البيئة التي حولنا وكيف ندركها

الناقل : heba | المصدر : www.feedo.net

 

 
 

     

 

* تمهيد:
نحن نعيش فى
بيئة .. بل فى عدة بيئات: بيئة طبيعية، بيئة مصنوعة وبيئة بشرية، بالإضافة إلى شبكة معقدة من القوانين واللوائح والقواعد الأخلاقية التي تقّيدنا وتحمينا فى ذات الوقت.

كذلك فإننا لا يمكن أن نتجاهل الأنواع والكميات الهائلة التي أدخلتها إلى حياتنا الحضارة من ملوثات الهواء والماء والتربة والغذاء .. والأخلاق والأسماع.
 
المزيد عن التلوث ..
وبينما يرى أحد علماء النفس
"باركر/Barker" أن كل موضع يفرض على الناس الذين يرتادونه عابرين له أو مقيمين به أن يلتزموا بسلوكيات معينة (المستشفيات، المدرجات الجامعية، النوادي الأرستقراطية، المقاهي الشعبية، أقسام الشرطة، المراقص ... الخ)، إلاّ صار سخيفاً أو حتى متهماً بمخالفة اللوائح والقواعد الأخلاقية .. فإن عالماً آخر "كيرث ليفين/K.Levin" يرى ضرورة اعتبار مكونات شخصية الفرد (العقلية، الوجدانية، الجسمية والأخلاقية ... الخ) إحدى محددات سلوك الفرد بجانب خصائص ذلك الموضع، لذا فقد وضع القاعدة الآتية للاسترشاد بها:
"سلوك فرد فى أحد المواضع يتبع ناتج تفاعل مكونات شخصيته مع مكونات ذلك الموضع البيئي".

والآن نطرح سؤالين أساسيين بالنسبة لما يحدث للفرد قبل أن يصدر عنه أي سلوك نحو البيئة وما فيها، أولهما: كيف يحدث الانتباه لوجود الأشياء (المثيرات) التي فى البيئة؟ ثانيها: كيف يفهم مغزى تلك الأشياء، وبالتالي يقرر كيف يتعامل معها بما يراه مناسباً؟
الإجابة على السؤال الأول تولاّها علماء الفيزياء والبيولوجى حين درسوا الحواس الخمس دراسة مستفيضة، وأفادوا بأن المثيرات تسقط على أجهزة الحس فى شكل: موجات ضوئية على العين، موجات صوتية على طبلتي الأذن، ذرات أو جزيئات لمواد متطايرة فى الجو على السائل الموجود على بطانة فتحتي الأنف، ذرات أو جزيئات لأطعمة ومشروبات على اللسان وقوة ضاغطة بدرجة أو بأخرى على الجلد. ثم ما يتبع ذلك من تلقى النهايات العصبية المتخصصة المتشبعة فى المناطق الطرفية بأعضاء الحس المذكورة لهذه الإثارات، ثم تنقلها على شكل سيال (تيار) كهربي إلى مراكز حسية متخصصة موجودة فى المخ: المركز البصري فى مؤخرته والمركز السمعي عل الجانبين .. وهكذا.
 
المزيد عن التركيب التشريحي للعين ..
البيئة التي حولنا وكيف ندركهاوبذلك تكون المرحلتان الفيزيائية والبيولوجية قد اكتملتا ويبدأ دور "العقل" فى فهم وتفسير وإعطاء المعاني لتلك المثيرات الحسية التي تم استقبالها من البيئة .. أي تبدأ عملية الإدراك الحسي
(Perception).
فالإدراك الحسي هو العملية العقلية التي نتعرف بواسطتها على العالم خارج أجسامنا (بل ويمكن أن نضيف إليه تعرّفنا على حالاتنا الداخلية من صداع وعسر هضم واضطرابات فى دقات القلب ... الخ ضمن ما يسمى بـ"الإدراك الحسي الحشوى".
 
المزيد عن الإسعافات الأولية للصداع ..
 
المزيد عن الإسعافات الأولية لعسر الهضم ..

وفى تعريف ثانٍ فإن عملية الإدراك هي التي يتم بها "شعورنا" بالبيئة وبأنفسنا عن طريق تنظيم "أحاسيسنا" الناتجة عن مثيرات البيئة فى خبرات منظمة يمكن استدعائها. والإدراك عملية معرفية تنظيمية نشطة نتعرف بها على مغزى ما يسقط من أعضاء حسنا من مثيرات متنوعة.

