نزول الوحي والبعثة النبوية

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، وموضوع اليوم نزول الوحي والبعثة النبوية .

أيها الإخوة ، بدأ نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون عاماً ، وسوف نقف وقفة متأنية عند كلمة ( أربعون عاماً ) ، لأن هذه السن سن النضج ، قال تعالى :

( سورة فاطر الآية : 37 ) .

قال الإمام القرطبي : " النذير سن الأربعين " ، فمن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة .

(( من أتت عليه أربعون سنة ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار )) .

[أخرجه الأزدي عن عبد الله بن مالك الهروي ]

هذه السن سن النضج .

أيها الإخوة ، وقصة بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بنص صحيح من حديث عروة بن الزبير .

بالمناسبة ، هناك من يظن أن الإسلام تراث ، التراث أرضي ، الإسلام وحي السماء ، فرق كبير بين الثقافات التي هي من صنع البشر وبين وحي السماء الذي هو من عند خالق البشر ، كما أن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، إذاً بين وحي السماء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبين ثقافات الأرض كما بين الأرض والسماء ، إذا قلنا : وحي فهذا شيء آخر ، حق صُراح ، ليس فيه باطل ، ولا شك ، لا يعدّل ، ولا يبدّل ، ولا يغيّر ولا يطوّر ، ولا يحذَف منه ، ولا يضاف عليه ، لذلك هؤلاء الذين يتحدثون عن تجديد الخطاب الديني قد يقصدون إلغاء الخطاب الديني ، أو تفريغه من مضمونه ، لأنه ما من تعريف جامع مانع للتجديد في الدين إلا " أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه " ، الدين توقيفي ، لذلك قال العلماء : الأصل في العبادات ، وفي العقائد الإسلامية الحظر ، ولا تشرع عبادة إلا بالدليل القطعي الثبوت والدلالة ، لكن الدنيا الأصل فيها الإباحة ، ولا يحرم شيء إلا بالدليل القطعي والثابت

إذاً من بلغ سن الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة ، (( من أتت عليه أربعون سنة ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار )) .

[أخرجه الأزدي عن عبد الله بن مالك الهروي ]

﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾

***

إلى متى أنت باللذات مشغول       وأنت عن كل ما قدمت مسؤول

أما الحديث الصحيح الذي روي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : (( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ...)) .

[متفق عليه]

لذلك عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : (( أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ ، أَوْ تُرَى لَهُ ...)) .

[ رواه مسلم]

إما أن تكون بشارة ، وإما أن تكون لفت نظر ، على كلٍّ الرؤيا طريق مباشر بين العبد وربه ، فكان عليه الصلاة والسلام قبل نزول الوحي يرى الرؤيا الصالحة فتأتي مثل فلق الصبح ، ولعل الرؤيا الصالحة من تكريم الله للإنسان .

(( ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ )) ، الوحدة ، أي التفكر ، والتأمل ، قال تعالى :

( سورة آل عمران الآيات : 190 ـ 191 ) .

إذًا كان عليه الصلاة والسلام يتفكر في غار حراء الليالي ذوات العدد ، فعلى كلِّ مؤمن أن يتفكر كل يوم بعض الوقت في خلق السماوات والأرض .

أيها الإخوة ، إذا كان في القرآن الكريم آية فيها أمرٌ ماذا تقتضي هذه الآية ؟ أن تأتمر ، وإذا كان في القرآن الكريم آية فيها نهي ماذا تقتضي هذه الآية ؟ أن تنتهي ، وإذا كان في القرآن الكريم مشهد من مشاهد يوم القيامة ماذا تقتضي هذه الآية ؟ أن تبادر إلى أسباب الجنة ، وأن تبتعد عن أسباب النار ، وإذا كان في القرآن الكريم قصص الأولين ماذا تقتضي هذه الآية ؟ أن تتعظ ، وأن تجتنب أسباب هلاك الأمم ، وإذا كان في القرآن الكريم 1300 آية كونية ماذا تقتضي هذه الآيات ؟ أن تقلد النبي صلى الله عليه وسلم كما تفكر في غار حراء ، أن تتفكر في هذه الآيات ، وهذه الآيات في الحقيقة هي منهج بحث عن الله عز وجل .

