تفسير سورة الفرقان

الناقل : heba | المصدر : www.quran-radio.com

سورة الفرقان

 

تنزيل القرآن وإثبات وحدانية الله:

مزاعم المشركين في القرآن:

تساءل المشركين وطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم :

تكذيب المشركين باليوم الآخر والمقارنة بينهم وبين أهل الجنة:

أحوال الكفار والمعبودين من دون الله يوم القيامة:

إثبات بشرية الرسل:

طلب المشركين إنزال الملائكةُ عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم:

هول يوم القيامة ورهبته:

هجر الكفار للقرآن ومطالبتهم بإنزاله دفعة واحدة:

قصص بعض الأنبياء وجزاء المكذب بهم:

استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم ورمي دعوته بالضلال:

دلائل وجود الله وتوحيده:

عبادة المشركين الأوثان وعبادة المؤمنين الرحمن:

صفات عباد الرحمن:

بَين يَدَي السُّورَة

      * سورة الفرقان مكية وهي تعنى بشؤون العقيدة، وتعالج شبهات المشركين حول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحول القرآن العظيم، ومحور السورة يدور حول إِثبات صدق القرآن، وصحة الرسالة المحمدية، وحول عقيدة الإِيمان بالبعث والجزاء، وفيها بعض القصص للعظة والاعتبار.

      * ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الذي تفنَّن المشركون بالطعن فيه، والتكذيب بآياته، فتارة زعموا أنه أساطير الأولين، وأُخرى زعموا أنه من اختلاق محمد أعانه عليه بعض أهل الكتاب، وثالثه زعموا أنه سحرٌ مبين، فردَّ الله تعالى عليهم هذه المزاعم الكاذبة، والأوهام الباطلة، وأقام الأدلة والبراهين على أنه تنزيل رب العالمين، ثم تحدثت عن موضوع الرسالة التي طالما خاض فيها المشركون المعاندون، واقترحوا أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً، وأن تكون الرسالة - على فرض تسليم الرسول من البشر - خاصة بذوي الجاه والثراء، فتكون لإِنسان غني عظيم، لا لفقير يتيم، وقد ردَّ الله تعالى شبهتهم بالبرهان القاطع، والحجة الدامغة، التي تقصم ظهر الباطل.

      * ثم ذكرت الآيات فريقاً من المشركين عرفوا الحقَّ وأقرّوا به، ثم انتكسوا إِلى جحيم الضلال، وذكرت منهم "عقبة بن أبي معيط" الذي أسلم ثم ارتد عن الدين بسبب صديقه الشقي "أُبي بن خلف" وقد سماه القرآن الكريم بالظالم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآية وسمَّى صديقه بالشيطان.    

      * وفي ثنايا السورة الكريمة جاء ذكر بعض الأنبياء إِجمالاً وجاء الحديث عن أقوامهم المكذبين، وما حلَّ بهم من النكال والدمار نتيجة لطغيانهم وتكذيبهم لرسل الله كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرسّ وقوم لوط، وغيرهم من الكافرين الجاحدين، كما تحدثت السورة عن دلائل قدرة الله ووحدانيته، وعن عجائب صنعه وآثار خلقه في هذا الكون البديع، الذي هو أثر من آثار قدرة الله، وشاهد من شواهد العظمة والجلال.    

      * وختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن، وما أكرمهم الله به من الأخلاق الحميدة التي استحقوا بها الأجر العظيم في جنات النعيم.

التسمَية:

      سميت السورة الكريمة "سورة الفرقان" لأن الله تعالى ذكر فيها هذا الكتاب المجيد الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وكان النعمة الكبرى على الإِنسانية لأنه النور الساطع والضياء المبين، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والنور والظلام، والكفر والإِيمان، ولهذا كان جديراً بأن يسمى الفرقان.

تنزيل القرآن وإثبات وحدانية الله

      {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا(3)}.

      {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} أي تمجَّد وتعظَّم وتكاثر خير الله الذي نزَّل القرآن العظيم الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} أي ليكون محمد نبياً للخلق أجمعين مخوفاً لهم من عذاب الله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو تعالى المالك لجميع ما في السماوات والأرض خلقاً وملكاً وعبيداً { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أي وليس له ولدٌ كما زعم اليهود والنصارى { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي وليس معه إِله كما قال عبدة الأوثان {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي أوجد كل شيء بقدرته مع الإِتقان والإِحكام. قال ابن جزي: الخلق عبارة عن الإِيجاد بعد العدم، والتقدير عبارةٌ عن إتقان الصنعة وتخصيص كل مخلوقٍ بمقداره وصنعته، وزمانه ومكانه، ومصلحته وأجله وغير ذلك وقال الرازي: وصف سبحانه ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء: الأول: أنه المالك للسماوات والأرض وهذا كالتنبيه على وجوده والثاني: أنه هو المعبود أبداً والثالث: أنه المنفرد بالألوهية والرابع: أنه الخالق لجميع الأشياء مع الحكمة والتدبير {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي عبد المشركون غير الله من الأوثان والأصنام {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي لا يقدرون على خلق شيء أصلاً بل هم مصنوعون بالنحت والتصوير فكيف يكونون آلهة مع الله ؟ {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي لا يستطيعون دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} أي لا تملك أن تُميت أحداً، ولا أن تُحيي أحداً ولا أن تبعث أحداً من الأموات قال الزمخشري: المعنى أنهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة لا يقدرون على شيء، وإِذا عجزوا عن دفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور الذي لا يقدر عليها إِلا الله أعجز.

