أن يدعي ماذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

أيها الإخوة ، هناك ملامح دقيقة جداً ، لو أنك استفتيت إنسان ما ، وأفتى لك بشيء ، وأنت في غاية السرور ، لأنك انتزعت من فمه فتوة لصالحك ، هو المسؤول ، أنا لست مسؤولاً ، من قال لك ذلك ؟ إذا استطعت أن تنتزع فتوة من فم سيد الحق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله ، الدليل : (( وَلَعَلّ بَعْضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمّا أسْمَعُ مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً ، فَإنّمَا أَقْطَعَ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ )) .

[ متفق عليه ] .

أيها الإخوة ، هذه بديهيات الدين ، أما هذا الجاهل الذي يستنطق من إنسان يعمل في الحقل الديني فتوى في شأن إيداع المال في البنك ، أو فتوى بالاختلاط ، أو فتوى بالغناء ، أو فتوى بسفر المرأة دون محرم ، هذا الذي يأخذ من أفواه من يعملون في الحقل الديني فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان ، وينام ناعم البال ، قرير العين ، على توهم أن هذا الذي أفتى ، هو المسؤول ، من قال لك ذلك ؟ والله لو استطعت أن تنتزع من فم سيد الخلق وحبيب الحق فتوة ، ولست محقاً بها لا تنجو من عذاب الله ، (( وَلَعَلّ بَعْضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمّا أسْمَعُ مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً ، فَإنّمَا أَقْطَعَ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ )) .

إخوانا الكرام ، الأمر واضح وضوح الشمس ، مرةً ثانية : ﴿ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ ، من ؟ سيد الخلق ، وحبيب الحق :

﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ .

﴿ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ﴾  .

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾ .

هذه خصائص النبي عليه الصلاة والسلام ، وأي إنسان يدعي ما ليس للنبي فهو في باطل ، وفي ضلال ، وفي دجل ، وفي إيهام ، بل هو في غباء .

إخوانا الكرام ، أوفدت قريش نفراً منهم إلى المدينة ، على رأسهم النضر بن الحارث ، ليأتوا من اليهود بأسئلة تعجيزية فيطرحونها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت لهم اليهود : سلوه عن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح .

( سورة الكهف الآية : 83 ) .

( سورة الإسراء الآية : 85 ) .

ولكن الله أبطل كيدهم عندما أنزل الله قرآناً في شأن الإجابة عن هذه الأسئلة ، هذا يؤكد أن السماء توحي إليه بالحق .

( سورة آل عمران ) .

أيها الإخوة ، هذا الموضوع ينقلنا إلى موضوع كبير اسمه الولاء والبراء ، الولاء أن توالي المؤمنين ، أي أن تحبهم ، وأن تنصرهم ، وأن تنصحهم ، وألا تسلمهم لأعدائهم ، وألا تتعاون مع أعدائهم عليهم ، ومن لم يكن موالياً للمؤمنين فليس مؤمناً ، هذا الذي يتعاون مع الطرف الآخر ليقهر المؤمنين ، الله ورسوله بريء منه ، فاليهود تعاونوا مع قريش كي يحرجوا النبي صلى الله عليه وسلم ، كي يسألوه أسئلة لا يعلمها ، تعجيزية ، ولكن الوحي أجاب عن كل هذه الأسئلة ، وقهرهم ، أحياناً وهذا شيء واقع :

( سورة الإسراء ) .

الطرف الآخر يستخدم أسلوب الترغيب ، لذلك قريش أرادت أن تجرب أسلوب الترغيب ، فأرسلت عتبة بن ربيعة الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ، إنك منا ، قد حيث علمت من المكان في النسب ، وقد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها ، إن قلت : إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ـ إغراء ـ إن أردت من هذه الدعوة ، هم لا يفهمون الأشياء إلا بقيمهم ، لا يفهمون دعوة لله خالصة ، يفهمون دعوة من أجل المال ، يفهمون دعوة من أجل المتع ، يفهمون دعوة من أجل السلطان ، وكأن هذا الإنسان عبر عن مكنون نفسه ، ونفس قومه ، إن كنت إنما تريد من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً   وإن كنت تريد شرفاً ـ سيطرة ، مكانة ، هيمنة ، ملك ، سلطة ـ وإن قلت : إنما تريد شرفاً سودانك علينا ، جعلناك سيدنا ، فلا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئية تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطبيب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ ، يا عندك حالة فصام ، عندك حالة مرضية ، أو تريد ملكاً ، أو سيادة ، أو شهوة ، أو مالاً ، كل هذا متاح لك ، بشرط أن تنصرف عن هذه الدعوة ، فلما فرغ من قوله تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليه صدر سورة فصلت إلى أن وصل إلى قوله تعالى :

( سورة فصلت ) .