وكان يخلو في غار حراء ، وقد قال بعض العلماء : " من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة " ، أنت حينما تجول في آيات الله الدالة على عظمته تعرف الله  ، ومعرفة الله أصل الدين ، أصل الدين معرفته ، وهذا الذي يقع في العالم الإسلامي من تفلت لا بسبب جهل المسلمين بأحكام الفقه ، ولكن بسبب جهل المسلمين بالذات الإلهية ، إذا عرفت الآمر ، ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ، ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر .

(( وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ـ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا )) ، الإنسان أحياناً يسعد إلى الأبد بلحظة تفكير صادقة .

سيدنا نُعيم ابن مسعود زعيم قبيلة غطفان ، جاء المدينة ليحارب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق ، وهو في خيمته ، وقد أصابه أرق ، خاطب نفسه ، وقال : يا نُعيم ، ما الذي جاء بك إلى المدينة ؟ لتقاتل هذا الرجل الصالح ؟ ماذا فعل ؟ أَنتهك عرضاً ؟ أسلب مالاً ؟ أسفك دماً ؟ أين عقلك يا نُعيم ؟ أنا أتمنى عليكم جميعاً أن تخلوا أحيانا بأنفسكم ، أن تفكر من أنا ؟ ماذا هدفي في الحياة ؟ ماذا بعد الموت ؟ ماذا أعددت لآخرتي ؟ دقق في أعمالك ، في حرفتك ، في كسب مالك ، في إنفاق مالك ، في تربية أولادك ، هل حرفتك ترضي الله أم لا ترضي الله ، لا ينبغي أن تأخذك الدنيا ، قال تعالى يصف عباده المؤمنين  قال :

( سورة الفرقان الآية : 63 ) . 

ما معنى هوناً ؟ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي هوناً ، كان إذا مشا كأنه ينحط من صبب ؛ من جبل ، السيدة عائشة كانت تقول : " رحم الله عمر ، ما رأيت أزهد منه ، كان إذا سار أسرع ، وإذا أطعم أشبع ، وإذا ضرب أوجع .

إذاً ما معنى : ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، أي يمشي بتؤدة فكرية ، لا يسمح للدنيا أن تأخذه ، لا يسمح للدنيا أن تنسيه هدفه ، لا يسمح للمصائب أن تنقله إلى اليأس والقنوت ، واعٍ  ، متبصر ، متفائل  .

(( وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ـ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي ـ معنى غطني أي عصرني ، لئلا يتوهم متوهم أن الوحي منام ، تأمل ، حلم ، لا ، الوحي شيء مادي ـ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي ، فَغَطَّنِي ـ أي عصرني ـ الثَّانِيَةَ ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ـ أي التعب والإعياء ـ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ـ لئلا يتوهم متوهم أن الوحي حلم ، منام ، تأمل ، تصور ، جاء الوحي على شكل مادي ـ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ :

( سورة العلق ) .

ولنا مع هذه الآيات وقفة متأنية إن شاء الله عز وجل في القسم الثاني من الدرس .

(( فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي ـ أي دثروني ، ضعوا علي الدثار ـ فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ )) .

قال تعالى :

( سورة الشورى الآية : 29 ) .

( سورة فصلت الآية : 37 ) .

( سورة الروم ) .

عظيم عظماء الأرض ، سيد ولد آدم ، حبيب خالق الأكوان ، أصابه خوف من الذي هدأت روعه ؟ زوجته ، أريت إلى هذا الدور الخطير ‍، لذلك السيدة خديجة كانت سنده من الداخل ، وحينما توفيت سُمي العام الذي توفيت فيه بعام الحزن .

(( حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ : لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا )) .

أيها الإخوة ، لم يكن هناك وحي ، ولا حديث شريف ، ولا أحكام ، قالت هذه الزوجة العظيمة  كلمة الفطرة ، قالت له : (( كَلَّا ، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ )) .

أيها الإخوة ، أيها الشباب ، دققوا فيما سأقول : أنت أيها الشاب ما دمت مستقيماً ، ما دمت غاضاً لبصرك  ما دمت صادقاً في كلامك ، ما دمت أميناً على ما ائتمنت عليه ، ما دمت باراً بوالديك ، لك هذه البشارة ، هذه البشارة قانون ، والله لا يخزيك الله أبدا ، في أي عصر ، في أي مكان ، في أي مصر ، في أي ظرف .

كن مع الله تـر الله معك       واترك الكل وحاذر طمعك

وإذا أعطاك من يمنـعه        ثم من يعطي إذا ما منعك

***

(( كَلَّا ، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ )) .

