بتـــــاريخ : 7/3/2009 8:53:28 PM
الفــــــــئة
  • الاقتصـــــــــاد
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1386 0


    التورق بين المفهوم الفقهي والأثر الاقتصادي

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : د. توفيق الطيب البشير | المصدر : www.ecoworld-mag.com

    كلمات مفتاحية  :
    التورق بين المفهوم الفقهي والأثر الاقتصادي
    د. توفيق الطيب البشير
    د.توفيق الطيب البشير
    د.توفيق الطيب البشير
    التورق هو أن يشتري الرجل السلعة بأجل لا يريد الانتفاع بها أو اقتناءها وإنما يريد أن يبيعها نقداً ليحصل على قيمتها الورقية لغرض آخر. وقد يلجأ كثير من الناس في زماننا هذا لهذا الأسلوب بهدف الحصول على النقد، أو الورق، لا سيما بعد انتشار عمليات البيع بالتقسيط والبيع الآجل، ولهذا سميت هذه المعاملة بالتورق.
    وقد وقف العلماء منذ عهد بعيد مواقف مختلفة من التورق، فذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى الكراهة، وذهب فقهاء الحنابلة إلى جوازه، كما جاء في الإنصاف؛ فلو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين فلا بأس، وهو المذهب وعليه الأصحاب وهي مسألة التورق.
    وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الأخذ بالتحريم فقال؛ ولو كان مقصود المشتري الدراهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق. وفي كراهته عن أحمد روايتان. والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن، بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع والقنية (التملك) فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق.
    وأجاز الإمام البهوتي أن يشتري الرجل السلعة ليبيعها ويتوسع بثمنها عند الحاجة، كما جاء في الروض المربع؛ ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائتين وأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس، وتسمى مسألة التورق. ومثله ما جاء في المبدع؛ فلو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بثمانين فلا بأس، وهي مثل التورق وعنه يكره وحرَّمه الشيخ تقي الدين.
    والذين حرموا التورق إنما قاسوه على العلة التي من أجلها حرم الربا وحرمت العينة، مراعين مقصود الشريعة وأصولها كما تدل عليه معاني الكتاب والسنة النبوية الشريفة، وهو في غايته شبيه بالعينة، كما أدخله فيها بعض علماء المالكية، ولكنه إذا لم يكن فيه تواطؤ واحتيال وقامت الحاجة إليه فهو أمر جائز. وقد ذكر صاحب الكشاف أنه لو احتاج إنسان إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين فلا بأس بذلك. وهي، أي هذه المسألة، تسمى التورق من الورق وهو الفضة لأن مشتري السلعة يبيع بها وإن باع إنسان ما يجري فيه الربا كالمكيل والموزون بثمن نسيئة ثم اشترى منه أي من المشتري بثمنه الذي في ذمته قبل قبضه من جنسه أي جنس ما كان باعه كما لو باعه براً بعشرة دراهم ثم اشترى منه بالدراهم براً أو اشترى بالثمن قبل قبضه من غير جنس المبيع ما لا يجوز بيعه به أي بالمبيع نسيئة بأن اشترى بثمن المكيل مكيلاً أو بثمن الموزون موزوناً لم يجز.
    وفي فتوى معاصرة لبيت التمويل الكويتي أجيز التورق إذا لم يتخذ عادة مستمرة؛ لا مانع شرعاً لأنه من صور البيع المشروع .. ولكن كره ذلك بعض العلماء إذا كان العميل قد اتخذ التورق ديدناً له وعادة مستمرة.
    وقد أفتى الشيخ عبد العزيز بن باز، يرحمه الله، بجواز التورق قائلاً؛ إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها فهذه المعاملة تسمى مسألة التورق ويسميها العامة الوعدة. وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين:
    أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة لأن المقصود منها شراء الدراهم بدراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
    والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها لأن ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا ولدخولها في عموم قوله سبحانه وتعالى (وأحل الله البيع) وقوله سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة. وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك موجباً لتحريمها ولا لكراهتها لأن مقصود التجار غالباً في المعاملات وهو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك. وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا. أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة، فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقداً من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا لأن المشتري غير البائع ولكن كثيراً من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة فبعضهم يبيع ما لا يملك ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي وكلا الأمرين غير جائز.
    وأصل جواز التورق ناشئ من أن الأصل في العقود والمعاملات الجواز ما لم يقم دليل على المنع. وقد جاء في فتاوى ابن تيمية؛ قد نص أحمد على أنهما إذا اختلفا فقال بعتك قبل أن أبلغ وقال المشتري بل بعد بلوغك فالقول قول المشتري وهذا يتجه في الإقرار وسائر التصرفات لأن الأصل في العقود الصحة. ويقول بذلك أيضاً أبو حنيفة، كما جاء في المبسوط.
