بتـــــاريخ : 2/20/2009 12:09:25 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1823 0


    لا تحزن إن الله معنا

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. مجدي الهلالي | المصدر : www.qudwa1.com

    كلمات مفتاحية  :
    حزن الله

    أراد مشركو مكة ومَن تحالَف معهم من قبائل العرب أن يستأصلوا شأفة الإسلام، ويقضوا على الدولة الإسلامية الوليدة بالمدينة المنورة، فخرجوا بجيش ضخم يبلغ قرابة العشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة حصارًا شديدًا، واشتدَّ الأمر على المسلمين، وطال الحصار دون أن يحقِّق جيش الكفر هدفَه، فالخندق الذي حفره المسلمون يحمي الجهة الشمالية للمدينة، والجبال تحيط بالجهتَين الشرقية والغربية، ويهود بني قريظة- المتحالفون مع المسلمين- في الجهة الجنوبية..
    وفي أثناء ذلك الحصار طمع يهود بني قريظة في النصر الشامل على المسلمين، فتحالفوا مع المشركين، وانتهى الخبر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبادر إلى التحقق منه، فأرسل سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، وخوَّات بن جبير، وقال: انطلِقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟! فإن كان حقًّا فالحنوا إليَّ لحنًا أعرفه، ولا تفتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.
    فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسبِّ والعداوة، ونالوا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالوا: مَن رسول الله؟! لا عهدَ بيننا وبين محمد، ولا عقد، فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحَنُوا له، وقالوا: عضل والقارة.. أي أنهم على غدرٍ كغدرِ عضل والقارة بأصحاب الرجيع.
    يقول صاحب الرحيق المختوم: وعلى رغمِ محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطَّن الناس لجلية الأمر، فتجسَّد أمامهم خطرٌ رهيبٌ، وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيءٌ من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصرافَ عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما يقول الله تعالى ?وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا? (الأحزاب: 10-11).
    فماذا كان رد فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تجاه هذا الخبر؟! يقول المباركفوري: أما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتقنَّع بثوبه حين أتاه غدْر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتدَّ على الناس البلاء، ثم نهض يقول: "الله أكبر.. أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره".. إجابة مفاجِئة للجميع.. كيف يكون التبشير بالنصر في ظل هذا الموقف العصيب؟!
    أتدري لماذا كانت هذه الإجابة؟! لأنه- صلى الله عليه وسلم يعلم بأنه طالما كانت الأبواب الأرضية مفتوحةً أمام الناس فإنها قد تكون سببًا في إضعاف التوكل على الله والاستنصار المطلق به، فإذا ما أُغلقت جميع الأبواب، واستنُفذت جميع الأسباب، لم يكن أمام القلوب المؤمنة إلا أن تتجه بكلِّيَّتها إلى الباب الأعظم.. الباب الذي لا يُغلق.. باب القادر المقتدر، فتقف أمامه موقنةً بأنه وحده الذي سينجِّيها ويؤويها وينصرها، فيحدث- تبعًا لذلك- الزلزال الذي يهدم جميع تصوراتها عن إمكانيات إحراز النصر من خلال باب آخر.. عند ذلك تنفتح أبواب السماء، ويأتي الفرج، ويكفيك في هذا قوله تعالى: ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا? (يوسف: من الآية 110).
    فعندما يتم اليأس التام والمطلق من الأسباب في كونها تستطيع بذاتها أن تجلب لنا النفع أو تدفع عنا الضرَّ.. عندئذ يأتي الفرج والنصر والمَدَد، ويؤكد على هذا المعنى الحافظ ابن رجب فيقول: "ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب أن الكرب إذا اشتدَّ وعظُم وتناهَى وُجِدَ الإياسُ من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق وحده، ومَن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلَّق بالخالق استجاب الله له".

    منحة في طيات المحنة

    معنى ذلك أنه لو استطاعت القلوب أن تتجه بكليَّتها إلى الله في كل وقت، ويئست من الناس، ولم تتعلق بأحد منهم، لكان الفرج متواصلاً في السرَّاء والضرَّاء، ولكنَّ طبيعة النفس وانخداعها بالمظاهر والقُوى الوهمية تجعل البعضَ يظنُّ أن الخير قد يأتيه من وراء الباطل، وأن بإمكان الباطل أن ينسى عداوتَه للحق وأهله، أو يفتح معهم صفحةً جديدةً، ومن ثمَّ يكون هناك تعلُّقٌ بالله وبالأسباب الأرضية معًا.