فعلاً كانت السيدة خديجة سنده من الداخل .

بالمناسبة ، الإنسان إذا تزوج ، واختار زوجته بطريقة تروق له ، واكتفى بمتعة أن يملأ عينيه من محاسنها ، ولم تكن في مستواه الفكري ، فهذا الزواج لا ينجح ، وسريعاً ما يمل كل طرف صاحبه ، لكن إذا كانت الزوجة على جانب من العلم يحصل بينك وبينها مشاركة فكرية  ، مشاركة وجدانية ، أنت لا تسعد بزوجة تشاركك همومك ، تشاركك في مبادئك ، وفي قيمك وفي طموحاتك ، فلذلك تعلُّم الفتاة له معنى كبير ، لأنك إن علّمت شاباً علّمت واحداً ، أما إن علّمت فتاة علمت أسرة بأكملها .

السيدة خديجة أكبر دليل على أنها كانت سند النبي صلى الله عليه وسلم ، بل إن أبلغ شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه حينما فتح مكة ، ودعاه سادة قريش ليبيت عندهم ، قال : انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة ، وركز لواء النصر أمام قبرها ، ليعلم أهل الأرض أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر ، هذه الحياة الزوجية الراقية ، أن تكون زوجتك قريبة من طموحاتك ، ومن همومك ، ومن أهدافك .

(( فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي ، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا )) .

معنى ذلك أن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، من بدء الخلق إلى يوم القيامة ، ليمتحن الله المؤمنين ، ولولا هذه المعركة لما كانت جنة ، أليس الله قادراً أن يخلق الكفار في قارة ، والمؤمنين في قارة ، ليس هناك بدر ، ولا أحد ، ولا الخندق ، ولا فتح مكة ، وكل الناس مؤمنون مسالمون ، عندئذٍ ليس هناك جنة .

 

( سورة البقرة الآية : 214 ) .

 

( سورة الأحزاب )

لذلك حينما تأتي المحن تكون بعدها المنح ، حينما تأتي الشدائد يكون بعدها شَدة إلى الله عز وجل .

في متحف استنبول ماسة قيمتها 150 مليون دولار ، بحجم البيضة ، 150 مليون دولار ، ما أصل الماس ؟ فحم ، ائتِ بفحمة بحجم هذه الماسة كم قيمتها ؟ خمسة قروش ، قرش ، ما الفرق بين القطعتين ؟ 150 مليون دولار ، والضغط الشديد الذي أصاب الفحم جعله ماساً ، الحرارة الشديدة التي أصابت الفحم جعلته ماساً ، والآن الماس التقليدي أساسه فحم ، عُرض لضغط شديد ، ولحرارة مرتفعة .

فالشدائد والضغوط هذه تصنع الرجال ، وتصنع البطولات ، وقد تكون سبباً لدخول الجنة ، الدنيا ليست دار جزاء هي دار ابتلاء ، واسم الله عز وجل العدل محقق في الدنيا جزئياً ، بينما هو محقق يوم القيامة كلياً .

( سورة يونس الآية : 34 ) .

( سورة طه ) .

 

ليست العبرة أن تسلم من كل مصيبة ، العبرة أن تقف الموقف الكامل مع كل مصيبة .

ثم لم يلبث أن توفي ورقة ، وفتر الوحي فترة ، حزن النبي لها حزناً شديداً ، لكن كان جبريل يتبدى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول له : يا محمد ، إنك رسول الله حقاً ، كان يرى جبريل من حين إلى آخر ، لأنه لما فتر الوحي تألم النبي عليه الصلاة والسلام     والدليل :

( سورة الضحى ) .

( سورة مريم ) .

أكبر عطاء تناله من الله أن تكون لك مع الله مودة ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان في أعلى درجات سعادته حينما جاءه الوحي ، فلما غاب عنه طويلاً ، ما الحكمة أنه غاب عنه ؟ الحكمة أن هذا الوحي ليس في مقدور النبي أن يجلبه ، ولا أن يدفعه ، هو منفصل عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم .

