بتـــــاريخ : 9/17/2010 5:15:16 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1125 0


    من هو الداعية؟

    الناقل : SunSet | العمر :36 | الكاتب الأصلى : الشيخ الدكتور عائض بن عبد الله القرنى | المصدر : alislamnet.com

    كلمات مفتاحية  :

    أما بعد:
    فإن الداعية ليس له حقل واحد لا يعمل إلا فيه، بل حقول متعددة، وميادين مختلفة، ومنابر شتى، فالدعوة لا يحدها حد، ولا يحصرها حصر، ولا يقيدها قيد. إن الدعوة تجري في دم الداعية، يقولها كلمة، ويصوغها عبارة، وينشدها قصيدة، ويدبجها خطبة، وينقلها فكرة، ويؤلفها كتاباً، ويلقيها محاضرة.
    إنها قد تكون مع النفس محاسبة ومراقبة، وتكون مع الأم براً وحناناً، ومع الأب شفقة ورحمة، ومع الابن تربية وأدباً، ومع الجار إحساناً وبراً، ومع المسلم مصافاة ومودة، ومع الكافر دعوةً وحواراً.
    فهذا
    إبراهيم الخليل يتلطف بأبيه (يَا أَبَتِ)، وهذا نوح ينوح على ابنه ((يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا)) وهذا مؤمن آل فرعون يعطف على قومه: (يَا قَوْمِ) وهذا مؤمن آل ياسين ينادي وهو في الجنة: ((يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)).
    إن الدعوة هم لازم، وواجب دائم، فهي معك في السيارة، وفي الطائرة، وفي السفينة، وفي النادي، وفي الجامعة، والمزرعة، والمتجر..
    قد تدعو بسيرتك أكثر من كلامك، وتدعو بصفاتك أعظم من خطبك، وتدعو بخلقك أحسن من محاضرتك.
    ليس للداعية وقوف، سجن
    يوسف فدعا في السجن، وطرد نوح فدعا في السفينة، وحوصر محمد فدعا في الشعب، وطوق فدعا في الغار، وطرد فأنشأ دولة.
    قيل لشيخ الإسلام
    ابن تيمية : قد أمر السلطان بنفيك إلى قبرص ، أو قتلك وسجنك فقال: والله إن بي من الفرح والسرور ما لو قسم على أهل الشام لوسعهم، والله إني كالغنمة ما تنام إلا على صوف، إن نفيت إلى قبرص دعوت أهلها إلى الإسلام، وإن سجنت خلوت بعبادة ربي، وإن قتلت فأنا شهيد:

    روحي تحدثني بأنك متلفي نفسي فداك عرفت أم لم تعرف


    ليس من المهم عند الداعية أن يكون له جمهور حاشد، أو حفل بهيج، أو مستمعون كثر، المهم أن يقول الحق، وأن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، وأن يحمل الميثاق بأمانة، ويبلغ الشريعة بصدق.
    ((
    وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)).
    بعض الأنبياء لم يستجب له أحد، والبعض استجاب له واحد أو اثنان، والبعض جماعة، وبعضهم دعا عمره كله ثم قتل ولم يطعه بشر، وأنبياء آخرون مكثوا السنين الطويلة يدعون ثم نشروا بالمناشير!

    سيدي علل الفؤاد العليلا واحيني قبل أن تراني قتيلا


    إن تكن عازماً على قتل روحي فترفق بها قليلاً قليلا!


    إن الداعية ليس فناناً يداعب العواطف، ويلعب بالمشاعر، ويتفقد مكامن التأثير في الناس، وليس شاعراً يخلب الألباب، ويسافر مع الخيال، ويهيم في أودية الضلال، وليس فيلسوفاً يقنن القوانين، ويضرب الأقيسة، ويحدد المقدمات، ويخلص إلى النتائج، وليس سلطاناً يفرض كلمته، ويؤدب رعيته، ويحشد جنوده، ويرفع بنوده، وليس تاجراً يجمع الدراهم، ويكنز القناطير المقنطرة، ويرصد الشيكات، ويضارب بالأسهم. الداعية شيء آخر!..
    إنه تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، ابن بار لرعايته، تلميذ نجيب في مدرسته، طالب متفوق في جامعته. يسري حب الله وحب محمد صلى الله عليه وسلم في دمه، يشع في قلبه، يضيء طريقه، يملأ وجدانه، يلهب ضميره.