* ماذا يحدث فى عملية إدراكنا للأشياء المحيطة بنا؟
فى عملية الإدراك نقوم بمحاولة عمل تكامل بين الإحساسات الناتجة عن استقبالنا للأشياء التي نراها أو نسمعها مما حولنا فى البيئة، ثم نعرضها على خبراتنا السابقة ثم نتبصر فى ذلك كله للوصول إلى معنى جديد يفوق الإحساسات "الخام" التي حصلنا عليها. فإذا وصل إلى آذاننا موجات صوتية معينة فإننا نحرص على فهمها من خلال التقليب السريع فى ملفات خبراتنا الصوتية فنتوصل مثلاً إلى النتائج الآتية:
1- أنها موسيقى.
2- وأنها مقدمة أغنية كذا للمطرب فلان.
3- وانها ضمن الأغاني المفضلة عندنا.

4- ثم يأتي دور عملية عقلية من نوع آخر وهى "اتخاذ القرار" بإبقاء مؤشر الراديو على تلك لمحطة ويرفع درجة الصوت والإنصات إليها وبإسكات المحيطين بنا.
ومن الضروري أن نوضح أن المثير البيئي يترك رمزاً (أثراً) يمثله بالقسم الخاص بالذاكرة فى جهازنا العصبي، وهذا الرمز قد يكون لفظاً (اسمه) أو صورة ذهنية (شكله) مصحوباً بوجدانات تمثل عاطفتنا التي كوّناها بشأنه (ارتياح، نفور، حب، كراهية، غضب، لامبالاة ... الخ)، ويتم استدعاء هذا التمثيل
(Representation) فور عودة ذلك المثير البيئي (أو مقدماته) للظهور أمامنا أو استماعنا إلى من يذكره أمامنا.
 المزيد عن الحب ..
 
المزيد عن الغضب ..

إذاً فالإدراك الحسي عملية أرقى من عملية الإحساس فى سلم التعامل مع البيئة لأن الأولى عملية عقلية فى حين أن الأخرى فيزيائية بيولوجية محضة. وفى الإدراك تظهر الفروق الفردية واضحة ومؤثرة بشدة على السلوك، فى حين أن الفروق الفردية لا تظهر فى العملية الثانية إلا بقدر ما يكون بين حواس الأفراد من اختلاف فى الكفاءة أو الضعف الموروثين أو المكتسبين وهذا يؤثر على السلوك بدرجة أقل شدة من الحال فى الإدراك.

* ملاحظات عامة على إدراك الفرد لمكونات البيئة من حوله:
1- تتأثر عملية الإدراك المذكورة بمجموعتين من العوامل:
أ- عوامل من داخل الفرد نفسه: كحالته النفسية والجسمية (ارتياح- ضيق - إرهاق - نشاط)، وكخبراته السابقة ومدى ثرائها، وكميوله واتجاهاته وعواطفه وقيمه الأخلاقية والاجتماعية
والاقتصادية، وكتوقعاته السابقة لظهور المثير ولحظة ظهوره، وحاجاته الشخصية ومدى قابلية الفرد لتصديق ما يصل لمسامعه من أفكار أو معلومات دون التعود على تمحيصها قبل اتخاذ قرار بشأنها من حيث المعنى والدلالة (وتسمى هذه الظاهرة بالقابلية للإيحاء أو الاستهواء).
ب- عوامل خارجة عن الفرد: كقوة المثير البيئى شدة وضعفاً، وكدرجة ظهوره بين المثيرات المحيطة به، حداثته أو مألوفيته للفرد، سكونه أو حركته، تكرار ظهوره بإلحاح أو ندرة ظهوره، ثباته على شكل أو لون أو نغمة واحدة أو حدوث تغيرات مستمرة عليه والمعايير الاجتماعية السائدة.