    أما حين تأتي المِحَن فإنها تُظهِر زَيفَ الباطل، وتنزع عنه قناعَه ليظهر وجهه القبيح، وتكشف رغبته في زوال الحق، وأن كل أفعاله التي ينخدع بها البعض لم تكن إلا ستارًا يُخفي من ورائه خطَطَه واستراتيجياته لمَحْوِ الحقِّ وتشويه صورته.

    فيكون هذا الموقف من أهل الباطل بمثابة المفاجأة والصدمة للجميع، ليجدَ أهلُ الحق أنفسَهم في العراء، فزلزال الباطل قد حطَّم أحلامهم وأمانيَهم، فيبحثون حولهم فلا يجدون شيئًا مما كانوا ينتظرون أن يجدوه، فالكل تخلَّى عنهم، فإذا ما راجعوا أنفسهم وعادوا إلى إيمانهم، وإلى الأساس الذي انطلقت منه دعوتهم، واتجهوا إلى الله، ودخلوا عليه دخول البائس المسكين الذي لن ينجيَه أو يطعمَه أو يسقيَه سواه.. عند ذلك يأتي الفرج، وتصبح هذه المحن من أعظم المِنَح؛ لأنها أعادت الجميع إلى الله، وحطَّمت كل تعلُّق بغيره، فينطبق حالهم حينئذٍ مع قوله تعالى ?مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ? (البقرة: من الآية 214) إن المحن مع شدتها وقسوتها تحمل في طياتها خيرًا عظيمًا إذا ما أحسن أصحاب الدعوة تحليلَها وتفطَّنوا لمراد الله منها.

    لمن قامت الدعوة؟! لقد قامت الدعوة لنصرة الله وإقامة دينه ?أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا? (الشورى: من الآية 13) وشعارها الخالد (الله غايتنا)، فمن يومها الأول هي دعوة ربانية، تستمد قوَّتَها ووقودَها من قوة إيمان أبنائها بالله وتعلقهم به وتجردهم له.

    هذه هي الحقيقة الأساسية التي قامت عليها الدعوة، وكيف لا والله عز وجل هو مالك كل شيء، وقائمٌ على كل شيء، ومهيمن على كل شيء، لا يعزُب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.. أحاط بكل شيء علمًا.. يقدم ويؤخر، يخفض ويرفع، يعزّ ويذلّ، يقبض ويبسط، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

    معنى ذلك أن الذي يفتح القلوب للدعوة هو الله ?وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي? (المائدة: من الآية 111)، والذي يختار لها الأنصار هو الله ?وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ? (الدخان: 32)، والذي يحميها ويكفيها ويحفظها هو الله ?وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ? (الفتح: من الآية20)، والذي يبتليها- تطهيرًا أو تذكيرًا- هو الله ?وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ? (الدخان: 33)، والذي سيمكنها وينصرها هو الله ?إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? (الأعراف: من الآية 128).

    إن مقتضى هذه الحقائق يؤكد أن جهد أبناء الدعوة ينبغي أن يتجه أولاً وقبل أي شيء آخر نحو الله سبحانه وتعالى لاستجلاب رضاه ومعيته وكفايته.

    نعم.. لا بد من بذل الجهد مع الناس في دعوتهم وإيقاظهم وإقامة المشروع الإسلامي، ولكن تبقى الحقيقة بأن الأمر كله لله ?وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ? (هود: 123).

    لا تحزن.. إن الله معنا

    ولكَ أن تتصوَّرَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو مهاجرٌ مع صاحبه أبي بكر- رضي الله عنه- وإذ بكل قوى الباطل تتبعهم، حتى وصل المشركون إلى فم الغار، فيخاف أبو بكر خوفًا شديدًا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى الدعوة، ويقول الرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يا نبيَّ الله لو أنَّ أحدَهم طأطأ بصره لرآنا.. إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قُتلتَ أنتَ هلكت الأمةُ، ليفاجأ بأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يتأثر بهذه المخاوف، بل كان هادئ النفس، رابط الجأش، على ثقة مطلقة بالله عز وجل، وبدا ذلك واضحًا من إجابته على ما أثاره أبو بكر من مخاوف: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما.. لا تحزن إن الله معنا.. نعم، أخي الحبيب، لا ينبغي علينا أن نحزن إن كان الله معنا ?وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَّكَفَى بِاللهِ نَصِيْرًا? (النساء: من الآية 45).