مزاعم المشركين في القرآن

     {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا(4)وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(5)قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(6)}.

سبب النزول:

      قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وعنى بقوله تعالى: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} عدَّاس مولى حُوَيْطب بن عبد العُزَّى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر أو أبو فُكَيْهة الرومي، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وكانوا يقرؤون التوراة ويحدثون أحاديث منها، فلما أسلموا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، قال النضر ما قال. فرد الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}.

      {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} أي وقال كفار قريش ما هذا القرآن إِلا كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي وساعده على هذا الاختلاق قومٌ من أهل الكتاب {فَقَدْ جَاءوا ظُلْمًا وَزُورًا} أي جاءوا بالظلم والبهتان حيث جعلوا العربي يتلقَّنُ من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب فكان كلامهم فيه محض الكذب والزور {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} أي وقالوا في حق القرآن أيضاً إِنه خرافات الأمم السابقين أمر أن تُكتب له {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي فهي تُلقى وتُقرأ عليه ليحفظها صباحاً ومساءً قال ابن عباس: والقائل هو "النضر بن الحارث" وأتباعه والإِفكُ أسوأ الكذب {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هذا ردٌّ عليهم في تلك المزاعم أي قل لهم يا محمد أنزله الله العليم القدير الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي إِنه تعالى لم يعجّل لكم العقوبة بل أمهلكم رحمة بكم لأنه واسع المغفرة رحيم بالعباد.

تساءل المشركين وطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم

      {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا(8)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً(9)تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا(10)}.

سبب النزول:

      أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئاً في الآخرة، وإن شئت جَمَعْتُهما لك في الآخرة، فقال: لا، بل اجمعْها لي في الآخرة، فنزلت: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} الآية. أي أن عرض الخزائن من الله. وجاء في السيرة النبوية أن عروض الإغراء بالمال والغنى، والسيادة والجاه، والملك والسلطان كانت من زعماء قريش.

      {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} أي وقال المشركون ما لهذا الذي يزعم الرسالة يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لطلب المعاش كما نمشي ؟ إِنه ليس بمَلَك ولا مَلِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذّل في الأسواق، وفي قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} مع إِنكارهم لرسالته تهكم واستهزاء {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} أي هلاّ بعث الله معه ملكاً ليكون له شاهداً على صدق ما يدعيه ! {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} أي يأتيه كنزٌ من السماء فيستعين به ويستغني عن طلب المعاش {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي يكون له بستان يأكل من ثماره {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا} أي وقال الكافرون ما تتبعون أيها المؤمنون إِلا إِنساناً سحر فغلب على عقله فهو يزعم أنه رسول الله {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} أي انظر كيف قالوا في حقك يا محمد تلك الأقاويل العجيبة، الجارية لغرابتها مجرى الأمثال ! وكيف اخترعوا تلك الصفات والأحوال الشاذة فضلُّوا بذلك عن الهدى! {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي فلا يجدون طريقاً إلى الحق بعد أن ضلوا عنه بتكذيبك وإِنكار رسالتك، ذكروا له عليه الصلاة والسلام خمس صفات وزعموا أنها تُخلُّ بالرسالة زعماً منهم أنَّ فضيلة الرسول على غيره تكون بأمورٍ جسمانية وهي غاية الجهالة والسفاهة فردَّ الله عليهم بأمرين: الأول: تعجيب الرسول صلى الله عليه وسلم من تناقضهم فتارة يقولون عنه شاعر، وتارة ساحر، وأُخرى يقولون إِنه مجنون حتى أصبحت تلك الأقوال الغريبة الشاذة، والأمور العجيبة جارية مجرى الأمثال والثاني: أن الله تعالى لو أراد لأعطى نبيَّه خيراً مما اقترحوا وأفضل مما يتصورون وهو المراد بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أي تمجَّد وتعظّم الله الكبير الجليل الذي لو أراد لجعل لك خيراً من ذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق تسير فيها الأنهار لا جنةً واحدة كما قالوا {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة كما هو حال الملوك قال الضحاك: لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة حزن عليه السلام فنزل جبريل معزياً له فبينما النبي وجبريل يتحدثان إذ فُتح باب من السماء فقال جبريل: أبشرْ يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربك فسلَّم عليه وقال: ربك يخيرّك بين أن تكون نبياً ملكاً، وبين أن تكون نبياً عبداً - ومعه سفط من نور يتلألأ - ثم قال: هذه مفاتيح خزائن الأرض فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل نبياً عبداً" فكان عليه السلام بعد ذلك لا يأكل متكأ حتى فارق الدنيا.