2- تسرى على عملية إدراك الأفراد لمكونات البيئة قواعد: التقارب، التماثل، الغلق، الامتلاء، الاستمرار والشكل على أرضية
(مدرسة الجشطالت)*.
3- يعتبر (جيبسون – 1968) أن عملية إدراك مثيرات (مكونات) البيئة هى نوع من الاستكشاف والتمييز وربما التحيز أيضاً، إذ لا يستجيب الفرد لكل المثيرات بنفس الدرجة، فالراديو لا يلتقط من الأثير المحيط به إلا المحطات ذات الطول الموجى الملائم رغم أنها جميعاً تحيط باللاقط (الإريال) المركب به.
4- يرى "جيبسون" أيضاً أن الإدراك عملية كلية فلا يدركها الفرد تفصيلاً من الوهلة الأولى وإنما يحدث الإدراك التفصيلى بعدما يفهم الفرد ماهية ذلك المثير البيئى.
5- كذلك فالفرد هو الذى يعطى للمثيرات "معنى"، فما يستطيب مذاقه يجعله ضمن ما أسماه بـ"الطعام"، وما يريحه الجلوس عليه يجعله ضمن ما أسماه بـ"المقاعد". وما يمكنه أن يحتمى داخله من العوامل الجوية ومن الآخرين يجعله ضمن ما أسماه بـ"المنازل"، وهكذا فإن الإنسان يسّخر البيئة الطبيعية لصالحه ويعطى كل مكوّن من مكوناتها معنى تبعاً لفائدتها له هو أو لحيواناته المدجّنة، ويقلدها بعد ذلك فيما يشّيده من بيئة مصنعة: أطعمة من إعداده ومقاعد من صنعه وبيوتاً من بنائه وأعلافاً للماشية من تجهيزه. أما ما يراه ضاراً فى بيئته الطبيعية فيعطيها معانى ذات طبيعية مختلفة: فهذا مفترس، وهذا سم، وذلك حارق، وتلك شائكة .. وهكذا، ويبذل جهده لتفاديها أو لإزالتها من أماكن إقامته ومن الممرات التى يسلكها. إذاً بعد الإدراك الكلى يقوم بعملية الإدراك التفصيلى ثم بعملية الاختيار ثم بعملية التنظيم والتصنيف فى مجموعات، وعلى هذه العمليات تقوم عمليات الإدراك التالية لذات المثيرات البيئية ولما يشبهها من مثيرات تشترك معها فى صفات واضحة له.
6- قد يدرك الفرد فى مرحلة تالية أن المثيرات المدرَكَة ينقصها أمر أساسى أو أمر تكميلى فيعمل على إضافته، فالكهف أو الكوخ أو البيت قد ينقصه باب قوى، ومكان النوم قد ينقصه بعض الزينة، والطعام قد ينقصه الملح أو السكر، والحيوان الداجن قد تنقصه صفات تزيد من قيمته، فيسعى لإدخال التعديلات اللازمة على تلك المثيرات البيئية المشيدة لتكون أحسن نفعاً له.
 
المزيد عن الملح ..
 
المزيد عن السكر ..

7- ما قد يدخله الإنسان من تعديلات على بيئة ما لتكون أحسن نفعاً له قد تضر بغيره، فالسدود على الأنهار قد تضر بالمقيمين على الأرض التى تغمرها البحيرات المتكونة أمام تلك السدود سواء كانوا بشراً أو كائنات أخرى. فالفرد يدرك الوضع المعَّدل للمثيرات البيئية إدراكاً قاصراً من زاوية واحدة، ومن هنا جاءت المعاهدات الدولية لتوسّع زاوية الرؤية (الإدراك) بحيث تشمل مصالح الجميع.
8- بجانب اعتقادنا بأن عملية الإدراك البيئى تتأثر بخصائص المثير، وأيضاً بخبرات الشخص القائم بالإدراك، فإنه لزاماً علينا أن نضع فى الاعتبار عامل مؤثر ثالث ألا وهو عنصر "الزمن". فإدراك أهل إحدى الدول لخطر دولة مجاورة يزداد كلما عرفوا أنها تتخذ إجراءات عدائية متزايدة نحوهم، فكلما اتخذت إجراء عدائياً جديداً (كاستدعاء احتياطى القوات المسلحة للخدمة بالجيش العامل) كلما زاد إدراكهم للخطر عن ذى قبل لاقتراب حدوث الحرب معهم، كذلك إذا سرت إشاعة بأن هناك نبوءة بموعد نهاية العالم (يوم القيامة) فإن إدراك الناس لذلك الخطر يتزايد مع اقتراب ذلك الموعد. وعلى العكس من ذلك فإن جمهور أحد الأحياء يتزايد شعوره بالتفاؤل كلما نشطت السلطات ونشط العمال فى إزالة المواسير الضيقة الصدئة التى تزود الحى بالماء وإحلال مواسير جديدة ومتسعة محلها، لأن ذلك العمل الدءوب يقصّر المدة المتبقية لتحسن ذلك الجانب الهام من البيئة المشيدة.
9- تكّيف الإنسان مع إحدى البيئات لمدة طويلة يجعله يقلل من إدراكه لمزاياها ولعيوبها، فأبناء الطبقة المرفهة لا يدركون بمضى السنين ماهم فيه من نعمة رائعة يحسدهم عليها أبناء الطبقة الفقيرة، وأهل الصحراء لا يدركونها على أنها سيئة رغم أن أهل الريف يدركون أن الصحراء شىء فظيع.
10- رغم أن الحواس الخمس للفرد تجلب له المعلومات عن المثيرات البيئية معاً فيدرك الفرد معانى تلك المثيرات بصورة متكاملة، إلا أنه فى بعض الحالات يكون تأثير أحد المثيرات طاغٍ على تأثير غيره فيشّوه الإدراك، مثال على ذلك الرائحة القوية الكريهة لمكان ما قد تصرف الزائر عن ملاحظة جمال ذلك المكان والاستمتاع البصرى بما فيه، فتكون النتيجة أن يدركه على أنه مكان سىء. والزحام الزائد عن الحد بأحد المقاهى أو المطاعم يطغى فى أثره على الإحساس بجودة مشروباته وماكولاته، فيدركه بعض الزائرين المحبين للهدوء والخصوصية على أنه مكان مزعج لا ينبغى العودة إليه مرة أخرى، والدولة التى تكثر بها الزلازل تنفر السياح من الذهاب إليها رغم شهرتها العالمية بروعة مناظرها الطبيعية وبحسن أخلاق أهلها.
 
