بتـــــاريخ : 10/12/2009 1:34:52 AM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 896 0


    التعريف بسورة النساء - في ظلال القرآن

    الناقل : elmasry | العمر :42 | المصدر : www.khayma.com

    كلمات مفتاحية  :
    الترعيف سورة النساء ظلال القرآن

    التعريف بسورة النساء

    هذه السورة مدنية وهي أطول سور القرآن بعد سورة البقرة وترتيبها في النزول بعد سورة الممتحنة التي تقول الروايات إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول ليس قطعيا كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة ; ثم يأمر النبي ص بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها والسورة الواحدة على هذا كانت تظل مفتوحة فترة من الزمان تطول أو تقصر وقد تمتد عدة سنوات وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة وآيات من أواخر ما نزل من القرآن وكذلك الشأن في هذه السورة فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة والمنتظر على كل حال أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية إلى ما بعد السنة الثامنة حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ; فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخرة وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة أو في السنة الرابعة على رواية فقد قال رسول الله ص حين نزلت < خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا > إلخ وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب على النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة هذه السورة تمثل جانبا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة وإنشاء المجتمع الإسلامي ; وفي حماية تلك الجماعة وصيانة هذه المجتمع وتعرض نموذجا من فعل القرآن في المجتمع الجديد الذي انبثق أصلا من خلال نصوصه والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني وتصور بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني ; كما تصور طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد من السفح الهابط إلى القمة السامقة خطوة خطوة ومرحلة مرحلة بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب ; وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة ; وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك وكما رأينا من قبل في سورة البقرة وسورة آل عمران مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة ; وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه ; وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور ; وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض ; وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم ; وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف وما في وسائلهم من خسة والتواء إلخ فكذلك نرى القرآن في هذه السورة يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة وملامحها المميزة ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها تبرز فيه ملامحها وتتميز به شخصيتها كالكائن الحي المميز السمات والملامح وهو مع هذا واحد من جنسه على العموم ونحن نرى في هذه السورة ونكاد نحس أنها كائن حي يستهدف غرضا معينا ويجهد له ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل والفقرات والآيات والكلمات في السورة هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد ومن ثم نستشعر تجاهها كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي المعروف السمات المميز الملامح صاحب القصد والوجهة وصاحب الحياة والحركة وصاحب الحس والشعور إن السورة تعمل بجد وجهد في محو ملامح المجتمع الجاهلي الذي منه التقطت المجموعة المسلمة ونبذ رواسبه ; وفي تكييف ملامح المجتمع المسلم وتطهيره من رواسب الجاهلية فيه وجلاء شخصيته الخاصة كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود وأعدائه المتميعين فيه من ضعاف الإيمان والمنافقين وكشف وسائلهم وحيلهم ومكايدهم وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية وهي تتصارع مع المنهج الجديد والقيم الجديدة والاعتبارات الجديدة ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة عن المعركة التي يخوضها في الميدان الآخر مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء والتي تعالج هذه