تكذيب المشركين باليوم الآخر والمقارنة بينهم وبين أهل الجنة

       {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا(11)إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا(12)وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا(13)لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا(14)قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا(15)لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً(16)}.

      {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} أي بل كذبوا بالقيامة {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} أي وهيأنا لمن كذَّب بالآخرة ناراً شديدة الاستعار قال الطبري: المعنى ما كذب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به من الحق من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ولكنْ من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد تكذيباً منهم بالقيامة وأعددنا لمن كذَّب بالبعث ناراً تُسعَّر علهم وتتَّقد {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي إِذا رأت جهنم هؤلاء المشركين من مسافة بعيدة وهي مسير خمسمائة عام {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أي سمعوا صوت لهيبها وغليانها كالغضبان إِذا غلا صدره من الغيظ وسمعوا لها صوتاً كصوت الحمار وهو الزفير قال ابن عباس: إِن الرجل ليجرُّ إِلى النار فتشهق إِليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إِلاّ خاف، وتقييد الرؤية بالبعد {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فيه مزيد تهويل لأمرها {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} أي وإِذا أُلقوا في جهنم في مكانٍ ضيّق قال ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزُّج في الرُّمح - الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح - {مُقَرَّنِينَ} أي مصفَّدين قد قرنت أيديهم إِلى أعناقهم بالسلاسل {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} أي دعوا في ذلك المكان على أنفسهم بالويل والهلاك يقولون: يا هلاكنا، نادوه نداء المتمني للهلاك ليسلموا مما هو أشدُّ منه كما قيل: أشدُّ من الموت ما يتمنى معه الموت {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} أي يقال لهم: لا تدعوا اليوم بالهلاك على أنفسكم مرةً واحدة بل ادعوا مراتٍ ومراتٍ، فإِن ما أنتم فيه من العذاب الشديد يستوجب تكرير الدعاء في كل حين وآن، وفيه إِقناطٌ لهم من استجابة الدعاء وتخفيف العذاب {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ؟ أي قل لهم يا محمد على سبيل التقريع والتهكم أذلك السعير خيرٌ أم جنة الخلود التي وعدها المتقون ؟ قال ابن كثير: يقول الله تعالى يا محمد : هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين تتلقاهم جهنم بوجهٍ عبوسٍ وتغيظٍ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرّنين لا يستطيعون حراكاً ولا فكاكاً مما هم فيه، أهذا خيرٌ أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ؟ قال الإِمام الفخر الرازي: فإِن قيل كيف يقال العذاب خيرٌ أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل: السُكر أحلى أم الصبر ؟ قلنا: هذا يحسن في معرض التقريع كما إِذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرَّد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ: أهذا أطيب أم ذاك ؟ {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} أي كانت لهم ثواباً ومرجعاً {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي لهم في الجنة ما يشاؤون من النعيم {خَالِدِينَ} أي ماكثين فيها أبداً سرمداً بلا زوال ولا انقضاء {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً} أي كان ذلك الجزاء وعداً على ذي الجلال حقيقاً بأن يُسأل ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، وهو وعدٌ واجب.

أحوال الكفار والمعبودين من دون الله يوم القيامة

     {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(17)قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا(18)فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا(19)}.

      {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين يجمع الله الكفار والأصنام وكل من عُبد من دون الله كالملائكة والمسيح قال مجاهد: هو عيسى وعزير والملائكة {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} أي فيقول تعالى للمعبودين تقريعاً لعبدتهم: أأنتم دعوتم هؤلاء إِلى عبادتكم ؟ {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} أي أم هم ضلوا الطريق فعبدوكم من تلقاء أنفسهم ؟ {قَالُوا سُبْحَانَكَ} أي قال المعبودون تعجباً مما قيل لهم: تنزَّهت يا الله عن الأنداد {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي ما يحقُّ لنا ولا لأحدٍ من الخلق أن يعبد غيرك، ولا أن يشرك معك سواك {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي ولكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعمة - وكان يجب عليهم شكرها والإِيمان بما جاءت به الرسل - فكان ذلك سبباً للإِعراض عن ذكرك وشكرك {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أي وكانوا قوماً هالكين، قال تعالى توبيخاً للكفرة {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي فقد كذبكم هؤلاء المعبودون في قولكم إِنهم آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} أي فما تستطيعون أيها الكفار دفعاً للعذاب عنكم ولا نصراً لأنفسكم من هذا البلاء {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} أي ومن يشرك منكم بالله فيظلم نفسه نذقه عذاباً شديداً في الآخرة.