أيها الإخوة ، سمع هذه الآيات ، وكأن صاعقة نزلت عليه ، فعاد إلى قومه ، وأخبرهم بما سمع ، وقال : هذا الذي يقوله محمد ليس شعراً ، ولا سحراً ، ولا كهانة ، وأقترح عليكم أن تَدَعو محمداً وشأنه .

وفي روايات أخرى من هذه الروايات : وإن كان بك الباءة ؛ أي تشتهي النساء ، زوجناك عشرة نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت .

أما الوليد بن المغيرة الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأن رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : يا عم ، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً ، قال : لمَ ؟ قال : ليعطونك ، فإنك أتيت محمداً لتعرض عنه ، يعني إن أتيت محمداً أعرض عنه ، وخذ من المال ما شئت ، ثم قال الوليد عن القرآن : " والله إن لقوله الذي يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة مثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه يعلو ، وما يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته " .

لما جاء بعض من ادعى النبوة جاؤوا بكلام ادعوا أنه من عند الله ، قال : والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً .

سبحانك يا رب ! المؤمن يشعر بكل خلية في جسمه أن هذا كلام الله ، وأن هذا كذب وهراء ، أليس كذلك ؟ وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه يعلو ، وما يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته ، يئست قريش من أسلوب الترغيب ، لذلك المؤمن لا يلين لا لسبائك الذهب اللامعة ، ولا يلين لسياط الجلادين اللاذعة ، المؤمن رجل مبدأ .

(( والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه )) .

[السيرة النبوية لابن هشام]

الآن لونت قريش في أسلوبها ، واتبعت أسلوب الترهيب ، كان أبو جهل إذا سمع عن الرجل أنه أسلم ، وله شرف ومنعه ، أنّبه وأخزاه ، وقال له : تركت دين أبيك ، وهو خير منك ، والله لنسفهن حلمك ، ولنضعفن رأيك ، ولنضعن شرفك ، وإن كان تاجراً قال له : والله لنكسدن تجارتك ، ولنهلكن مالك ، وإن كان ضعيفاً ضربوه ، وأغروا به ، التاجر يهدد ببوار تجارته ، والشريف يهدد بأن يكون وضعياً سفيهاً ، والضعيف يهدد بالضرب والأذى ، وحينما لم تثمر كل هذه الأساليب السابقة في صد النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه لجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء والتصفية الجسدية .

( سورة الأنفال ) .

( سورة يوسف ) .

( سور غافر ) .

( سورة الروم ) .

 

هؤلاء الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين ، وهؤلاء الذين حاربوه في مزابل التاريخ ، في أسفل السافلين .

أيها الإخوة ، ما من إنسان أشقى ولا أغبى ممن يقف في خندق مضاد للحق ، هل تعلم من هو الطرف الآخر ؟

( سورة التحريم الآية : 4 ) .

امرأتان ، حفصة وعائشة .

( سورة التحريم الآية : 4 ) .

خالق الكون .

( سورة التحريم ) .

يا رب ، من أجل امرأتين ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ ، معقول ! لو أن امرأتين انتقدتا نظاماً ما ، استنفار القوى البرية ، والبحرية والجوية ، وقوى الأمن ، والاقتصاد ، معقول ! ما معنى هذه الآية ؟ معنى هذه الآية : أنك إذا فكرت أن تكون عدواً للحق ، أنك إذا فكرت أن تكون عدواً لله ، أنك إذا فكرت أن تكون عدواً لأنبيائه ، أنك إذا فكرت أن تكون عدواً لصالح المؤمنين ، أنك إذا أردت أن تكون عدواً لعالم مخلص ، يجب أن تعلم من هو الطرف الآخر ، من هو خصمك ، إنه الله الذي بيده كل شيء ، لذلك أشقى إنسان على وجه الأرض الذي يحارب الله ورسوله ، نهايته في مزبلة التاريخ  ، نهايته مع فرعون وقارون ، ومع كل الظالمين الذين أذلهم الله عز وجل .

أيها الإخوة ، لقد استفحل إيذاء قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الدعوة السرية ، بل في الدعوة العلنية ، بعد أن أمر الله جل جلاله نبيه أن يظهر شعائر دينه ، كالصلاة عند الكعبة ، فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا جهل قال : (( هَلْ يُعَفّرُ مُحَمّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُم ـ يعني إذا سجد ـ فَقِيلَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : وَاللاّتِ وَالْعُزّىَ لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنّ عَلَىَ رَقَبَتِهِ ، أَوْ لأُعفّرَنّ وَجْهَهُ فِي التّرَابِ )) .

( سورة المسد ) .

(( فَأَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلّي ، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَىَ رَقَبَتِهِ ـ كما حلف ـ قَالَ : فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلاّ وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ ، وَيَتّقِي بِيَدَيْهِ ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : مَا لَكَ ؟ فَقَالَ : إِنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقاً مِنْ نَارٍ ، وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً ، فقالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : لَوْ دَنَا لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْواً عُضْواً )) .