أيها الإخوة ، أوضح دليل أنه لما اتهمت السيدة عائشة رضي الله عنها ، واتهمت في أخطر وأثمن ما تملكه فتاة على وجه الأرض ، في شرفها ، وطهارتها ، وعفتها ، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس عنده دليل إثبات ، ولا دليل نفي ، وتألم أشد الألم ، ولهطت الأفواه ، وأرجف الناس في المدينة ، وشاعت قصتها ، الزوجة الأولى ، السيدة الأولى ، تتهم بعفتها ؟!

( سورة النور الآية :11 ) .

امتحن المؤمنون ، المؤمنون الصادقون ظنوا بزوجة نبيهم خيرا ، وقالوا :

( سورة النور ) .   

بينما المنافقون ولغوا في حديث الإفك ، وارتاحوا له ، لماذا تأخر الوحي في تبرئتها قريباً من أربعين يوماً ، لو أن الوحي بملك النبي لجاءت بعد دقيقة آية تبرّئها ، هذا دليل قوي جداً على أن الوحي ليس بملك النبي ، الوحي منفصل عن رسول الله انفصالاً كلياً ، نحن ديننا دين وحي ، ديننا ليس تراثاً ، وليس ثقافة ، دين وحي .

أيها الإخوة ، يروى أن السيدة خديجة دعت النبي e إلى أخذ قسط من الراحة ، بعد ما أصابه ما أصابه ، فقال كلمة والله كلما ذكرتها اقشعر جلدي ، قال لها : انقضى عهد النوم يا خديجة ، هل تحمل هم المسلمين ؟ هل تحمل متاعبهم ، هل تفكر بالتخفيف عنهم ، هذا الذي يعيش لذاته لا وزن له عند الله ، هل فكرت يوماً لحل مشكلة لمن حولك ، حل مشكلة شاب ، تزويج شاب تزويج فتاة ، مساعدة ضعيف ، معالجة مريض ، هل فرحت لخير أصاب المسلمين ؟ هل تألمت لشر أصابهم ؟ أم لا يعنيك ذلك إطلاقاً ، والله ما لم نحمل هموم بعضنا ، ما لم نسعى لتخفيفها ، فلا وزن لنا عند الله إطلاقاً ، كان عليه الصلاة والسلام يقول : (( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ، ولضحكتم قليلا )) .

[ أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء ]

لأنه كان يحمل هم البشرية ، وكلما اتسعت دائرة اهتمامك ارتقى مقامك عند الله .

( سورة طه ) .

هذا الشقاء المقدس .

( سورة طه ) .

أيها الإخوة ، لقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزول صدر سورة ] اِقْرَأْ [ نقطة تحول في تاريخ البشرية ، نقلتها من طريق الاعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور ، إلى طريق الله المستقيم ، المؤدي إلى النجاة في الدنيا والآخرة .

أيها الإخوة ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( بينَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السّمَاءِ ، فَرَفعْتُ رَأْسِي فإذَا المَلَكُ الّذِي جَاءَنِي بِحراءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَجَثِثْتُ مِنْهُ رُعْباً ، فَرَجَعْتُ ، فَقُلْتُ : زَمّلُونِي ، زَمّلُونِي ، فَدَثّرُوني ، فأنْزَلَ الله تعالى قوله :

( البخاري عن جابر) .

هذه نقطة التحول ، أربعون عامًا يعاني النبي ما يعاني في قومه ، من الفساد ، والربا  وشرب الخمور ، والزنا ، والعصبية الجاهلية ، والحروب ، والاقتتال ، ونحن الآن والله في جاهلية أشد ، لذلك قال تعالى :

( سورة الأحزاب الآية : 33 ) .

إشارة إلى أن هناك جاهلية ثانية أشد وأدهى : ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ .

( سورة الشعراء ) .