إثبات بشرية الرسل

     {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(20)}.

سبب النزول:

      أخرج الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال : لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة، وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} حزِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل: {وما أرسلنا قَبْلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق}.

      {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد أحداً من الرسل إِلا وهم يأكلون ويشربون ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة، فتلك هي سنة المرسلين من قبلك فلم ينكرون ذلك عليك ؟ وهو جواب عن قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} ؟ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}أي جعلنا بعض الناس بلاءً لبعض ومحنة، ابتلى الله الغنيَّ بالفقير، والشريف بالوضيع، والصحيح بالمريض ليختبر صبركم وإِيمانكم أتشكرون أم تكفرون ؟ قال الحسن: يقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان، ويقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي عالماً بمن يصبر أو يجزع، وبمن يشكر أو يكفر.

طلب المشركين إنزال الملائكةُ عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم

      {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا(21)يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا(22)وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً(24)}.

المنَاسَبَة:

      لما حكى تعالى إِنكار المشركين لنبوة محمد عليه السلام وتكذيبهم للقرآن، أعقبه بذكر بعض جرائمهم الأخرى، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء وما حلَّ بأقوامهم المكذبين تسلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام.

      {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي قال المشركون الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يخشون عقابه لتكذيبهم بالبعث والنشور {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكةُ} أي هلاّ نزلت الملائكة علينا فأخبرونا بصدق محمد {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أي أو نرى الله عياناً فيخبرنا أنك رسوله قال أبو حيان: وهذا كله على سبيل التعنت وإِلا فما جاءهم به من المعجزات كافٍ لو وُفّقوا { لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} أي تكبروا في شأن أنفسهم حين تفوهوا بمثل هذه العظيمة، وطلبوا ما لا ينبغي {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} أي تجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان، حتى بلغوا أقصى العتو وغاية الاستكبار {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} أي يوم يرى المشركون الملائكة حين تنزل لقبض أرواحهم وقت الاحتضار لن يكون للمجرمين يومئذٍ بشارة تسرهم بل لهم الخيبة والخسران {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أي تقول الملائكة لهم: حرام ومحرم عليكم الجنة والبُشرى والغفران قال ابن كثير: وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار، فتقول للكافر عند خروج روحه: أُخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، أُخرجي إِلى سمومٍ وحميم وظلٍ من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه بمقامع الحديد، بخلاف المؤمنين حال احتضارهم فإِنهم يُبشرون بالخيرات وحصول المسرات {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} أي عمدنا إِلى أعمال الكفار التي يعتقدونها براً كإِطعام المساكين وصلة الأرحام ويظنون أنها تقربهم إِلى الله {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أي جعلناه مثل الغبار المنثور في الجو، لأنه لا يعتمد على أساس ولا يستند على إِيمان قال الطبري: أي جعلناه باطلاً لأنهم لم يعملوه لله، وإِنما عملوه للشيطان، والهباء هو الذي يُرى كهيئة الغبار إِذا دخل ضوء الشمس من كوة، والمنثور المتفرق وقال القرطبي: إِن الله أحبط أعمالهم بسبب الكفر حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} لما بيَّن تعالى حال الكفار وأنهم في الخسران الكلي والخيبة التامة، شرح وصف أهل الجنة وأنهم في غاية السرور والحبور، تنبيهاً على أن السعادة كل السعادة في طاعة الله عز وجل، ومعنى الآية: أصحابُ الجنة يوم القيامة خيرٌ من الكفار مستقراً ومنزلاً ومأوى {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي وأحسنُ منهم مكاناً للتمتع وقت القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار، فالمؤمنون في الآخرة في الفردوس والنعيم المقيم، والكفار في دركات الجحيم قال ابن مسعود: "لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار".

هول يوم القيامة ورهبته

     {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً(25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا(26)وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27)يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً(29)}.

سبب النزول:

      أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أُبيّ بن خَلَف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي مُعَيط، فنزل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: {مَخْذُولاً}.

      وفي رواية: كان عقبة بن أبي مُعَيْط يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه، فعاتبه، وقال : صبأت ؟! فقال: لا، ولكن أبى أن يأكل من طعامي، وهو في بيتي، فاستحييت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه، فوجده ساجداً في دار الندوة، ففعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوتُ رأسَك بالسيف" فأسر يوم بدر، فأمر علياً فقتله، وطعن أُبياً بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكة ومات يقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}.