    الحب ليس رواية شرقية بأريجها يتزوج الأبطال


    لكنه الإبحار دون سفينة ومرادنا أن المحال محال


    الداعية ليس له إجازة، ولا انتداب، ولا مخصصات، ولا عادات، الداعية ليس له حفل مولد، ولا مهرجانات تخرج، ولا حفل وداع، ولا مناسبة استقبال، بل هو مع الأنبياء، تلقاه على الرصيف، وفي الدكان، ومع أهل الجرف؛ مع النجار والخباز والنساج والبناء، مع الناس باختلاف أذواقهم وطبقاتهم وألوانهم وأجناسهم، داعياً للملك والمملوك، وللأمير والوزير، وللكبير والصغير، وللذكر والأنثى، وللأبيض والأسود.
    الداعية باع نفسه من الله، فلا يطالب، ولا يضارب، لا يعاتب، ولا يحاسب.. فاتورة تعبه مدفوعة في الآخرة:
    ((
    وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)). شيك أجرته مصروف من بنك: ((يُرِيدُونَ وَجْهَهُ))، وسند أمواله موقع عليه: ((وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)).

    بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظم بقوم بايعوا المختار


    فأعاضنا ثمناً أجل من المنى جنات عدن تتحف الأبرار


    الداعية لا ينتظر شهادة حسن سيرة وسلوك من البشر، ولا نياشين يعلقها على صدره، ولا نجوم يضعها على أكتافه، ولا صورة ذكرى يرفعها في مجلسه. إنه يريد تاج: ((
    رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ))، ويطمع في نجوم: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) ويرغب في نياشين: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)).
    الداعية لا يعين بقرار جمهوري، ولا بوثيقة حكومية، ولا بانتخاب من الجمهور، الداعية لا يأتي عن طريق صناديق الاقتراع، ولا المجلس النيابي، ولا الهيئة البرلمانية، فهو فوق الكونجرس، واللوردات، والشيوخ، إن الله عينه، والواحد الأحد هيأه، والرحمن استأمنه: ((
    ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)).
    الداعية مولاه الله، وإمامه محمد، وبيته المسجد، ومذكرته القرآن، وزاده التقوى، وعصاه التوكل، ولباسه الزهد، ومركبه اليقين، وطريقه الهدى، ومراده الجنة: (
    دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وترعى الشجر) .

    أنما ربي الله والدين أبي ورسول الله دوماً قدوتي


    ولي القرآن نور ساطع ولي الكعبة كانت قبلتي


    الداعية لا تتوقف دعوته مع التخرج من المدرسة الليلية، ولا مكافحة الأمية، ولا من الجامعة، ولا من المجالس الفقهية، ولا المجامع العلمية.. جامعة الداعية: ((
    وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ))، وشهادته:
    (
    بلغوا عني ولو آية) ووثيقة تخرجه: ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)) الداعية لا ينتظر راتباً شهرياً، ولا مكافأة سنوية، ولا إكرامية مالية، ولا هتافاً جماهيرياً، ولا شكراً من الوزير، ولا ترقية من الفريق، ولا ثناء من مدير المدرسة.
    راتبه: ((
    لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ)).
    مكافأته: ((
    يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)).
    إكراميته: ((
    ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)).
    هتافه: ((
    لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)).
    شكره: ((
    سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ)).
    ترقيته: ((
    فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)).
    الداعية لا ترفع له أقواس النصر، ولا تعلق صوره، ولا ينتظر قصائد مدح وملحمات ثناء، ومقامات تبجيل.
    أقواس نصره: ((
    إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)).
    صور المعلقة: ((
    كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)).
    عبارات مديحه: ((
    قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)).
    مقامات تبجيله: ((
    وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)).

    وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت آياتها فاقرءوا يا قوم قرآني


    والوحي مدرستي الكبرى، وغار حرا تاريخ عمري وميلادي وعرفاني


    أما بعد:
    فالداعية رحيم، رفيق، قريب حبيب، سهل لين، صبور شكور.
    رحيم: لأن الراحمين يرحمهم الرحمن، ولأن إمامه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو الذي يقول: (
    من لا يرحم لا يرحم).
    يقول أحد العلماء: (ينبغي إذا رأيت الكافر أن تتمنى إسلامه رحمة به أن يدخل النار؛ لأن من تمام النصح الشفقة بالخلق).
    رفيق: لأن الله رفيق يحب الرفق، ولأنه صلى الله عليه وسلم يقول: (
    ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه).
    والرفق يسهل الصعاب، ويقرب البعيد، ويلين القاصي، وطوع العاصي، ويجذب القلوب.
    قريب: فهو يدنو من النفوس، ويقترب من القلوب، ويتواضع لزملائه، ولا يفاخر أبناء جنسه، ولا يشمخ بأنفه، ولا تعجبه نفسه، ولا يزدري أحداً، ولا يحتقر بشراً، ولا يتهكم بمخلوق: ((
    وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)).
    حبيب: تحبه القلوب، وترتاح له الأنفس، وتأنس بحضوره الناس، وتهش لقدومه الأرواح، وتفرح بحضوره الجموع، وتعشق لقاءه الأجيال، وتدعو له الأمة بظهر الغيب: ((
    إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) يقول أحد الفضلاء: (إذا سافرت ولم يبك عليك أصحابك فراجع أخلاقك).
    سهل لين: فهو كمعلمه الأول صلى الله عليه وسلم سهل في كلامه فلا يتفيهق، ولا يتعمق، ولا يتشدق، ولا يتكلف، ولا يتنطع، ولا يزخرف، سهل في أفعاله فلا يكلف الناس شططاً، ولا يحملهم عبئاً، ولا يجشمهم مشقة.
    صبور: على الملمات، وعلى الأزمات وعلى الكربات، وعلى الفواجع، وعلى الحوادث، وعلى الكوارث، يجوع فيصبر، يسب فيصبر، يجلد فيصبر، يحبس فيصبر، يبكت فيصبر، يكذب فيصبر، يؤذى فيصبر؛ أما
    نوح فازدجر، وأما صالح فقيل له: كذاب أشر، وأما هود فقهر، وأما زكريا فنشر، وأما يحيى فنحر، وأما موسى فضاق به المفر، وأما عيسى فافتقر، وأما محمد فابتلي فصبر، وأعطي فشكر: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))، ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا)).
    ((
    وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ))، ((فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))، ((وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا))، ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ))، ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ))، ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)).
    شكور: على النعمة، يعطى فيشكر، يسدد فيشكر، يفتح عليه فيشكر، يأكل فيشكر، يلبس فيشكر، ينام فيشكر، يصح فيشكر، يمرض فيشكر، يعافى فيشكر، يبتلى فيشكر، يغتني فيشكر، يفتقر فيشكر: ((
    وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ))، ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ))، ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ))، ((لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)).