    لا سفينة تحملنا ولا خشبة نتعلق بها!!

    لو أن ريحًا شديدةً وموجةً عاتيةً قد ضربت سفينةً من السفن في ظلام الليل، وبدأت على إثْرها تلك السفينة في التأرجُح على سطح البحر.. ماذا سيفعل ركابها؟! بلا شكٍّ إنهم جميعًا سيشعرون بالخطر المحدق بهم ويتوجَّهون إلى الله بالدعاء والاستغاثة ليصرف عنهم هذه الغمة، لكنهم في قرارةِ أنفسِهم يعلمون أن السفينة قويةٌ ومحصَّنةٌ، وستقاوم الرياح والأمواج، فإذا ما انكسرت السفينة، وتعلَّق كل واحد منهم بخشبة في عرض البحر فإن استغاثتهم بالله ستزداد، ومع ذلك فوجود الخشبة يجعلهم يظنون بأنها قد تحفظ حياتهم لبعض الوقت مما قد يُتيح الفرصة لفرق الإنقاذ أن تصل إليهم.

    فإذا ما اشتدَّت الأمواج وأُبعدت عن كلٍّ منهم خشبته التي يتعلق بها، فماذا تظن أن تكون قوة استغاثتهم بالله؟! ألا توافقني أنها ستكون أشدَّ وأخلص وأصدق- من ذي قبل- استغاثة مريرة من أعماق أعماق قلوبهم؟! وهذا هو المطلوب من الجميع الآن أن نتجه إلى الله ونستغيث به كأشد ما تكون الاستغاثة، فلا سفينةَ تحملنا ولا خشبة نتعلق بها.. لقد أُغلقت الأبواب الأرضية في وجوهنا، وانقطعت الأسباب، وأصبحنا في العراء، فماذا نحن فاعلون؟! ألم يأنِ لنا أن نولِّيَ وجوهَنا شطْرَ ربنا، ونتجه إليه بقلوبنا، ونستغيث به استغاثةَ المُشرف على الغرق؟!

    اذكرني عند ربك

    لقد أنسى الشيطان نبي الله يوسف- عليه السلام- في لحظة من اللحظات هذه الحقيقة، فقال لصاحبه الذي كان يتأهَّب للخروج من السجن، والالتحاق بخدمة الملك ?اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ? (يوسف: من الآية 42) فكان الرد الإلهي لهذا القول: ?فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ? (يوسف: من الآية 42)، وكذلك أصحاب الدعوات، إن تعلقت قلوبهم بأحد من الناس فسيكون الرد الإلهي مثلما حدث ليوسف عليه السلام.

    ومما يلفت النظر أن سورة يوسف قد نزلت أيام حصار المسلمين في شعب أبي طالب، نزلت لتؤكد لهم أن الناصر هو الله، وأنه سبحانه يريد منهم تعلقًا تامًّا به، وعدم التعلق بالناس واليأس من أنهم يملكون كشف الضر وتفريج الكرب، والسورة كذلك نزلت لتؤكد بأن الذي مكَّن يوسف- عليه السلام- هو الله عز وجل، وأن الذي حرك الأحداث في اتجاه هذا التمكين هو الله عز وجل ?وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ? (يوسف: من الآية 100) هذه هي أهم الحقائق التي نزلت سورة يوسف لتؤكدها من خلال سياق الأحداث التي حدثت والنتائج التي تحققت.

    وحتى لا تُنسى هذه الحقائق في خضمّ أحداث القصة جاءت نهاية السورة لتقرِّرَها بصورة مباشرة، وتقول لنا بأنه كلما تزلزلت تصوراتنا عن إمكانية وقوع الفرج وكشف الضرّ ومجيء النصر من أحد دون الله، ويَئِسْنا تمامًا من ذلك، واتجهت القلوب بكليَّتها إلى ربها كان الفرج والنصر أقربَ مما يتخيَّله الجميع، ومن خلال أهون الأسباب ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا? (يوسف: من الآية110).