ماذا نفهم من هذا الكلام ؟ 

إخواننا الكرام ، أقرباؤك لهم ميزة ، أنه ليس بينك وبينهم حاجز ، أنت هل تستطيع أن تمشي في الطريق ، وأن تمسك بيد إنسان ، وأن تقول له : تعال معي إلى المسجد ؟ لا تستطيع ، أما أخوك ، ابن أخيك ، ابن عمك ، ابن خالتك ، صديقك ، زميلك ، جارك ، قال تعالى : ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ ، ينبغي أن تستغل أن هؤلاء الأقرباء الذين هم حولك واثقون منك ، ليس هناك حاجز بينك وبينهم ، فلذلك : ﴿ قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ ، عرفهم بعظمة الله عز وجل ، كبر ، قل : الله أكبر ، نقولها دائماً نحن ، اسمعوا هذه الكلمات ، نرددها كثيراً : من أطاع مخلوقاً وعصى خالقاً ما قال الله أكبر ولا مرة ، ولو رددها بلسانه ألف مرة ، لأنه رأى أن طاعة هذا المخلوق أثمن عنده من طاعة الله ، فكلمة الله أكبر قالها كاذباً ، من أطاع زوجته وعصى ربه ما قال الله أكبر ولا مرة ، ولو رددها بلسانه ألف مرة ، من غشى المسلمين ، وجاء ليصلي ، وقال : الله أكبر فهو كاذب ، لأنه رأى أن هذا المبلغ الكبير الذي حصله من غش المسلمين أكبر عنده من الله ، لذلك الله أكبر يجب أن تستند إلى واقع ، وإلا أصبحت كلمات المسلمين كلمات مفرغة من مضمونها ، لا تعني شيئاً ، تقول : الله أكبر ، وكل شيء عندك أكبر من الله .

لذلك أيها الإخوة ، قال لها : انقضى عهد النوم يا خديجة ، وقد ثبت أن الوحي نزل عليه أول ما نزل يوم الاثنين ، كما أن المشهود أن ذلك حصل في شهر رمضان ، قال تعالى :

( سورة البقرة الآية : 158 ) .

والوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظير الوحي الإلهي إلى الأنبياء السابقين قال تعالى :

( سورة النساء ) .

الآن بعض أوصاف الوحي ، كان عليه الصلاة والسلام يعاني من التنزيل شدة فكان جبينه يتفصد عرقاً ، في يوم الشديد البرد ، وكان وجهه يتغير ، ويبدو عليه علامات التعب الشديد ، وكان جسمه يسخن ، يقول زيد بن ثابت : فأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن ترضّ فخذي ، وكان يركز ذهنه بشدة لحفظ القرآن ، فيحرك به لسانه وشفتيه من شدة اهتمامه ، فنزل قوله تعالى :

( سورة القيامة ) .

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ القرآن الكريم يدفعه إلى التعجل في تلقيه ، والشوق إليه ، وقد بينت ذلك الآية الكريمة :

( سورة طه ) .

وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيه الوحي حين قال : (( أَحْيَانا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ )) .

[ متفق عليه عن عائشة ] .

الصلصة صوت الحديد إذا اصطدم بعضه ببعض .

(( مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ ، وَهُوَ أَشَدّهُ عَلَي ، فَيَفْصِمُ عَنّي ، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ ، وَأَحْيَانا يَتَمَثّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُول )) .

وكان الوحي يأتيه في اليقظة كما تدل على ذلك الأحاديث الصحيحة ، استغرق نزول الوحي 23 سنة ، منها 13 عاماً بمكة المكرمة ، وهذا هو المشهور ، وعشر سنين في المدينة ، وهذا المتفق عليه .

أيها الإخوة ، إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية ، حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله القرآن الكريم بوساطة جبريل عليه السلام ، وبالتالي ـ الآن دققوا ـ فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام ، ولا بالتأمل الباطني ، ولا بالاستشعار الداخلي ، بل إن الوحي يتم من خارج الذات المحمدية المتلقية له ، ودون أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم أي أثر في الصياغة والمعنى ، القرآن الكريم وحي متلو ، وتنحصر مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بتلقي الوحي ، وحفظ الموحى به وتبليغه ، أما بيانه وتفسيره فيتم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوبه ، وبلفظه ، كما تدل على ذلك الأحاديث المحفوظة ، وهو أسلوب مغاير تماماً لأسلوب القرآن الكريم .

ديننا دين وحي ، والوحي حق صُراح .

( سورة فصلت الآية : 42 ) .

ديننا ليس تراثاً ، وليس ثقافة ، ولكنه وحي السماء ، وقد قال الله عز وجل :

( سورة المائدة الآية : 3 ) .

قال علماء التفسير : الإتمام عددي ، والإكمال نوعي ، إي أن عدد القضايا التي عالجها الوحي تام عدداً ، وأن طريقة المعالجة التي تمت كاملة نوعاً ، وأية إضافة على الدين اتهام له بالنقص ، وأي حذف منه اتهام له بالزيادة .

ومع دروس قادمة في فقه السيرة نتابع فيها الأحداث التي مرت بالنبي عليه الصلاة والسلام مسلسلة .

والحمد لله رب العالمين