    لك الحمد يا رحمن ما هل صيب وما تاب يا من يقبل التوب مذنب


    لك الحمد ما هاج الغرام وما هما الغمام، ... وما غنى الحمام المطرب


    أما بعد:
    فإن الداعية يعلم أن الحياة ليست فرصة لتقلد منصب، ولا الظفر بإمارة، ولا العثور على وزارة، ولا جمع تجارة، ولا التشرف بسفارة، وليست الحياة عنده متعة، يقضيها في اللهو واللعب، فليس عنده إجازة يقضيها على ضفاف
    اللوار ، ولا في قمم الهملايا ، ولا عند شلالات نياجرا ، ولا في أبراج كوالالمبور ، ولا في حضور عيد الأم، وليس عند الداعية أرصدة في البنوك الربوية، وليس له هم في مراقبة البورصة العالمية، ولا الاهتمام بأسواق الذهب أو بأسعار البترول، فكنوزه وماله وغناه ومستقبله في جنات تجري من تحتها الأنهار.
    فلا يبهجه إلا: ((
    مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ)).
    و لا يفرحه إلا: ((
    تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)).
    ولا يسره إلا: ((
    يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ)).
    ولا يسعده إلا: ((
    كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)).
    و لا يطربه إلا: ((
    حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)).
    ولا ينعشه إلا: ((
    وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)).
    الداعية ليس له سهر مع
    ألف ليلة وليلة ، ولا أنس مع أبي نواس ، ولا خلوة مع بدائع الزهور ، ولا توثيق من الزير سالم ، ولا سند من شمس المعارف .
    سهره: مع
    صحيح البخاري .
    أنسه: مع
    ابن تيمية .
    خلوته: مع
    رياض الصالحين .
    توثيقه: من
    يحيى بن معين .
    سنده: من
    سفيان الثوري .

    هيهات رحلة مسرانا جحافلنا كما عهدت وعزمات الورى أنف


    في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف


    الداعية لا يفتخر بصداقة المشاهير، ونجوم الكرة، ونجوم الفن، وكواكب المسرح، والساسة العمالقة، والفلاسفة العباقرة، ورموز الثقافة، فله صداقات ومودات مع
    نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهم -، وله علاقة بـأبي بكر و عمر و عثمان و علي ، وله اتصال بـأبي حنيفة ، و مالك ، و الشافعي ،
    و
    أحمد بن حنبل .
    الداعية ليس منهمكاً في زوايا الغرام، ولا مع قصاصات الهيام، ولا مع آهات الهجر، وزفرات الجوى، وأوجاع العيون السود...
    زفراته من: ((
    كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا)).
    وآهاته من: ((
    كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)).
    وأوجاعه من: ((
    يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)).
    أما بعد:
    فإن الداعية تتقلب به الأيام، وتتغاير عليه الليالي، وتختلف عليه الساعات، وتتعاقب عليه السنون، رضا وغضب، وسرور وحزن، وشبع وجوع، ومنبر وحبس، وشكر وسب، وإقبال وإدبار، ومنحة ومحنة، وعطية وبلية، وأمل وألم، وهو مع ذلك عبد لله، ينزل مع القرآن أينما نزل، ويهبط مع الوحي أينما هبط، ويسافر مع الرسالة أينما سافرت، ويرتحل مع الحق أينما ارتحل، يصلي في القصر وفي الحبس، في الجامعة والمزرعة، وفي الحاضرة والبادية، يسبح في النادي والملعب، ويكبر في المسجد والسوق.
    الداعية عنده شهادة أكبر من شهادات الأرض، ولديه وثيقة أعظم من وثائق المعمورة: ((
    إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)). وعنده تزكية أجل من كل تزكية: ((وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)).

