خريف يائس الأوقات

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

مستسلماً كالأحرفِ العطشى‏

إلى ياءِ النداءِ‏

ومنصتاً بالروحِ للصوتِ الحدائيِّ‏

الذي ينأى ولا يدنو‏

كأجراس الرَّحيلْ..‏

مستسلماً مثل الحمامِ إلى سماوات‏

معلقةٍ على أجراسها الكسلى‏

يموّجني هبوبُ الريحِ‏

كالقمصانِ في حبلِ الغسيلْ.‏

لا أسمعُ الناياتِ إلاَّ وهي تصفرُ‏

في أديمِ الليلِ باللاءاتِ..‏

والمزمارُ يخبطُ أعرجاً في الأرضِ‏

تتبعهُ نواقيسُ الدموعِ العاليهْ‏

ببكائها المعتلِّ، والصوت القتيلْ.‏

دنياهُ يا دنيا!‏

يغنّيها الغريبُ برجعهِ الموجوعِ‏

في أرجاءِ من رحلوا‏

ومن حزنٍ إلى حزنٍ‏

يأوّههُ بكاءٌ أعزلٌ في الروحِ‏

مجروح الهديلْ.‏

دنيا..‏

تقسّمها (مزاميرٌ) من الرّستِ الحنونِ‏

على مسامع عاشقينَ‏

مجمّدينَ على أديمِ فراقهم،‏

وعلى سكارى نائمينَ على ذراعِ الموت‏

كالمتصوفينْ.‏

ممحوّةٌ كالقمحِ في ماء الحنينِ حروفُهَا البحّاءُ‏

يرفعها النحيبُ على أنامل صوتهِ المبحوحِ‏

ثم يصبّها في الناي أغنيةً مقفّاةً‏

بأسماءِ الذين تغيبوا عن حانةِ الدنيا‏

وظلَّ خيالهم‏

أبداً على أبوابنا مطراً حزينْ.‏

لكأنما هي آخرُ الكلماتِ قبل الموت‏

والمُتَحَسَّرُ الأبديُّ للجمعاتِ‏

في تنويحها المفؤودِ‏

تُصْدِيِهَا كمنجاتُ الفراقِ‏

بقوسها المغروس مثل الرمحِ‏

في جسدِ المغني:‏

نمْ قريرَ العينِ يا ولدي الحسينْ!‏

وكأنها تكرارُ صوتِ سكينةَ‏

المذروِّ كالورقِ العتيق‏

على بلاد الرَّافدينْ.‏

لا هذه الصحراءُ مبكاي القديم‏

لكي أيممَ قلبي المهجورَ‏

شطرَ رِمالها العطشى،‏

وأنصابَ الكأبةِ‏

أو أسرحَ في براريها‏

ضفائرَ شعريَ السوداءَ‏

ليلاً إثر ليلٍ‏

كلما هبّتْ على الصحراءِ ريحْ.‏

لا شمسها شمسي‏

لتهدلَ نخلةٌ في الروحِ ذياكَ الهديلَ..‏

ولا استدارَ بأُفقها القمرُ الأشفُّ‏

لليلةِ العشّاقِ‏

كي أبكي على قلبي الجريحْ.‏

مستسلماً لليلِ كالفزاعةِ الثكلى‏

لأحزانِ الأمومةِ في السوّادِ‏

أهزُّ رأسي بالنياحةِ‏

بين مريمَ والمسيحْ.‏

لا شيءَ إلا دمعة الحسراتِ‏

تذرفها عيونُ اللَّيل في كفيْ،‏

وتلعقها شفاهُ اليأس أوقات السآمهْ.‏

ويدورُ ناعورُ الفراق على خريفٍ‏

يائس الأوقاتِ‏

كي يجترَّ ما أبقتْ ليَ‏

الأيامُ من ساعاتها الصفراء‏

وهي تهرُّ كالأكفان من شجر الندامهْ.‏

لا لم يعدْ إلاَّ السواد محدّقاً‏

في وحشتي‏

وأنا أحدّقُ في أناجيلِ المغيبِ‏

كناسكٍ أعمى‏

فيبصرني وأبصرهُ‏

ونمعنُ كالثكالى بالرحيلْ!‏

سقطتْ على تغريبةِ الروحِ الحزينة‏

آخرُ الناياتِ‏

والأحزانُ يُصديها تضرّعُهَا الحزينُ‏

على حديدِ الوقت‏

ثم يعيدها محواً على الأسماع‏

حزنٌ مستحيلْ!‏

لا شيءَ غير ربابةٍ‏

تبكي على صدرِ الغريب تصرّمَ الأيام‏

في سأمٍ‏

فيلقي رأسه السكرانَ‏

من وجعِ الحياةِ على مخدّةِ ركبتيهِ‏

مكفّناً ببكائه، وفراقهِ‏

ويغطّ في حزن طويلْ!‏

فكأنما لا بدّ من تغريبةٍ للروح‏

حين تحينُ ساعتها الأخيرةُ‏

كي تنوحَ على ضريحِ العزلةِ النائي‏

وتسقطَ مثل ليلٍ شاغرٍ‏

في حفرةِ الموت القتيلْ.‏