قال تعالى :

( سورة المائدة الآية : 67 ) .

 

( سورة الطور الآية : 48 ) .

يجب أن تثق أن الله يحفظك ، وأن الله لا يسلمك ، وأن الله يدافع عنك ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ لذلك نزل القرآن الكريم :

( سورة العلق ) .

أيها الإخوة ، ألا ترون معي أن هذه الوقائع المؤلمة تتكرر من حين إلى آخر ؟ بل نحن نجدها اليوم ، المسلم محارب في شتى بقاع الأرض ، وقد يعذب ، وقد يضطهد ، وقد يحاصر ، وقد يجوع ، وقد يعطش ، وقد يعرى ، كل هذا :

( سورة الطارق ) .

روى البخاري بسنده إلى عروة بن الزبير ، قال : سألت عبد الله ابن عمر عن أشد ما صنع المشركون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا ، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ " .

هذه الدعوة التي وصلت إلينا بذل من أجلها الغالي والرخيص ، بذل من أجلها النفس والنفيس ، ينبغي ألا نضيعها ، الإسلام وصل إلى هذه البلاد بفضل هؤلاء الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم ، هكذا عُمل النبي صلى الله عليه وسلم .

فلما جاءه جبريل ، وقال : يا محمد ، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين ، قال : لا يا أخي ، اللهم اهدِ قومي .

ما تخلى عن قومه ، ودعا لهم بالهداية ، واعتذر لهم فإنهم لا يعلمون ، ودعا لهم  هذا الإنسان الذي أقسم الله بعمره الثمين ، قال له :

( سورة الحجر ) .

ألا ينبغي أن نقتدي بهذا النبي الكريم ؟ ألا ينبغي أن يكون الوقت عندنا ثميناً أن نفعل فيه شيئاً لصالح المسلمين ؟ أن نخفف من متاعبهم ، أن نعزز مكانتهم ، أن نحل مشكلاتهم ، أن نأخذ بيد ضعيفهم ، أن نطعم جائعهم ، أن نكسو عاريهم .

وروى بخاري ومسلم من حديث ابن مسعود قال : (( بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي عِنْدَ الْبَيْتِ ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ ،  فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : أَيّكُمْ يَقُومُ إلَىَ سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ ـ يعني أحشائها ـ فَيَأْخُذُهُ ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمّدٍ إذَا سَجَدَ ؟ )) .

نحن الآن بحبوحة ، والحمد لله ، معززون ، مكرمون ، نأتي إلى المساجد ، نستمع إلى الدروس ، نستمع إلى الخطب ، ندخل إلى بيوتنا نصلي ، نساؤنا محجبات ، لا أحد يعترضنا ، هذه نعمة كبيرة جداً ، وقد قُدِّم الإسلام إلينا على طبق من ذهب ، أما هؤلاء الأصحاب الكرام الذين فدفعوا من أجل هذا الإسلام دفعوا حياتهم ، ودفعوا كل ما يملكون ونحن لا نعرف قيمة هذا الإسلام .

(( فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ ، فَلَمّا سَجَدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، قَالَ : فَاسْتَضْحَكُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَىَ بَعْضٍ ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، حَتّى انْطَلَقَ إنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ . فَجَاءَتْ ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ  ثُمّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ ، تَشْتِمُهُمْ ، فَلَمّا قَضَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ، ثُمّ دَعَا عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ إذَا دَعَا ، فَوَالّذِي بَعَثَ مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم بِالْحَقّ لَقَدْ رَأَيْتُ الّذِينَ سَمّىَ ـ أي ذكر أسماءهم بالدعاء عليهم ـ صَرْعَىَ يَوْمَ بَدْرٍ . ثُمّ سُحِبُوا إلَىَ الْقَلِيبِ ، قَلِيبِ بَدْرٍ )) .

وقد خاطبهم واحداً واحداً : (( يا فلان ، يا فلان ، يا فلان : أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا ؟ فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا ، لقد كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ أتخاطب قوماً جَيّفُوا ؟ قَالَ : مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُم )) ، أين عقلهم ؟ .

مرة ثانية ، أيها الإخوة ، هذا الذي نشاهده في العالم من قسوة على المسلمين ، واتهام لهم ، وتنكيل بهم ، وحصار لبلادهم ، وإخراجهم من بعض الأماكن ، وسجنهم ، وتعذيبهم ، هذا ذاقه النبي وأصحابه الكرام في أول هذه الدعوة ، وبفضل تضحياتهم ، وبفضل جهادهم  واستجهادهم وصلت هذه الدعوة إلينا ، فلنحافظ عليها .