    أيها الداعي الذي عبد الله طريق النجاة فيك قويم


    أدعياء الضلال سحار فرعون وأنت العصا وأنت الكليم


    أما بعد:
    فقد قرأت عشرات المجلدات والمصنفات والمؤلفات، فما وجدت كالقرآن حسناً وجمالاً، بهجة ونضرة، قوة وفخامة، صدقاً وعدلاً، سعادة وإشراقاً.
    وطالعت مئات المجلات والجرائد والدوريات والصحف، فما رأيت كالسنة عطاء وبركة، وسلوة وعزاء، وتوعية وتربية، ورشداً ونصحاً، وتعليماً وتقويماً.
    وسمعت آلاف الكلمات، وآلاف الأبيات، وآلاف اللطائف، وآلاف النكات، فما وجدت كذكر الله إيماناً ويقيناً، وروحاً وطمأنينة، و أنساً ورحمة، وثواباً وأجراً.
    أما بعد:
    فإن الداعية قد يكون غنياً كـ
    سليمان ، وقد يكون فقيراً كـعيسى ، وقد يكون صحيحاً كـإبراهيم ، وقد يكون مريضاً كـأيوب ، وقد يطول عمره كـنوح ، وقد يقصر كـيوشع ، وقد يكون ملكاً كـداود ، وقد يكون خياطاً كـإدريس ، وقد يرعى الغنم كـموسى ، وقد تمر به الحالات جميعاً من غنى وفقر، ونصر وهزيمة، ونعيم وبؤس، وصحة ومرض، وعافية وبلاء، كمحمد صلى الله عليه وسلم.

    لأجل دينك ذاق القتل من قتلوا كأنما الموت في ساح الوغى عسل


    ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف للرضوان قد نقلوا


    وقد يكون الداعية واسع الخير، متعدد المواهب، كثير الإحسان، عظيم البر، كـ
    أبي بكر الصديق ، وقد يكون صارماً حازماً قوياً شديداً في الحق، ذا صولة في الدين، وهيبة في الملة كـعمر بن الخطاب ، وقد يكون هيناً ليناً سهلاً قريباً حبيباً حياً سخياً كـعثمان بن عفان ، وقد يكون مقداماً شجاعاً، أبياً مضحياً فدائياً بطلاً كـعلي بن أبي طالب .
    وقد يكون الداعية بحراً في العلم، دائرة معارف، موسوعة في الشريعة كـ
    ابن عباس ، وقد يكون خطيباً لوذعياً يرسل الكلمة كالقذيفة، ويبعث الحرف كالشهاب، ويطلق الجملة كالبركان كـثابت بن قيس بن شماس .
    وقد يكون الداعية شاعراً يرسم الحرف في القلب، ويصنع البيت كالضياء، وينسج القصيدة كقطعة ألماس كـ
    حسان بن ثابت .
    وقد يكون الداعية حشم وخدم، ومال وجمال وعيال كـ
    عبد الرحمن بن عوف ، وقد يكون الداعية فقيراً معدماً، لا بيت ولا قصر ولا دار ولا عقار ولا دينار كـأبي ذر ، وقد يتولى الداعية الإمامة كـمعاذ ، والقضاء كـعلي ، والأذان كـبلال ، والمواريث كـزيد ، والقيادة كـخالد ، والإمارة كـأبي عبيدة .
    وقد يكون الداعية من بلاط السلطان كـ
    الزهري ، وقد يتحدث من القبو كـالسرخسي ، وقد يبجل ويحتفى به كـمالك بن أنس ، وقد يذهب دمه هدراً، ورأسه شذراً كـأحمد بن نصر الخزاعي .
    الداعية كالهدهد قطع الفيافي والقفار ليبلغ رسالة الواحد القهار: ((
    أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)). وكالنملة يحذر قومه، وينذر بني جنسه: ((لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)).
    وكالنحلة يجمع أطايب الحديث، ويكنز أحسن المعرفة: ((
    ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا)).