المزيد عن الأنماط السياحية فى العالم ..
 المزيد عن الإسعافات الأولية للزلزال ..

11- نقص إحدى الحواس عند أحد الأفراد يؤثر بالتأكيد على إدراكه الصحيح الكامل لبعض مكونات البيئة، فالكفيف يركز على حواسه المتبقية لديه فى استكشاف البيئة فيدركها بطريقة تختلف عن إدراك المبصر لها.
 
المزيد عن طريقة إرشاد المكفوفين ..
ففى الطريق بين المنزل والمدرسة يسترشد بمكوناتٍ لبيئة الطريق قد لا ينتبه المبصر كثيراً لها، مثل: المطبات والمرتفعات التى على الأرض، الأصوات الثابتة المتكررة الصادرة عن الناس وعن الآلات الموجودة بالمحلات على الجانبين، الروائح الصادرة عن محلات إعداد الأطعمة وعن ورش تقطيع الأخشاب وعن محلات الفاكهة ومحلات الأسماك .. والتيارات الهوائية العابرة من الشوارع الفرعية للشارع الرئيسى وغيرها من المثيرات الطبيعية والمشيدة.
 
المزيد عن فائدة الخضراوات والفاكهة ..
 
المزيد عن الأسماك وأوميجا -3 ..
ونذكر هنا القصة الافتراضية التى تقول بأن ثلاثة من مكفوفى البصر لمسوا بأيديهم أجزاء مختلفة من جسم الفيل بحديقة الحيوان، ولما سُئل كل منهم عن صفات الفيل جاءت إجابة من لمس إحدى قوائمه تختلف عن إجابة من لمس إحدى أذنيه عن إجابة من أمسك بذيله، إذ تصورهكل منهم تبعاً للمثيرات الحسية التى إلتقى بها من جسمه، ثم أثّر ذلك التصور على إدراكه لذلك الحيوان.
 
المزيد عن لغة بريل ..