    وقال ابن القيم؛ إن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه, وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم, ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله, ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله, كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله, ولا حرام إلا ما حرمه الله, ولا دين إلا ما شرعه , فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر, والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما أن الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله, فإن العبادة حقه على عباده, وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها, ولهذا فقد أخذ الله سبحانه وتعالى على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه, والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه وتعالى لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله, فإن الحلال ما أحله الله, والحرام ما حرمه, وما سكت عنه فهو عفو, فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها, فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال.
    ويضاف إلى هاتين القاعدتين قاعدة فقهية عظيمة أخرى تنص على أن المشقة تجلب التيسير، كما جاء في مغني المحتاج، قال القاضي حسين؛ إن مبنى الفقه على أربع قواعد: اليقين لا يزال بالشك , والضرر يزال, والعادة محكمة والمشقة تجلب التيسير. قال بعضهم والأمور بمقاصدها.
    وخلاصة القول فإن الراجح في أقوال العلماء هو الجواز، وقد ربطه كثير منهم بالحاجة. ومعلوم أن الحاجة في الشريعة الإسلامية تنزل منزلة الضرورة. وقد أصّل الإسلام لقاعدة الحاجة حتى صارت أصلاً مجمعاً عليه يفتح باباً في نظر الفقهاء كانت عمومات النصوص تقتضي سده، ذلك لأن الشريعة السمحة ما جاءت لتسد على الناس منافذ حاجاتهم الحقيقية، وإنما جاءت لتلبية احتياجاتهم الصحيحة التي تقتضيها ظروف الحياة والتعامل بين الناس.
    وأصل قاعدة الحاجة دلت عليه السنة النبوية الشريفة الثابتة في بعض الحالات، ومن ذلك ما ثبت في الصحاح من أن النبي المصطفى سيدنا محمد لما نهى عن قطع الشجر والحشيش في حرم مكة المكرمة استثنى للناس الأذخر لحاجتهم إليه، كما جاء في سنن البيهقي الكبرى من حديث أبي سلمة ابن عبد الرحمن قال حدثني أبو هريرة فذكر الحديث في حرم مكة المكرمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يعضد شجرها ولا يختلي شوكها قال؛ فقال العباس بن عبد المطلب يا رسول الله إلا الأذخر فإنا نجعله في مساكننا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا الأذخر إلا الأذخر. أخرجاه في الصحيحين من حديث الأوزاعي وأخرجه البخاري أيضاً من حديث ابن عباس وصفية بنت شيبة بمعناه.
    وقد أشار الزركشي في المنثور إلى أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة قائلاً؛ الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس، كررها إمام الحرمين في مواضع من البرهان وكذا في النهاية فقال في باب الكتابة إن عقد الكتابة والجعالة ونحوهما جرت على حاجات خاصة تكاد تعم والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة فتغلب فيها الضرورة الحقيقية.
    ونصت المادة الخامسة من الأشباه والنظائر أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، إذ جاء فيها؛ الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة من الأولى؛ مشروعية الإجارة, والجعالة, والحوالة, ونحوها, جوزت على خلاف القياس لما في الأولى من ورود العقد على منافع معدومة, وفي الثانية من الجهالة, وفي الثالثة من بيع الدين بالدين لعموم الحاجة إلى ذلك, والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة.
    ومع تعدد الأنشطة والمجالات الاستثمارية تنشأ الحاجة إلى رؤوس الأموال، وتتجه كثير من المؤسسات والشركات الصغرى إلى البحث عن التمويل بصور متعددة سواء كان ذلك من النظام المصرفي أو من شركات التمويل الداخلية والخارجية، لتتمكن من تسيير دفة أعمالها.
    ولذلك اتجهت كثير من المؤسسات والشركات، بل والأفراد، إلى أسلوب الشراء المقسط للسلع والبيع النقدي الحاضر لتوفير السيولة سواء كان ذلك لأغراض الاستهلاك الضروري أو الاستثمار.
    والذي نراه مرجحاً في هذه المعاملة أن التورق جائز إذا مست الحاجة إليه، فمن يريد الزواج مثلاً ولا يملك ما يسد به هذه الحاجة الضرورية فله أن يتورق ومن يريد أن يبدأ مشروعاً استثمارياً صغيراً يعول به أسرته ويجنبها سوءات الفقر والجوع فله أن يتورق ولكن ينبغي ألا يستفاد من هذا الجواز للتوسع الأفقي في التجارة بمعنى أن التجار يميلون إلى زيادة رؤوس أموالهم بالتورق لأن ذلك سيؤدى إلى زيادة الائتمان الزائف ويجعل الدولة غير قادرة على التحكم في حجم الائتمان الكلي لأنها ليس بمقدورها أن تضبط هذا النوع من الائتمان، وهذا سيؤدى إلى زيادة العرض النقدي في إطار ما يسمى بنظرية توليد الائتمان أو استحداث النقود Money Creation بعيداً عن النظام المصرفي مما يؤدي بدوره إلى زيادة أسعار السلع الضرورية لزيادة العرض النقدي مع ثبات الإنتاج من جهة ولسعي المتورق لتغطية فرق السعر بين ما يدفعه آجلاً وما يقبضه حاضراً من جهة أخرى، هذا مع ملاحظة أن ما يحدث من انخفاض في أسعار السلع المتورق فيها بالنسبة للمشترين بالنقد لن يؤثر على المعدل العام للأسعار لأن المتورقين كما أسلفنا سيعوضون ما فاتهم من ثمن السلع بزيادة أسعار منتجاتهم من السلع الأخرى.
    من جهة ثانية، فإن المبالغة في التورق قد تدخل المتورقين في التزامات لا يستطيعون الوفاء بها،. وقد أفادت بعض الدراسات أن كثيراً من هؤلاء المتورقين قد تورطوا في ديون ما هم بقادرين على سدادها مما كان له أثر سيئ على حياتهم الاقتصادية والاجتماعية وربما يؤدي ذلك إلى وقوع المنازعات القضائية وولوج المحاكم.
    وقد شدد الإسلام على قضية الدين حتى جعل نفس المؤمن معلقة بدينه. وقد جاء في الحديث الصحيح أن الله سبحانه وتعالى يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين. وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله.
    رئيس الفريق الاستشاري - دار الدراسات الاقتصادية - الرياض.


    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()