    فيا حب زدني في هواه صبابة ويا قلب زدني في هوى مهجتي حبا


    لعلي إذا جئت المحصب من منى سخرت فؤادي كي أفوز به قربا


    إن أهم صفة في الداعية أنه صاحب مبدأ، وحامل رسالة، وله منهج، قد يغلظ أو يرفق، يقسو أو يلين، يقبل أو يدبر، يواجه أو يهادن... لكنه صاحب مبدأ.
    قد يحاور ويفاوض، ويرد ويقبل، ويأخذ ويعطي، ويغضب ويرضى، ولكنه صاحب مبدأ..
    له ثوابت لا يتخلى عنها، وربما تنازل عن الحواشي ليبقى الأصل، وربما ترك التعليق ليبقى المتن، وربما تخلى عن الإطار لتبقى الصورة.
    الداعية هو الناطق الرسمي للملة: ((
    وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)). والسفير الأول للشريعة: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)). والمندوب الدائم لمحمد صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها) والأمين العام للقيم: ((إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)).
    الداعية: له في كل قلب سفارة، وفي كل عقل محطة، وفي كل مجلس قناة.. الداعية تقرؤه في الصحيفة، وتطالعه في المجلة، وتنظر إليه في الشاشة، وتصلي وراءه في المحراب، وتسمعه على المنبر، وتلقاه في السوق، وتصافحه في الحديقة، وتجلس بجانبه في الحافلة، وتعانقه في الطائرة. وتقاتل وراءه في المعركة، وتراه في العرس، وتشاهده في الجنازة. يصافح الملك، يمسح رأس اليتيم، يرفق بالرئيس، يعطف على الأرملة، يمازح الشاب، ويقود العجوز.
    الداعية: يرسل كلمته على ذبذبة طولها الحق، وعرضها الصدق، على هواء الإبداع، وعبر أثير المحبة؛ لتستقبل كلمته أطباق القلوب، وتنقل عبارته موجات الأرواح.
    والدعاة درجات عند الله، فمنهم من يحبو، ومنهم من يمشي، ومنهم من يهرول، ومنهم من يمر مر السحاب، ومنهم من يسرع سرعة الريح، ومنهم من يحلق في سماء الإبداع فيرتفع عن سطح الدنيا سبعة وثلاثين ألف قدم من الصدق والرفق والحق والعدل والعلم والإيمان.

    إن أنت كنت بكيت من حر الجوى وسكبت في ليل الفراق دموعا


    فنفوسنا ذبحت على ساح الوغى يا من يرى صرعى السيوف هجوعا


    أما بعد:
    فإن هم الداعية إصلاح الناس وتعبيد البشر لله، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، فليس همه المال ولا الجاه ولا المنصب؛ لأنه مكلف بمهمة محددة: ((
    أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ))، وعنده رسالة عليها طابع: ((مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ))، وعنوانها: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) يوزعها في كل قلب: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)).
    الداعية: حبيبه من أحب الله، ووليه من تولى الله، وصديقه من احترم الشرع، وعدوه من عادى الإسلام.
    ليس عند الداعية وقت للعداوات الشخصية، ولا فراغ لتوافه الأمور، فكل دقيقة من عمره حسنات، وكل ثانية من وقته قربات.

    أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا


    فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا


    الداعية ينهمر بالآيات والأبيات والسير والعبر والقصص والأخبار والفوائد والقصائد والشوارد والفرائد، يدعو بها كلها إلى الله ليعبد الله وحده لا إله إلا الله.
    فمرجع الداعية قلبه النابض، ومصدره نفسه المشرقة، وحبره دمه، ومادته دموعه، وورقه خصال الخير وصفات النبل التي يحملها.
    الداعية لا ينسى دعوته، وهل ينسى المريض مرضه، والجائع جوعه، والمحموم حماه؟
    وكيف يترك الداعية دعوته؟
    وهل يترك الرسام ريشته، والنجار فأسه، والفلاح مسحاته، والكاتب قلمه؟
    .

    وقد عاهدتني يا قلب أني متى ما تبت من ليلى تتوب


    فها أنا تائب من حب ليلى فما لك كلما ذكرت تذوب؟


    لكل امرئ من دهره ما تعودا وعادة أهل الحق يا صاحبي الهدى


    وما مضى فات والمؤمل غيب إلا عند الداعية، فالماضي ما فات ولا مات: ((
    عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)). والمؤمل عنده حاصل لا محالة، قادم بلا شك: ((ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)).
    نشيد اللاهين: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
    ونشيد الدعاة: قفا نبك من ذكر الكتاب المنزل.
    أغنية الغافلين:

    أخبروها إذا أتيتم حماهما أنني ذبت في الغرام فداها


    وملحمة الصالحين:

    أيقظوا النفس من سبات مناها فإلى الله ربنا منتهاها



    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()