12- يصطنع الإنسان للبيئة حدوداً مكانية وزمانية لتسهيل سيطرته عليها أو دراسته لها. فالإمبراطورية تحركت حدودها المكانية اتساعاً ثم ضيقاً تبعاً لسنوات نشأتها ثم ازدهارها ثم انكماشها، ومثلها بقية الإمبراطوريات. وبلاد الشرق الأدنى والأوسط والأقصى غير متفق عليها تماماً فتلك المسافات المتضمنة فى تسمياتها هي من وضع قوة من خارجها (أوربا عامة وبريطانيا خاصة) فليس هناك حدود تميزها عن غيرها من الدول المجاورة. كما أن مياه المحيط الهندي لا يفصلها فاصل واضح عن مياه المحيط الهادي، ومياه المحيط الأطلنطي الشمالي غير مفصولة عن مياه الأطلنطي الجنوبي. كل تلك التسميات تفترض خطوطاً فاصلة زمانية أو مكانية من صنع الإنسان المحارب أو الدارس لتسهيل تعامله مع المكونات البيئية التي يهتم هو بها.
13- تتضمن مكونات البيئة معلومات كثيرة ويدركها الإنسان تبعاً لما ينتبه إليه من تلك المعلومات، فالمحيطات يدركها الفرد العادي على أنها غامضة مظلمة مغرقة، فى حين يدركها بحارة أعالي البحار على أنها مسالك مائية تمكنهم من نقل البضائع بسهولة من بلد إلى بلد بما يعود عليهم بالرزق الوفير. والأعشاب المنتشرة بوديان الجبال والصحارى يدركها الرعاة على أنها مفيدة طالما أنها تصلح كغذاء لماشيتهم، فى حين يدركها أطباء تلك الأماكن على أنها مصدر للدواء وسبب الشفاء. ويعّدل الإنسان من فهم (إدراكه) لأي مكون بيئي عندما يكتشف مزيداً من المعلومات الموجودة به فعلاً.
 المزيد عن الأعشاب ..
14- كان للإنسان البدائي أن يفحص البيئة ويهتم أكثر ما يهتم بالجانب النفعي منها، ومع تقدم الحضارة وتمّكن الإنسان من السيطرة على بيئته صار يهتم بالجانب الجمالي بالإضافة إلى اهتمامه بالجانب النفعي. والآن نرى فروقاً فردية بين الناس من حيث إصدار الحكام على المكونات البيئية (طبيعية أو مشيدة) تبعاً لإدراكهم لدرجة نفعها أو إدراكهم لمستوى جمالها. ويلعب المستوى الاقتصادي والمستوى الثقافي للفرد، مع خبراته السابقة، مع قيم الجماعة أدوراً هامة فى هذا الشأن (الإدراك).
15- المقيم فى إحدى البيئات يدركها بطريقة مختلفة عن الزائر العابر لها. فالمقيم يقدر بعض مكوناتها تقديراً ضعيفاً (كالآثار الموجودة بها) بعكس تقدير السائح العظيم لها. وعلى العكس من ذلك يدرك المقيم الآبار والترع والأشجار باعتبارها مكونات هامة جداً فى بيئته فهي التي توفر الارتواء والظلال له ولماشيته، بعكس السائح الذي يمر عليها مر الكرام، بل قد يتأفف من بعضها. ويدرك الزائر للمناطق الصناعية بأوربا عظمة تلك المناطق ويتمنى لو كان ببلاده مثلها، فى حين يدركها أهل أوربا على أنها كانت مصادر تلوث البيئة وسبباً للأمراض الصدرية التي كانت منتشرة بينهم وللذل الذي عاش فيه أجدادهم عمال المناجم والمصانع لسنوات طويلة، لذلك سعى سكان أوربا للتخلص من كثير من الصناعات ونقلها إلى البلاد الفقيرة (مثل صناعة الأسمدة النيتروجينية، صناعة الأسبستوس، صناعة الأسمنت وصناعة السيراميك باعتبارها مكونات بيئية سيئة) فابتهج الفقراء بنقلها إليهم باعتبارها، حسب إدراكهم، مكونات بيئية تمثل النهضة الصناعية والاقتصادية لبلادهم.
 
المزيد عن الأشجار على صفحات موقع فيدو ..