السورة جوانب منها كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد بالجماعة المسلمة وقد التقطها من ذلك السفح الهابط الذي تمثله تلك الرواسب فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح فيرتقي بها إلى تلك القمة رويدا رويدا في يسر ورفق وفي ثبات وصبر وفي خطو متناسق موزون والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار الأميين في الجزيرة العربية في ذلك الحين لهذه الرسالة العظيمة حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة بكل مقوماتها الاعتقادية والتصورية والعقلية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ليعرف فيهم أثر هذا المنهج وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر في كل ما عرفت الأرض من مناهج وليرتسم فيهم خط هذا المنهج بكل مراحله من السفح إلى القمة وبكل ظواهره وبكل تجاربه ; ولترى البشرية في عمرها كله أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد سواء كانت في درجة من درجاته أم كانت في سفحة الذي التقط منه الأميين إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته لأنه يتعامل مع الإنسان وللإنسان كينونة ثابتة فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته ولا تبدل من كينونته ولا تحوله خلقا آخر إنما هي تغيرات وتطورات سطحية كالأمواج في الخضم لا تغير من طبيعته المائية بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة تلك الكينونة البشرية الثابتة ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة وأطوارها المتجددة بنفس المرونة التي يواجه بها الإنسان ظروف الحياة المتغيرة وأطوارها المتجددة وهو محافظ على مقوماته الأساسية مقومات الإنسان وفي الإنسان هذا الاستعداد وهذه المرونة وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها وهي ليست ثابتة من حوله وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان ذات الخصائص بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان ومودع خصائصه ذاتها ومعد للعمل معه إلى آخر الزمان وهكذا يستطيع ذلك المنهج وتستطيع هذه النصوص أن تلتقط الفرد الإنساني وأن تلتقط المجموعة الإنسانية من أي مستوى ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد فينتهي به وبها إلى القمة السامقة إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى كما أنه لا يضيق به ولا بها ولا يعجز عن رفعه ورفعها أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة والمجتمع الصناعي المتحضر كالمجتمع الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانة ويجد من يأخذ بيده من هذا المكان فيرقى به في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة التي حققها الإسلام في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم يأخذ البشر عن بشر مثلهم التصورات والمبادىء والموازين والقيم والشرائع والقوانين والأوضاع والتقاليد وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون الله والإسلام هو منهج الحياة الوحيد الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر لأنهم يتلقون التصورات والمبادىء والموازين والقيم والشرائع والقوانين والأوضاع والتقاليد من يد الله سبحانه فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها لله وحده وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون الله وحده وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون لله وحده ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد حين يصبحون كلهم عبيدا لله بلا شريك وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية في كل صورة من صورها وبين الإسلام وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدقة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب ومفهوم أن كل أمر أو نهي أو توجيه ورد في القرآن الكريم كان يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي وكان يتوخى إما إنشاء حالة غير قائمة وإما إبطال حالة قائمة وذلك دون إخلال بالقاعدة الأصولية العامة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا وفي هذا تكمن المعجزة فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية في أي طور من أطوارها والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة أيا كان موقفها على الدرج الصاعد ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى يوم التقطها من ذلك السفح السحيق ومن ثم فنحن حين نقرأ القرآن نستطيع أن نتبين منه ملامح المجتمع الجاهلي من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته ; كما نستطيع أن نتبين الملامح الجديدة التي يريد أن ينشئها وأن يثبتها في المجتمع الجديد فماذا نحن واجدون في هذه السورة من ملامح المجتمع الجاهلي التي ظلت راسبة في الجماعة المسلمة منذ أن التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية وماذا نحن واجدون من الملامح الجديدة التي يراد إنشاؤها في المجتمع الإسلامي الجديد وتثبيتها إننا نجد مجتمع تؤكل فيه حقوق الأيتام وبخاصة اليتيمات في حجور الأهل والأولياء والأوصياء ويستبدل الخبيث منها بالطيب ويعمل فيها بالإسراف والطمع خيفة أن يكبر اليتامى فيستردوها وتحبس فيه الصغيرات من ذوات المال ليتخذهن الأولياء زوجات طمعا في مالهم لا رغبة فيهن أو يعطين لأطفال الأولياء للغرض ذاته ونجد مجتمعا يجار فيه على الصغار والضعاف والنساء ; فلا يسلم لهم فيه بنصيبهم الحقيقي من الميراث إنما يستأثر فيه بمعظم التركة الرجال الأقوياء القادرون على حمل السلاح ; ولا ينال الضعاف فيه إلا الفتات وهذا الفتات الذي تناله اليتيمات الصغيرات والنسوة الكبيرات هو الذي يحتجزن من أجله ويحبسن على الأطفال من الذكور ; أو على الشيوخ من الأولياء كي لا يخرج المال بعيدا ولا يذهب في الغرباء ونجد مجتمعا يضع المرأة موضعا غير كريم ويعاملها بالعسف والجور في كل أدوار حياتها يحرمها الميراث كما قلنا أو يحبسها لما ينالها منه ; ويورثها للرجل كما يورثه المتاع فإذا مات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه فيعرف أنها محجوزة له إن شاء نكحها بغير مهر وإن شاء زوجها وأخذ مهرها ويعضلها زوجها إذا طلقها فيدعها لا هي زوجة ولا هي مطلقة حتى تفتدي نفسها منه وتفك أسرها ونجد مجتمعا تضطرب فيه قواعد الأسرة بسبب هبوط مركز المرأة فيه علاوة على اضطراب قواعد التبني والولاء واصطدامها مع قواعد القرابة والنسب فوق ما فيه من فوضى في العلاقات الجنسية والعائلية حيث تروج اتصالات السفاح والمخادنة ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية وتغتصب فيه الحقوق وتجحد فيه الأمانات وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس اجتلابا للمفاخر ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية وهي التي تصدت لها هذه السورة ووراءها ما صورته السور الأخرى وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب وفيمن حولهم من الأمم إنه لم يكن قطعا مجتمعا بلا فضائل فقد كانت له فضائله التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا ووجهها الوجهة البناءة وكانت لولا الإسلام مضيعة تحت ركام هذه الرذائل مفرقة غير متجمعة وضائعة غير موجهة وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة لولا هذا المنهج الذي جعل يمحو ملامح الجاهية الشائهة وينشىء أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها والتي اندثرت كلها لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة من تلك الجاهلية التي هذه بعض ملامحها التقط الإسلام المجموعة التي قسم الله لها الخير وقدر أن يسلمها قيادة البشر فكون منها الجماعة المسلمة وأنشأ بها المجتمع المسلم ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط والتي ما تزال أملا للبشرية يمكن أن تحاوله حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم بعد تطهيره من رواسب الجاهلية وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي نجد في مستهلها تقريرا لحقيقة الربوبية ووحدانيتها ولحقيقة الإنسانية ووحدة أصلها الذي أنشأها منه ربها ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة واتصالها بوشيجة الرحم مع استجاشة هذه الروابط كلها في الضمير البشري واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها وحماية الضعفاء فيه عن طريق التكافل بين الأسرة الواحدة ذات الخالق الواحد وحماية هذا المجتمع من الفاحشة والظلم والفتنة ; وتنظيم الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والمجتمع الإنساني كله على أساس وحدة الربوبية ووحدة البشرية يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا وهذه الحقيقة الكبيرة التي تتضمنها آية الافتتاح تمثل قاعدة أصيلة في التصور الإسلامي تقوم عليها