      قال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فتشعب شعبتين، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.

      {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب يوم تتشقَّق السماء وتنفطر عن الغمام الذي يُسود الجو ويُظلمه ويغم القلوب مرآه لكثرته وشدة ظلمته {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} أي ونزلت الملائكة فأحاطت بالخلائق في المحشر {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} أي الملك في ذلك اليوم لله الواحد القهار، الذي تخضع له الملوك، وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة، لا مالك يومئذٍ سواه كقوله {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} أي وكان ذلك اليوم صعباً شديداً على الكفار قال أبو حيان: ودل قوله {عَلَى الْكَافِرِينَ} على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث (إِنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاةٍ مكتوبة صلاها في الدنيا) {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} أي واذكر يوم يندم ويتحسر الظالم على نفسه لما فرَّط في جنب الله، وعضُّ اليدين كنايةٌ عن الندم والحسرة، والمراد بالظالم "عُقبة بن أبي معيط" كما في سبب النزول، وهي تعمُّ كل ظالم قال ابن كثير: يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وسلك سبيلاً غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا نفعه الندم، وعضَّ على يديه حسرةً وأسفاً، وسواءٌ كان نزولها في "عقبة بن معيط" أو غيره من الأشقياء فإِنها عامةٌ في كل ظالم {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} أي يقول الظالم يا ليتني اتبعتُ الرسول فاتخذت معه طريقاً إِلى الهدى ينجيني من العذاب {يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً} أي يا هلاكي وحسرتي يا ليتني لم أصاحب فلاناً واجعله صديقاً لي، ولفظ {فُلان} كناية عن الشخص الذي أضلَّه وهو "أُبي بن خلف" قال القرطبي: وكنى عنه ولم يصرّح باسمه ليتناول جميع من فعل مثل فعله {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} أي لقد أضلني عن الهدى والإِيمان بعد أن اهتديت وآمنت ثم قال تعالى {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} أي يُضله ويُغويه ثم يتبرأ منه وقت البلاء فلا ينقذه ولا ينصره.

هجر الكفار للقرآن ومطالبتهم بإنزاله دفعة واحدة

      {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا(30)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً(32)وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا(33)الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً(34)}.

سبب النزول:

نزول الآية(32):

      أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم، كما يزعم نبياً، فلِمَ يعذبُه ربه، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، فينزل عليه الآية والآيتين، فأنزل الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.

      {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} لما أكثر المشركون الطعن في القرآن ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إِلى الله والمعنى: قال محمد يا رب إِنَّ قريشاً كذبت بالقرآن ولم تؤمن به وجعلته وراء ظهورها متروكاً وأعرضوا عن استماعه قال المفسرون: وليس المقصود من حكاية هذا القول الإِخبار بما قال المشركون بل المقصود منها تعظيم شكايته، وتخويف قومه، لأن الأنبياء إِذا التجأوا إِلى الله وشكوا قومهم حل بهم العذاب ولم يمهلوا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدواً من كفار قومه، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وكفى أن يكون ربك يا محمد هادياً لك وناصراً لك على أعدائك فلا تبال بمن عاداك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقال كفار مكة {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي هلاَّ نزل هذا القرآن على محمد دفعة واحدة كما نزلت التوراة والإِنجيل ؟ قال تعالى ردّاً على شبهتهم التافهة {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزلناه مفرقاً لنقوي قلبك على تحمله فتحفظه وتعمل بمقتضى ما فيه {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي فصَّلنا تفصيلاً بديعاً قال قتادة : أي بينَّاه وقال الرازي: الترتيلُ في الكلام أن يأتي بعضه على إِثر بعض على تُؤدة وتمهل، وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها وقال الطبري: الترتيلُ في القراءة الترسُّلُ والتثبتُ يقول: علمناكه شيئاً بعد شيء حتى تحفظه {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي ولا يأتيك هؤلاء الكفار بحجةٍ أو شبهةٍ للقدح فيك أو في القرآن إِلا أتيناك يا محمد بالحق الواضح، والنور الساطع لندمغ به باطلهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي أحسن بياناً وتفصيلاً، ثم ذكر تعالى حال هؤلاء المشركين المكذبين للقرآن فقال {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} أي يُسْحبون ويجُرُّون إِلى النار على وجوههم {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي هم شر منزلاً ومصيراً، وأخْطأ ديناً وطريقاً وفي الحديث "قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال: إِن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة".

قصص بعض الأنبياء وجزاء المكذب بهم

     {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا(35)فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا(36)وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(37)وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا(38)وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا(39)وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا(40)}.