16- يتأثر إدراك الأفراد لبعض مكونات البيئة بـ"الصور الذهنية
/Mental images"
التي يكونوها عنها. فالناس فى إحدى القرى يتجنبون الاقتراب من أحد البيوت المهدمة منذ سنوات طويلة لتصورهم أن الجن يسكنه. إذاً هم يدركونه على أنه مكون سيء من مكونات بيئتهم، فى حين يرتاحون حين يدخلون مسجد القرية لأنه يدركونه على أنه مكون "مبروك" فى بيئتهم. ويتطوع الزائرون لإحدى المدن الإيطالية بإلقاء بعض نقودهم المعدنية فى نافورة أحد ميادينها لتصورهم أن أمنياتهم ستتحقق لو فعلوا ذلك. ويخشى أهل اسكتلندا بشمال بريطانيا الإبحار ليلاً بإحدى بحيراتهم المسماة "لوخ نيس" لاعتقادهم بوجود وحش مائي أسطوري يعيش فيها، أي أنهم أدركوها على أنها مصدر خطر على العكس من بقية البحيرات التي تزخر بها بلادهم.
17- للإدراك البيئي وظائف هامة لنا، فهو مصدر خبراتنا بما يحيط بنا وبالبعيد عنا وبما نعلم عنه وبما نجهله إلى حد ما. كذلك فهو الموجّه الأساسي لتصرفاتنا (ما لم نكن خاضعين فكرياً أم مادياً لغيرنا). كذلك فهو الذي يولّد لدينا الأفكار والمشروعات بشأن تحسين بيئتنا أو الارتحال لبيئات أخرى للإفادة ممّا ندركه بشأن مزاياها وخيراتها. كما أن هذا الإدراك يسّهل لنا تحديد أهدافنا وتحديد وسائلنا وانتقاء أدواتنا طالما نحن نعيش فيها، كما قد يسّهل لنا أيضا التنبؤ بدرجة معينة من الدقة بمسار الأحداث القادمة على أرضنا. ومن الضروري والمفيد لنا أن نتعرف على "إدراكات" الآخرين لبيئاتهم ولبيئاتنا لنرسم سياستنا فى ضوء ذلك التعرف تجنباً للمفاجآت السيئة، والاستفادة بالإمكانات التي توصل إليها الآخرون عن بيئاتنا. كما أن علاج مرضانا النفسيين
(الصحة النفسية على صفحات موقع فيدو) يستدعى منا أن نتعرف على ما يدركه كل منهم عن بيئته المنزلية والأسرية والمدرسية والاجتماعية، وبدون التعرف على إدراكاته تلك سيكون من الصعب علينا تشخيص علّته تمهيداً لعلاجها، لذلك صارت بعض الأسئلة المطروحة فى بدايات بعض البحوث النفسية هي:
"ما هي أساليب تعامل الآباء مع أبنائهم كما يدركها هؤلاء الأبناء؟"
بدلاً من:
" ما هي أساليب تعامل الآباء مع أبنائهم؟"
فليست تلك الأساليب فى حد ذاتها، كما يُقّر بها الآباء، هي التي توجه مشاعر الأبناء وسلوكهم، وإنما الذي يوجهها هي نتيجة ذلك الإدراك المتكون لدى هؤلاء الأبناء.
 الأساليب المتنوعة لتربية الأبناء ..


* مدرسة الجشطالت:
مدرسة الجشطالت هى إحدى مدارس علم النفس، ويشير مصطلح المدرسة فى علم النفس إلى الاتجاه المتبع فى دراسة السلوك الإنسانى. وكانت كل مدرسة تظهر كرد فعل للمدرسة التى تسبقها إما بالضد أو بالتأييد لها مع وجود بعض الاختلافات الجوهرية.
والتى تتضمن الأنواع التالية:
1- المدرسة البنيوية: حيث يقر أصحاب هذا المذهب بأن الهدف الرئيسى لعلم النفس هو القيام بدراسة تجارب الإنسان الواعى والتركيز عليها وعلى مشاعره وعملياته الذهنية.
2- المدرسة السلوكية: كان تلاميذ هذه المدرسة على النقيض حيث يستندون إلى أن سلوك الإنسان الظاهرى وليس التجربة هو الحكم الأوحد للحصول على المعلومات الموثوق بها وليست التجربة كما يقر أصحاب المدرسة البنيوية.
3- مدرسة الجشطالت
(1912): مؤسسها (ماكس فريتمر)، والجشطالت (Gestalt) هى كلمة ألمانية الأصل والتى تعنى النمط أو الشكل، وقد أكد أصحاب هذا المذهب بأنه ينبغى دراسة السلوك الإنسانى على أنه نمط ونموذج متكاملاً لا يخضع للاستجابات والتغيرات الفردية أو يمكن القول بأنه دراسة للسلوك الإنسانى من خلال الفهم المتكامل لما بين الأجزاء (وهذه هى النقطة التى تختلف فيها مدرسة الجشطالت عن المدرسة التى تسبقها "السلوكية").
4- مدرسة التحليل النفسى:  التى ظهرت على يد الطبيب النمساوى الشهير "سيجموند فرويد"، ويقول "فرويد" بأن العقل الباطن هو الذى يتحكم فى السلوك الإنسانى وتصرفاته
.