الحياة الجماعية نرجو أن نعرض لها بالتفصيل في مكانها من سياق السورة ونجد التشريعات العملية لتحقيق البناء التكافلي للجماعة مستندة إلى تلك الركيزة في حماية اليتامى نجد التوجيه الموحي والتحذير المخيف والتشريع المحدد الأصول وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ; ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا آية وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغو انكاح ; فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ; ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا آية وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا وفي حماية الإناث خاصة يتيمات صغيرات ونساء مستضعفات وحفظ حقهن جميعا في الميراث وفي الكسب وفي حقهن في أنفسهن واستنقاذهن من عسف الجاهلية وتقاليدها الظالمة المهينة نجد أمثال هذه التوجيهات والتشريعات المنوعة الكثيرة وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا آية يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف ; فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وإن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما آية وفي تنظيم الأسرة وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة وتوفير الحماية لها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية ترد مثل هذه التوجيهات والتنظيمات بالإضافة إلى ما ورد منها في ثنايا الحديث عن اليتيمات والمطلقات ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ; واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ; وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما وفي تنظيم علاقات الميراث والتكافل بين أفراد الأسرة الواحدة ; وبين الموالي والأولياء الذين كانوا متعاقدين قبل نزول تشريعات النسب وإبطال التبني ترد هذه المبادىء الجامعة وهذه التشريعات المحددة ذات الأهداف الاجتماعية البعيدة للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا آية يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم آية ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا آية وفي حماية المجتمع من الفاحشة وتوفير أسباب الإحصان والوقاية نجد مثل هذه التنظيمات واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ; فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم وفي تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم كله ; وإقامتها على التكافل والتراحم والتناصح والأمانة والعدل والسماحة والمودة والإحسان ترد توجيهات وتشريعات شتى إلى جانب ما ذكرنا من قبل نذكر منها هنا على سبيل المثال بضعة نماذج ولا نستقصيها ; فستأتي كلها في مكانها من سياق السورة ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا آية وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا آية يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما آية واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا آية من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ; ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ; وكان الله على كل شيء مقيتا وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا آية لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا بصيرا إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا إلى جانب ذلك الهدف الكبير في تنظيم المجتمع المسلم على أساس التكافل والتراحم والتناصح والتسامح والأمانة والعدل والمودة والطهارة ; ومحو الرواسب المتخلفة فيه من الجاهلية ; وإنشاء وتثبيت الملامح الجديدة الوضيئة نجد هدفا آخر لا يقل عنه عمقا ولا أثرا في حياة المجتمع المسلم إن لم يكن هو الأساس الذي يقوم عليه الهدف الأول ذلك هو تحديد معنى الدين وحد الإيمان وشرط الإسلام وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الفرد وحياة المجتمع بذلك المعنى المحدد للدين وهذا التعريف المضبوط للإيمان والإسلام إن الدين هو النظام الذي قرره الله للحياة البشرية بجملتها والمنهج الذي يسير عليه نشاط الحياة برمتها والله وحده هو صاحب الحق في وضع هذا المنهج بلا شريك والدين هو الأتباع والطاعة للقيادة الربانية التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع ومنها وحدها يكون التلقي ولها وحدها يكون الاستسلام فالمجتمع المسلم