      ثم ذكر تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإِرهاباً للمكذبين فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} أي وأعنَّاه بأخيه هارون فجعلناه وزيراً يناصره ويُؤآزره {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي اذهبا إلى فرعون وقومه بالآيات الباهرات، والمعجزات الساطعات {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أي فأهلكناهم إِهلاكاً لمّا كذبوا رسلنا {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان لمّا كذبوا رسولهم نوحاً وجعلناهم عبرةً لمن يعتبر قال أبو السعود: وإِنما قال الرسل بالجمع مع أنهم كذَّبوا نوحاً وحده لأن تكذيبه تكذيبٌ للجميع لاتفاقهم على التوحيد والإِسلام {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأعددنا لهم في الآخرة عذاباً شديداً مؤلماً سوى ما حلَّ بهم في الدنيا {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} أي وأهلكنا عاداً وثمود وأصحاب البئر الذين انهارت بهم قال البيضاوي: وأصحابُ الرس قومٌ كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إِليهم شعيباً فكذبوه فبينما هم حول الرس - وهي البئر غير المطوية - انهارت فخسفت بهم وبديارهم {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} أي وأمماً وخلائق كثيرين لا يعلمهم إِلا الله بين أولئك المكذبين أهلكناهم أيضاً {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أي وكلاً من هؤلاء بيّنا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة إِعذاراً وإِنذاراًً {وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أي أهلكناه إِهلاكاً، ودمرناه تدميراً، لمّا لم تنجع فيهم المواعظ {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي ولقد مرَّت قريش مراراً في متاجرهم إِلى الشام على تلك القرية التي أُهلكت بالحجارة من السماء وهي قرية "سدوم" عُظمى قرى قوم لوط {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}؟ توبيخٌ لهم على تركهم الاتعاظ والاعتبار أي أفلم يكونوا في أسفارهم يرونها فيعتبروا بما حلَّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم لرسولهم ومخالفتهم لأوامر الله ؟ قال ابن عباس: كانت قريشٌ في تجارتهم إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كقوله تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} أي إِنهم لا يعتبرون لأنهم لا يرجون معاداً يوم القيامة.

سبب النزول:

نزول الآية(41):

      روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئاً: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}؟.

المنَاسَبَة:

      لما ذكر تعالى شبهات المشركين حول القرآن والرسول، وردَّ عليهم بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، ذكر هنا طرفاً من استهزائهم وسخريتهم بالرسول فلم يقتصروا على تكذيبه بل زادوا عليه بالاستهزاء والاحتقار، ثم ذكر الأدلة على وحدانيته تعالى وقدرته.

استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم ورمي دعوته بالضلال

      {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً(41)إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً(42)أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً(43)أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً(44)}.

      {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي وإِذا رآك المشركون يا محمد ما يتخذونك إِلا موضع هزء وسخرية {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي قائلين بطريق التهكم والاستهزاء: أهذا الذي بعثه الله إِلينا رسولاً ؟ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي إِن كاد ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها قال تعالى رداً عليهم {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وعيد وتهديد أي سوف يعلمون في الآخرة عند مشاهدة العذاب من أخطأ طريقاً وأضل ديناً أَهُمْ أم محمد ؟ {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} تعجيبٌ من ضلال المشركين أي أرأيت من جعل هواه إِلهاً كيف يكون حاله ؟ قال ابن عباس: كان الرجل من المشركين يعبد حجراً فإذا رأى حجراً أحسن منه رماه وأخذ الثاني فعبده {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه ؟ ليس الأمر لك قال أبو حيان: وهذا تيئيسٌ من إِيمانهم، وإِشارةٌ للرسول عليه السلام ألا يتأسف عليهم، وإِعلامٌ أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}؟ أي أتظن أن هؤلاء المشركين يسمعون ما تقول لهم سماع قبول ؟ أو يعقلون ما تورده عليهم من الحجج والبراهين الدالة على الوحدانية فتهتم بشأنهم وتطمع في إِيمانهم؟ {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي ما هم إِلا كالبهائم بل هم أبشع حالاً، وأسوأ مالاً من الأنعام السارحة، لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إِليها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إِحسانه إِليهم.

دلائل وجود الله وتوحيده

     {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(45)ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا(46)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا(47)وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا(48)لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا(49)وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا(51)فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52)وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا(53)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا(54)}.