ومرةً ضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أغشي عليه ، فقام أبو بكر فجعل ينادي : " ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، فتركوه ، وأقبلوا على أبي بكر ، وحاولت أم جميل زوجة أبي لهب أن تعتدي عليه بحجر فحماه الله منها ، فلم تره ، فكانت تحمل الحطب كي تضعه في طريقه صلى الله عليه وسلم كما حكى القرآن ذلك : ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ  فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ .

قال : يا رب ، إنسان يقرأ القرآن فقرأ قوله تعالى :

( سورة طه ) .

قال : يا رب ، إذا كانت رحمتك بمن قال : أنا ربكم الأعلى فكيف رحمتك بمن قال : سبحان ربي الأعلى ؟ وإذا كانت رحمتك بمن قال :

( سورة القصص الآية : 38 ) .

فكيف رحمتك بمن قال : لا إله إلا الله ؟ كيف ؟ ورد في بعض الآثار القدسية : " أن يا داود ، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، يا داوود هذه إرادتي في المعرضين فكيف في المقبلين ؟! " .

إذا كنت مطيعاً لرب العالمين ، محباً له ، محباً لأنبيائه ، محباً لكتابه ، محباً للمؤمنين ، محباً للمساجد ، محباً لعمل الخير فأبشر .

أيها الإخوة ، إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر ، فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، ونائلة ، وأساف ، لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد ، فلم نفارقه حتى نقتله ، فأقبلت ابنته فاطمة بالذي قالوا ، فجاء وحصبهم بقبضة من تراب من أصابته منهم قتل يوم بدر كافراً  .

مرةً أيها الإخوة ، صفوان ابن أمية التقى بعمير بن وهب ، فقال له عمير : يا صفوان ، والله لولا صغار أخشى عليهم العنت من بعدي ، ولولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها لذهبت ، وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ، صفوان عدو لدود ، قال : يا عمير ، أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، وأما ديونك فهي علي بلغت علي ما بلغت ، فامضِ بما أردت ، يعني اذهب ، واقتل محمداً ، وأرجنا منه ، فسقى سيفه سماً ، ووضعه على عاتقه ، وركب ناقته ، وتوجه إلى المدينة بحجة أنه أتى المدينة ليفك أسر ابنه ، فلما وصل المدينة رآه عمر رضي الله عنه ، فقال : هذا عدو الله جاء يريد شراً ، وقيده بحمالة سيفه ، وساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، سيدنا النبي لطيف ، قال : يا عمر ، أطلق سراحه ، فأطلق سراحه ، قال : يا عمير ، ادنُ مني ، فدنا منه ، قال : يا عمير ، سلم علينا ، قال له : عِمت صباحاً يا محمد ، قال له : قل : السلام عليكم ، قال له : لست بعيد عهد بسلامنا ، هذا سلامنا ، كتلة غلظة ، قال : يا عمير ، ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال : جئت أفك ابني من الأسر ، قال : يا عمير ، وهذه السيف التي على عاتقك ؟ قال : قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال : يا عمير ، ألم تقل لصفوان : لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها ، ولولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت ، وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ؟ وقف ، وقال : أشهد أنك رسول الله ، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله ، وأنت رسوله .

وأسلم ، أما صفوان فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة ليستقبل الركبان ، فلعل الخبر السار بقتل محمد يصل إليه ، ثم فوجئ أن عمير أسلم .

( سورة آل عمران الآية : 119 ) .

( سورة البقرة ) .

وروى الإمام أحمد من حديث أنس أن جبريل عليه السلام جاء ذات يوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم : وهو جالس حزيناً ، قد خضب بالدماء ، ضربه بعض أهل مكة ، قال : فقال له : ما لك ؟ قال : فقال له : فعل بي هؤلاء ، وفعلوا ، قال : فقال له جبريل عليه السلام : أتحب أن أريك آية ؟ قال : نعم ، قال : فانظر إلى شجرة من وراء الوادي ، فقال : ادع بتلك الشجرة ، فدعاها ، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه ، فقال : مرها فلترجع ، فأمرها ، فرجعت إلى مكانها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبي .

ويقول ابن كثير : إن غالب ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من أذىً كان بعد وفاة عمه أبي طالب .

أيها الإخوة ، إن شاء الله نتابع هذا في درس قادم ، ولكن هذه الوقائع ، وهذا الأذى ، وهذا الاضطهاد ، وهذا التنكيل ، وهذا التعذيب ، وهذا التكذيب ، وهذا الازدارء ، وهذه السخرية ، وهذه الإهانة كلها صبت على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليبين الله لنا أن هؤلاء كانوا أهلاً للدعوة إلى الله .

( سورة الأحقاف الآية : 35 ) .

أيها الإخوة ، ونحن فلنصبر ، وإن الله وعدنا وعوداً كثيرة ، قال :

( سورة النور الآية : 55  ) .

والحمد لله رب العالمين