مجتمع له قيادة خاصة كما له عقيدة خاصة وتصور خاص قيادة ربانية متمثلة في رسول الله ص وفيما يبلغه عن ربه مما هو باق بعده من شريعة الله ومنهجه وتبعية هذا المجتمع لهذه القيادة هي التي تمنحه صفة الإسلام وتجعل منه مجتمعا مسلما وبغير هذه التبعية المطلقة لا يكون مسلما بحال وشرط هذه التبعية هو التحاكم إلى الله والرسول ورد الأمر كله إلى الله والرضى بحكم رسوله وتنفيذه مع القبول والتسليم وتبلغ نصوص السورة في بيان هذه الحقيقة وتقرير هذا الأصل مبلغا حاسما جازما لا سبيل للجدال فيه أو الاحتيال عليه أو تمويهه وتلبيسه لأنها من القوة والوضوح والحسم بحيث لا تقبل الجدال وتقرير هذا المبدأ الأساسي يتمثل في نصوص كثيرة كثرة واضحة في السورة وسيجيء استعراضها التفصيلي في مكانها من السياق فنكتفي هنا بذكر بعضها إجمالا يتمثل على وجه الإجمال في آية الافتتاح في السورة يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة كما يتمثل في مثل هذه الآيات واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا آية إن الله لا يغفر أن يشرك به ; ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء آية ويتمثل على وجه التخصيص والتحديد في مثل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخرة ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما نزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله آية فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما آية من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا آية ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا آية وهكذا يتحدد معنى الدين وحد الإيمان وشرط الإسلام ونظام المجتمع المسلم ومنهجه في الحياة وهكذا لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات ; ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات إنما هو إلى جانب هذا وذلك وقبل هذا وذلك نظام يحكم ومنهج يتحكم وقيادة تطاع ووضع يستند إلى نظام معين ومنهج معين وقيادة معينة وبغير هذا كله لا يكون إيمان ولا يكون إسلام ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام وتترتب على إقرار هذا المبدأ الأساسي توجيهات كثيرة في السورة كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير يترتب عليه أن تكون التنظيمات الاجتماعية كلها في المجتمع شأنها شأن الشعائر التعبدية مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير مستندة إلى معنى الدين وحد الإيمان وشرط الإسلام على هذا النحو الذي قررته تلك النماذج التي أسلفنا فهي ليست مجرد تنظيمات وتشريعات إنما هي مقتضى الإيمان بالله والاعتراف بألوهيته وإفراده بالألوهية والتلقي من القيادة التي يحددها ومن ثم نرى كل التشريعات والتنظيمات التي أشرنا إليها تستند إلى هذه الجهة وينص في أعقابها نصا على هذه الحقيقة آية الافتتاح التي تقرر وحدة البشرية وتدعو الناس إلى رعاية وشيجة الرحم وتعد مقدمة لسائر التنظيمات التي تلتها في السورة تبدأ بدعوة الناس إلى تقوى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وتنتهي إلى تقواه وتحذيرهم من رقابته إن الله كان عليكم رقيبا والآيات التي تحض على رعاية أموال اليتامى وتبين طريقة التصرف في أموالهم تنتهي بالتذكير بالله وحسابه وكفى بالله حسيبا وتوزيع أنصبة الميراث في الأسرة يجيء وصية من الله يوصيكم الله في أولادكم فريضة من الله وتنتهي تشريعات الإرث بهذا التعقيب تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين وفي تشريعات الأسرة وتنظيم المهور والطلاق وما إليها ترد مثل هذه التعقيبات وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا تسبق في الآية الوصية بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين إلخ وهكذا ترتبط سائر التنظيمات والتشريعات بالله وتستمد من شريعته وترجع الأمور كلها إلى هذه القيادة التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع ويترتب على إقرار ذلك الأصل الكبير أن يكون ولاء المؤمنين لقيادتهم ولجماعتهم المؤمنة فلا يتولوا أحدا لا يؤمن إيمانهم ولا يتبع منهجهم ولا يخضع لنظامهم ولا يتلقى من قيادتهم كائنة ما كانت العلاقة التي تربطهم بهذا الأحد علاقة قرابة أو جنس أو أرض أو مصلحة وإلا فهو الشرك أو النفاق وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا آية يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما ويترتب عليه وجوب هجرة المسلمين من دار الحرب وهي كل دار لا تقوم فيها شريعة الإسلام ولا تدين للقيادة السملمة ليلحقوا بالجماعة المسلمة متى قامت في الأرض وأصبح لها قيادة وسلطان وليستظلوا برايه القيادة المسلمة ولا يخضعوا لراية الكفر وهي كل راية غير راية الإسلام وإلا فهو النفاق أو الكفر ; وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ; فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ويترتب عليه أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ الضعاف من إخوانهم المسلمين الذين لا يستطيعون الهجرة من دار الحرب وراية الكفر وضمهم إلى الجماعة المسلمة في دار الإسلام كي لا يفتنوا عن دينهم ولا يستظلوا براية غير راية الإسلام ولا يخضعوا لنظام غير نظامه ثم لكي يتمتعوا بالنظام الإسلامي الرفيع وبالحياة في المجتمع الإسلامي النظيف وهو حق كل مسلم والحرمان منه حرمان من أكبر نعم الله في الأرض ومن أفضل طيبات الحياة وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا آية ويستتبع هذا الأمر حملة ضخمة للحض على الجهاد بالنفس والمال والتنديد بالمعوقين والمبطئين والقاعدين وهي حملة تستغرق قطاعا كبيرا من السورة يرتفع عندها نبض السورة الهادئة الأنفاس ويشتد إيقاعها وتحمى لذعاتها في التوجيه والتنديد ولا نملك هنا استعراض هذا القطاع بترتيبه في السياق ولهذا الترتيب أهمية خاصة وإيحاء معين فندع هذا إلى مكانه من السياق ونكتفي بمقتطفات من هذا القطاع يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ; ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا آية لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما آية وفي ثنايا هذه الحملة للحض على الجهاد توضع بعض قواعد المعاملات الدولية بين دار الإسلام والمعسكرات المتعددة التي تدور معها المعاملات والخلافات في التعقيب على انقسام المسلمين فئتين ورأيين في أمر المنافقين الذين يدخلون المدينة للتجارة والمنافع والاتصال مع أهلها حتى إذا خرجوا منها عادوا موالين لمعسكرات الأعداء يقول فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ; فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ; وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن القى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا آية وكذلك تجيء في ثنايا الحديث عن الجهاد بعض الأحكام الخاصة بالصلاة في حالة الخوف وحالة الأمن ; مع توصيات الله للمؤمنين وتحذيرهم من أعدائهم المتربصين وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ; وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وتدل هذه الآيات على مكان الصلاة من الحياة الإسلامية ; حتى لتذكر في مقام الخوف وتبين كيفياتها في هذا المقام ; كما تدل على تكامل هذا المنهج في مواجهة الحياة الإنسانية في كل حالاتها ; ومتابعة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في كل لحظة وفي كل حال ويستتبع الأمر بالجهاد كذلك حملة ضخمة على المنافقين وعلى موالاتهم لليهود في المدينة بينما هم يكيدون لدين الله وللجماعة المسلمة وللقيادة المسلمة كيدا شديدا وعلى ألاعيبهم في الصف المسلم وتمييعهم للقيم والنظم وفي الآيات التي اقتطفناها من قطاع الجهاد طرف من الحملة على المنافقين نضم إليه هذا القطاع المصور لحالهم وصفاتهم الكاشف لطبيعتهم ووسائلهم ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا وفي قطاع الجهاد وفي غيره من القطاعات الأخرى في السورة نلتقي بالحرب المشبوبة على الجماعة المسلمة وعلى العقيدة الإسلامية والقيادة الإسلامية كذلك من أهل الكتاب وبخاصة اليهود وحلفائهم من المنافقين في المدينة والمشركين في مكة وما حولهما وهي الحرب التي التقينا بها في سورة البقرة وفي سورة آل عمران من قبل ونلتقي كذلك بالمنهج الرباني وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة السائرة بين الأشواك الخبيثة والأحابيل الماكرة يقودها ويوجهها ويحذرها ويكشف لها طبيعة أعدائها وطبيعة المعركة التي تخوضها وطبيعة الأرض التي تدور فيها المعركة وزواياها وجوانبها الخبيثة ومن علامات الإعجاز في هذا القرآن أن هذه النصوص التي نزلت لتواجه معركة معينة ما تزال هي بذاتها تصور طبيعة المعركة الدائمة المتجددة بين الجماعة المسلمة في كل مكان وعلى توالي الأجيال وبين أعدائها التقليديين ; الذين ما يزالون هم هم