      ثم ذكر تعالى أنواعاً من الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي ألم تنظر إِلى بديع صنع الله وقدرته كيف بسط تعالى الظلَّ ومدَّه وقت النهار حتى يستروح الإِنسان بظل الأشياء من حرارة الشمس المتوهجة ؟ إِذ لولا الظلُّ لأحرقت الشمس الإِنسان وكدَّرت حياته {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} أي لو أراد سبحانه لجعله دائماً ثابتاً في مكانٍ لا يزول ولا يتحول عنه، ولكنه بقدرته ينقله من مكان إِلى مكان، ومن جهةٍ إلى جهة، فتارة يكون جهة المشرق، وتارة جهة المغرب، وأُخرى من أمام أو خلف{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا طلوع الشمس دليلاً على وجود الظل، فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا الظلمة ما عُرف النور، ولولا الشمسُ ما عرف الظل "وبضدها تتميز الأشياء" {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي أزلنا هذا الظلَّ شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً لا دفعة واحدة لئلا تختل المصالح قال ابن عباس: الظلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس قال المفسرون: الظلُّ هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهو يحدث على وجه الأرض منبسطاً فيما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، ثم إِن الشمس تنسخه وتزيله شيئاً فشيئاً، إلى الزوال، ثم هو ينسخ ضوء الشمس من وقت الزوال إلى الغروب ويسمى فَيْئاً، ووجه الاستدلال به على وجود الصانع الحكيم أن وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، وتغير أحواله بالزيادة والنقصان، والانبساط والتقلص، على الوجه النافع للعباد لا بدَّ له من صانع قادر، مدبر حكيم، يقدر على تحريك الأجرام العلوية، وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن، والترتيب الأكمل وما هو إِلا الله رب العالمين. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وجليل نعمته الفائضة على الخلق فقال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي هو سبحانه الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس بزينته قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث إنه يستر الأشياء فصار لهم ستراً يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} أي وجعل النوم راحةً لأبدانكم بانقطاعكم عن أعمالكم {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} أي وقتاً لانتشار الناس فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسباب رزقهم {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أرسل الرياح مبشرة بنزول الغيث والمطر { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي أنزلنا من السحاب الذي ساقته الرياح ماءً طاهراً مطهّراً تشربون وتتطهرون به قال القرطبي: وصيغة {طَهُور} بناء مبالغة في "طاهر" فاقتضى أن يكون طاهراً مطهّراً {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي لنحيي بهذا المطر أرضاً ميتةً لا زرع فيها ولا نبات {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي وليشرب منه الحيوان والإِنسان لأن الماء حياة كل حيّ، والناس محتاجون إِليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وسقي مواشيهم قال الإِمام الفخر الرازي: وتنكير الأنعام والأناسي لأن حياة البشر بحياة أرضهم وأنعامهم، وأكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار، فهم في غنية عن شرب مياه المطر، وكثيرٌ منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إِلا عند نزول المطر ولهذا قال {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي بشراً كثيرين لأن "فعيل" يراد به الكثرة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أي ضربنا الأمثال في هذا القرآن للناس وبيَّنا فيه الحجج والبراهين ليتفكروا ويتدبروا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} أي أبى الكثير من البشر إِلا الجحود والتكذيب {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} أي لو أردنا لخففنا عنك أعباء النبوة فبعثنا في كل أهل قرية نبياً ينذرهم، ولكنا خصصناك بالبعثة إلى جميع الأرض إِجلالاً لك، وتعظيماً لشأنك، فقابل هذا الإِجلال بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإِظهار الحق {فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} أي فلا تطع الكفار فيما يدعونك إِليه من الكفّ عن آلهتهم، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لا يصاحبه فتور {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي هو تعالى بقدرته خلى وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي بليغ الملوحة، مرُّ شديد المرارة {وَجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي جعل بينهما حاجزاً من قدرته لا يغلب أحدهما على الآخر {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أي ومنعاً من وصول أثر أحدهما إِلى الآخر وامتزاجه به قال ابن كثير: معنى الآية أنه تعالى خلق الماءين: الحلو والمالح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، والمالح كالبحار الكبار التي لا تجري، وجعل بين العذب والمالح حاجزاً وهو اليابس من الأرض، ومانعاً من أن يصل أحدهما إِلى الآخر، وهذا اختيار ابن جرير وقال الرازي: ووجه الاستدلال ههنا بينّ لأن الحلاوة والملوحة إِن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بدَّ من الاستواء، وإِن لم يكن كذلك فلا بدَّ من قادر حكيم يخص كل واحد بصفة معينة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا} أي خلق من النطفة إِنساناً سميعاً بصيراً {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}أي قسمهم من نطفة واحدة قسمين: ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم لأن النسب إلى الأباء كما قال الشاعر:

" فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء " وإِناثاً يُصاهر بهن، فبالنسب يتعارفون ويتواصلون، وبالمصاهرة تكون المحبة والمودة واجتماع الغريب بالقريب {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} أي مبالغاً في القدرة حيث خلق من النطفة الواحدة ذكراً وأنثى.

عبادة المشركين الأوثان وعبادة المؤمنين الرحمن

      {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا(55)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(56)قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(57)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا(58)الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا(60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا(61)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا(62)}.