    هل نترك الأسباب؟!

    وليس معنى هذا هو ترك الأخذ بالأسباب، وعدم بذل الجهد مع الناس، أو الانفصال عنهم بل المقصد هو عدم التعلق القلبي بهم، أو الاعتقاد بأنهم يملكون كشف الضرّ عنا، أو أنهم كانوا يملكون القدرة على فكِّ الحصار عن الدعوة ولو يسيرًا، فالأمر كله لله ?وَإِنْ يَّمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ? (الأنعام: من الآية 17).

    إن إقامة المشروع الإسلامي والتمكين لدين الله في الأرض لن يتم إلا من خلال التعلُّق التامّ بالله عز وجل، مع بذل غاية الجهد واستنفاذ جميع الأسباب المتاحة، ومدّ جسور التعاون مع الجميع، وكيف لا ونحن مأمورون بذلك ?وَجَاهِدُوا فِيْ اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ? (الحج: من الآية 78).

    فالأخذ بالأسباب المشروعة جزء من شريعة الله، وجزء كذلك من قدَر الله، وحين يتركها أهل الدعوة فهم مقصِّرون في واجبهم، وفي نفس الوقت عليهم- مع بذلهم لعظيم الجهد واستنفاذهم لجميع الأسباب المتاحة أمامهم- أن تكون قلوبهم متعلقةً تمام التعلق بالله عزَّ وجل؛ من حيث كونه سبحانه هو مالك هذا الكون والمتصرف فيه، وأن الأمر كله بيده، وأنه هو وحده القادر على كشف الضرّ وتفريج الكرب، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تضرَّ الدعوة بشيء لم يأذن به الله فلن يتم لها ما أرادت ?وَمَا هُمْ بِضَآرِّيْنَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ? (البقرة: من الآية 102).

    جهد البشر

    ومع التأكيد القرآني الدائم على أن الناصر هو الله، وأن كاشف الضر، وفارج الكرب هو الله، وأن الذي يمكِّن للعباد هو الله.. إلا أنه يؤكد أيضًا على أن الفرج والنصر وكشف الضر يحتاج إلى سِتَارٍ من الأسباب يتنزل عليه، تأمَّل معي قوله تعالى: ?قَاتِلُوْهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيْكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُوْرَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِيْنَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوْبِهِمْ..? (التوبة: 14- 15).

    إن هذا الدين لن يقام إلا بجهد الفئة المؤمنة، وجهادها المرير، واستنفاذها جميعَ الأسباب المتاحة أمامها، مع يقينها بأن هذا كله لا يشكِّل سوى ستارٍ يستدعي قدَرَ الله بالنصر والتمكين، ولو تعلَّقت قلوب الفئة المؤمنة بهذا الستار ولو يسيرًا لتأخَّر الفرج والنصر حتى يَخلُص تَعلُّقُها بالله وحده.

    الفرج قريب.. فكيف نبلُغُه؟!

    من هنا يتأكد لدينا بأن تفريج الكرب الذي ألمَّ بنا وفك الحصار عن الدعوة بيد الله وحده، وأن الفرج قريب قريب، فما من عُسر ينزل من السماء إلا وينزل معه يسرُه، وما من بلاءٍ إلا والفرج يلاحقه كما قال- صلى الله عليه وسلم-: "وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده).

    وتذكر- أخي الحبيب- قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يُنزل المعونة على قدر المؤونة، ويُنزل الصبر على قدر البلاء" (صحيح الجامع الصغير)، وكان- صلى الله عليه وسلم- جالسًا وحياله جحر فقال لأصحابه: "لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه" فأنزل الله تعالى: ?فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا? (الشرح: 5، 6)، فكل بلاء- مهما اشتد- موصول به فرجُه..