وما تزال حوافزهم هي هي في أصلها وإن اختلفت أشكالها وظواهرها وأسبابها القريبة وما تزال أهدافهم هي هي في طبيعتها وإن اختلفت أدواتها ووسائلها وما تزال زلزلة العقيدة وزعزعة الصف والتشكيك في القيادة الربانية هي الأهداف التي تصوب إليها طلقاتهم الماكرة للوصول من ورائها إلى الاستيلاء على مقاليد الجماعة المسلمة والتصرف في مقاديرها واستغلال أرضها وجهدها وغلاتها وقواها وطاقاتها كما كانت يهود تستغل الأوس والخزرج في المدينة قبل أن يعزهم الله ويجمعهم بالإسلام وبالقيادة المسلمة وبالمنهج الرباني وقد حفلت هذه السورة كما حفلت سورتا البقرة وآل عمران بالحديث عن تلك المؤامرات التي لا تنقطع من اليهود ضد الجماعة المسلمة بالاتفاق مع المنافقين ومع المشركين وستجيء هذه النصوص مشروحة عند استعراضها في مكانها في السياق فنكتفي هنا بإثبات طرف من هذه الحملة العنيفة ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ; وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ; فلا يؤمنون إلا قليلا فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ومن هذه المقتطفات تتبين بعض أفاعيل اليهود التي يتصدى لها القرآن بالكشف والتنديد ; وبالتكذيب والتفنيد وهذه الحملة وتسمية اليهود فيها بالكافرين ووصفهم بأنهم أعداء تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من هذه الأفاعيل ; وبضرورة التعرض لها بالتفنيد والتكذيب وكشف ما وراءها من أهداف خبيثة وبواعث خبيثة من هذه الجبلة الخبيثة ; التي لم تستلم أبدا للهدى في تاريخها الطويل ; ولم تستقم على الهدى إلا ريثما تنحرف وتقتل أنبياءها بغير الحق والتي كان يدفعها الحقد والحسد للنبي ص أن آتاه الله الرسالة وهو من غيرهم وللمسلمين أن جمعهم الله على الهدى ; فتكيد لهم هذا الكيد الذي لم ينقطع منذ أن اقتحم الإسلام المدينة عليهم إلى يومنا هذا والذي ما يزال هو هو اليوم وغدا يتلقى كل تجمع إسلامي وكل حركة إسلامية وكل بعث إسلامي على مدار القرون ولقد كان التشكيك في نبوة محمد ص ورسالته هو الهدف الأول لحملات اليهود ; الذي يسهل بعد بلوغه تحويل المسلمين عن قيادتهم الأمينة بعد تحويلهم عن عقيدتهم القويمة ومن ثم يسهل تفتيت الصف المسلم وإيهان تماسكه فهذا التماسك حول العقيدة القويمة والقيادة الأمينة هو الذي يتعب اليهود وأعداء الجماعة المسلمة في كل زمان وهو الذي يكلفهم الجهد والمشقة ومن ثم تتجه جهودهم أولا لتحطيمه وتسليم مقادة المسلمين إلى الهوى والجاهلية من جديد ومن ثم نجد في السورة بيانا للحقيقة البسيطة في رسالة النبي ص فهي ليست بدعا من الرسالات ; ولا غريبة من الغرائب التي لا عهد للأرض بها ; أو لا عهد بها لبني إسرائيل أنفسهم إنما هي حلقة من سلسلة الحجة التي يأخذها الله على العباد قبل الحساب فقد أوحى إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله وقد آتاه الله النبوة والحكم كما آتى أنبياء بني إسرائيل فلا غرابة في رسالته ولا غرابة في قيادته ولا غرابة في حاكميته وكلها مألوف في عالم الرسالات وكل تعلات بني إسرائيل في هذا الأمر كاذبة وكل شبهاتهم كذلك باطلة ولهم سوابق مثلها مع نبيهم الأكبر موسى عليه السلام ومع أنبيائهم من بعده وبخاصة مع عيسى عليه السلام ومن ثم لا يجوز أن يلقي باله إليها أحد من المسلمين وتتولى آيات كثيرة في السورة بيان هذه الحقيقة نقتطف بعضها في هذا المجمل ; حتى تجيء كلها مشروحة في مكانها من السياق إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكما تتولى السورة نصيبها من تنظيم المجتمع المسلم وتطهيره من رواسب الجاهلية ; وبيان معنى الدين وحد الإيمان وشرط الإسلام ; وترتب على هذا البيان مقتضياته من المبادىء والتوجيهات التي أسلفنا بيانها بصفة عامة ; وتتولى دفع شبهات اليهود وكيدهم وبخاصة فيما يتعلق بصحة الرسالة فهي كذلك تتولى بيان بعض مقومات التصور الإسلامي الأساسية وتجلو عنها الغبش وتبين ما في عقيدة أهل الكتاب من النصارى من غلو بعد دفع المقولات اليهودية الكاذبة عن عيسى عليه السلام وأمه الطاهرة وتقرر وحدة الألوهية وحقيقة العبودية وتبين حقيقة قدر الله وعلاقته بخلقه وحقيقة الأجل وعلاقته بقدر الله وحدود ما يغفره الله من الذنوب وحدود التوبة وحقيقتها وقواعد العمل والجزاء إلى آخر هذه المقومات الاعتقادية الأصيلة وذلك في مثل هذه النصوص إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما آية إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ثم