      ولما شرح دلائل التوحيد عاد إِلى تهجين سيرة المشركين في عبادة الأوثان فقال {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} أي يعبدون الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لأنها جمادات لا تُحسُّ ولا تُبصر ولا تعقل {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أي معيناً للشيطان على معصية الرحمن، لأنَّ عبادته للأصنام معاونة للشيطان قال مجاهد: يظاهر الشيطان على معصية الله ويُعينه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً { إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لكن من شاء أن يتخذ طريقاً يقربه إِلى الله بالإِيمان والعمل الصالح فليفعل كأنه يقول: لا أسألكم مالاً ولا أجراً وإِنما أسألكم الإِيمان بالله وطاعته وأجري على الله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي اعتمد في جميع أمورك على الواحد الأحد، الدائم الباقي الذي لا يموت أبداً، فإِنه كافيك وناصرك ومظهر دينك على سائر الأديان {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزّه الله تعالى عمّا يصفه هؤلاء الكفار مما لا يليق به من الشركاء والأولاد {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي حسبك أن الله مطَّلع على أعمال العباد لا يخفى عليه شيء منها قال الإِمام الفخر الرازي: وهذه الكلمة يراد بها المبالغة كقولهم: كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً، وهي بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبيرٌ بأحوالهم، قادر على مجازاتهم، وذلك وعيدٌ شديد {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي هذا الإِله العظيم الذي ينبغي أن تتوكل عليه هو القادر على كل شيء، الذي خلق السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين في كثافتها وامتدادها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال ابن جبير: الله قادر على أن يخلقها في لحظة ولكن علَّم خلقه الرفق والتثبت {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} استواءً يليق بجلالة من غير تشبيه ولا تعطيل {الرَّحْمَانُ} أي هو الرحمن ذو الجود والإِحسان {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي فسلْ عنه من هو خبيرٌ عارف بجلاله ورحمته، وقيل: الضمير يعود إلى الله أي فاسأل اللهَ الخبيرَ بالأشياء، العالم بحقائقها يطلعك على جليَّة الأمر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ} أي وإِذا قيل للمشركين اسجدوا لربكم الرحمن الذي وسعت رحمته الأكوان {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ}؟ أي من هو الرحمن؟ استفهموا عنه استفهام من يجهله وهم عالمون به { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه؟ {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي وزادهم هذا القول بعداً عن الدين ونفوراً منه.

المنَاسَبَة:

      لما ذكر إعراض المشركين عن عبادة الرحمن أعقبها بذكر آياته الكونية الدالة على الوحدانية، ثم ختم السورة الكريمة بذكر صفات عباد الرحمن التي استحقوا بها دخول الجنان.

      {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} أي وجعل فيها الشمس المتوهجة في النهار، والقمر المضيء بالليل {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي لمن أراد أن يتذَّكر آلاء الله، ويتفكر في بدائع صنعه {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي أراد شكر الله على أفضاله ونعمائه قال الطبري: جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل أدركه النهار، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل.

صفات عباد الرحمن

      { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا(63)وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(64)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66)وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا(72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا(75)خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(76)قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(77)}.

سبب النزول:

نزول الآية(68):

      {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ}: أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظمُ ؟ قال: "أن تجعل لله نِدّاً، وهو خَلقَك"، قلتُ: ثم أي ؟ قال: "أن تقتلَ ولدَك مخافةَ أن يَطْعم معك"، قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تُزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية.

      وأخرج الشيخان عن ابن عباس: أن ناساً من أهل الشرك قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لِما عملنا كفارة؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {غفوراً رحيماً}. ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53].

سبب نزول الآية(70):

      {إِلا مَنْ تَابَ}: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} الآية، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلهاً آخر، وآتينا الفواحش، فنزلت: {إِلا مَنْ تَابَ} الآية. 

      {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} أي وإِذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءً قالوا قولاً يسْلمون من الإِثم قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} أي يُحْيون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم كقوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال الرازي: لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: ترك الإِيذاء، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي لازماً دائماً غير مفارق {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيِّقين بحيث يصبحون بخلاء {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الآية وقال مجاهد: "لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سَرفاً، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان سرفاً فيقال: عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر، بل يوحّدونه مخلصين له الدين {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان، أو زنىً بعد إحصان، أو القتل قِصاصاً {وَلا يَزْنُونَ} أي لا يرتكبون جريمة الزنى التي هي أفحش الجرائم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} أي إلاّ من تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات وفي الحديث (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال له: فإِنَّ لك مكانَ كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب: قد عملتُ أشياء لا أراها ههنا، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذه) {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة كثير الرحمة {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإِن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي وإِذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو، والسينما، والقمار، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري: واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي اجعل لنا في الأزواج والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بنا في الخير {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام كقوله تعالى {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ} الآية {خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} أي قل لهم يا محمد: لا يكترثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.