    وكل الحادثات- وإن تناهت- فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ

    يبقى السؤال عن كيفية بلوغ هذا الفرج؟! فمع يقيننا بأن اليسر يلاحق العسر والفرج موصول بالكرب إلا أننا قد لا نستطيع بلوغه إن لم نُحسن قراءة حدث الابتلاء، ولم نقُم بتحليله تحليلاً صحيحًا.. إن بلوغ الفرج يستلزم تضرعًا إلى الله وتبؤُّسًا وتمسكنًا بين يديه، واستغاثةً دائمةً مريرةً به.. استغاثةَ من فقَد الخشبة وأشرف على الغرق.. ويستلزم منا الاستيقاظ قبل الفجر كل ليلة لنهرع إلى المحراب، نصلي لله ونتأوَّه بين يديه ونذرف الدمع، ونُظهر له سبحانه عظيمَ افتقارِنا إليه واحتياجَنا المطلقَ والذاتيَّ له، وأنه لا ناصرَ لنا سواه، ولا كافيَ سواه، ولاحافِظَ سواه، ولا كاشفَ للضرِّ سواه، وأنه لو تركَنا لهلكْنا.

    ويستلزم كذلك أن نعود إلى القرآن ونمكث معه طويلاً ونقرأه بفهم وتدبُّر لنتعرَّف على الله من خلاله، ونزداد يقينًا به، ومن ثمَّ تتحوَّل هذه الحقائق النظرية إلى إيمان راسخ يُصدقه العمل.

    إن الأحداث التي تمر بالدعوة تتشابه إلى حدٍّ كبير بالأحداث التي مرَّت بأصحاب الدعوات في الماضي، والتي أفاض القرآن في ذكرها، وكيفية التعامل معها، ومن الخطأ بمكان أن نترك هذا الرصيد الضخم من التجارب والحلول المجرَّبة بهَجرنا للقرآن، أو الاقتصار على قراءته بألسنتنا وحناجرنا فقط، بل لا بد من إعمال العقل فيما نقرأ، ولو فهمًا إجماليًّا للمعنى المراد من الآيات التي نقرأُها، ولا بد أيضًا أن يصاحب هذا الفهم قراءةٌ مرتلةٌ بصوت مسموع حزين ليتحوَّل الفهم إلى إيمان.

    ومع هذا كله

    علينا أن نستفرغ جهدنا في الدعوة إلى الله وبناء الحق، وإقامة الدين في نفوسنا أولاً، ثم نفوس الناس بعد ذلك، فمعركتنا معركة تربوية- كما قال الإمام حسن البنا- أي أن جهدَنا ينبغي أن يتجهَ إلى إقامة الحق وإصلاح المجتمع، وإعادة بناء منظومة القيم والأخلاق التي تهدَّمت في نفوس الناس مع ربطهم بالله عزَّ وجلَّ حتى يعظم قدرُه في قلوبهم، ومِن ثمَّ يزداد استعدادُهم للتضحية من أجله ومن أجل دينه.

    تأمَّل معي قول البنا: إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها، وإن وسيلتهم تنحصر في تغيير العرف العام، وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم؛ حتى يكونوا قدوةً لغيرهم في التمسك بها، والحرص عليها، والنزول على حكمها.

    أفي شكٍّ أنت يا أخي؟!

    فإن فعلنا هذا وجاء الفرج فتلك عاجلُ بشرى المؤمن، وإن لم يأتِ فمن الرابح في هذه المعركة ومن الخاسر؟! أما نحن فقد أعطانا الله الجواب ?قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ? (التوبة: من الآية 42) وأما غيرنا ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكًا? (طه: من الآية 124)، فلا تشكُّ يا أخي بأننا- بفضل الله- الرابحون في كل حال.

    وفي النهاية أتركك- أخي الحبيب- مع هذا الموقف النبوي الذي يعلِّمنا درسًا عظيمًا في اليقين بموعود الله عز وجل، فقد دخل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوجده متكئًا على حصير وقد أثَّر في جنبه، ورفع رأسه في بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يجد فيه شيئًا ذا قيمة، فقال: ادع الله يا رسول الله أن يوسِّع على أمتك، فقد وسَّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًا وقال: "أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتُهم في الحياة الدنيا" فقال عمر: استغفر لي يا رسول الله

    كلمات مفتاحية  :
    حزن الله

    تعليقات الزوار ()