الأسس الأخلاقية الرفيعة التي يقام عليها بناء المجتمع المسلم والسورة تعرض من هذه الأسس جمهرة صالحة سبقت الإشارة إلى بعضها فالعنصر الأخلاقي أصيل وعميق في كيان التصور الإسلامي وفي كيان المجتمع المسلم ; بحيث لا يخلو منه جانب من جوانب الحياة ونشاطها كله ونحن نكتفي هنا بالإشارة السريعة المجملة إلى بعض الأسس المستمدة من هذا العنصر الأصيل في حياة الجماعة المسلمة ; بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من محتويات السورة إنه مجتمع يقوم على العبودية لله وحده ; فهو مجتمع متحرر إذن من كل عبودية للعبيد في أية صورة من صور العبودية المتحققة في كل نظام على وجه الأرض ما عدا النظام الإسلامي ; الذي تتوحد فيه الألوهية وتتمحض لله ; فلا تخلع خاصية من خواصها على أحد من عباده ; ولا يدين بها الناس لأحد من عبيده ومن هذه الحرية تنطلق الفضائل كلها وتنطلق الأخلاقيات كلها لأن مرجعها جميعا إلى ابتغاء رضوان الله ومرتقاها ممتد إلى التحلي بأخلاق الله وهي مبراة إذن من النفاق والرياء والتطلع إلى غير وجه الله وهذا هو الأصل الكبير في أخلاقية الإسلام وفي فضائل المجتمع المسلم ثم ترد بعض مفردات العنصر الأخلاقي إلى جانب ذلك الأصل الكبير في السورة فهو مجتمع يقوم على الأمانة والعدل وعدم أكل الأموال بالباطل وعدم النجوى والتآمر إلا في معروف وعدم الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم والشفاعة الحسنة والتحية الحسنة ومنع الفاحشة وتحريم السفاح والمخادنة وعدم الاختيال والفخر والرياء والبخل والحسد والغل كما يقوم على التكافل والتعاون والتناصح والتسامح والنخوة والنجدة وطاعة القيادة التي لها وحدها حق الطاعة إلخ وقد سبق ذكر معظم النصوص التي تشير إلى هذه الأسس وسيرد تفصيلها عند استعراضها في موضعها من السياق فنكتفي هنا بالإشارة إلى الحادث الفذ الذي يشير إلى القمة السامقة التي تتطلع إليها أنظار الإنسانية وتظل تتطلع ولا تبلغ إليها أبدا كما لم تبلغ إليها قط إلا في ظل هذا المنهج الفريد العجيب في الوقت الذي كانت يهود تكيد ذلك الكيد الجاهد للإسلام ونبيه وللصف المسلم وقيادته كان القرآن يصنع الأمة المسلمة على عين الله فيرتفع بتصوراتها وأخلاقها ونظامها وإجراءاتها إلى القمة السامقة وكان يعلج حادثا يتعلق بيهودي فرد هذا العلاج الذي سنذكره كان الله يأمر الأمة المسلمة بالأمانة المطلقة وبالعدل المطلق بين الناس الناس على اختلاف أجناسهم وعقائدهم وقومياتهم وأوطانهم كان يقول لهم إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا آية وكان يقول لهم يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ثم كانت الآيات ذوات العدد من القرآن تتنزل لإنصاف يهودي فرد من اتهام ظالم وجهته إليه عصبة من المسلمين من الأنصار ممن لم ترسخ في قلوبهم هذه المبادىء السامقة بعد ولم تخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية كل الخلوص فدفعتهم عصبية الدم والعشيرة إلى تبرئة أحدهم باتهام هذا اليهودي والتواطؤ على اتهامه والشهادة ضده في حادث سرقة درع أمام النبي ص حتى كاد أن يقضي عليه بحد السرقة ويبرىء الفاعل الأصلي تنزلت هذه الآيات ذوات العدد فيها عتاب شديد للنبي ص وفيها إنحاء باللائمة على العصبة من أهل المدينة الذين آووا النبي ص وعزروه ونصروه إنصافا ليهودي من تلك الفئة التي تؤذي رسول الله ص أشد الإيذاء وتنصب لدعوته وتكيد له وللمسلمين هذا الكيد اللئم وفيها تهديد وإنذار لمن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا وفيها من ثم تلك النقلة العجيبة إلى تلك القمة السامقة وتلك الإشارة الوضيئة إلى ذلك المرتقى الصاعد لقد تنزلت هذه الآيات كلها في حادث ذلك اليهودي من يهود إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا فماذا ماذا يملك الإنسان أن يقول ألا أنه المنهج الفريد الذي يملك وحده أن يلتقط الجماعة البشرية من سفح الجاهلية ذاك ; فيرتقي بها في ذلك المرتقى الصاعد ; فيبلغ بها إلى تلك القمة السامقة في مثل هذا الزمن القصير والأن نكتفي بهذه التقدمة للسورة وموضوعاتها وخط سيرها وقد أشرنا إلى ذلك الحشد من الحقائق والتصورات والتوجيهات والتشريعات التي تتضمنها مجرد إشارة عسى أن نبلغ شيئا في بيانها التفصيلي عند استعراض النصوص في مكانها من السياق والموفق هو الله

    كلمات مفتاحية  :
    الترعيف سورة النساء ظلال القرآن

    تعليقات الزوار ()