بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:48:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 969 0


    الخــــــوف

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : الحبيب السائح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الخــــــوف الحبيب السائح

    في الصدر ثقيل رصاص، كأي لحظة تعقب الحادث الدموي، ناشبة كتلك التي تسبق التوجس، وفارغة من أي زمان، كفضاء يمتص صوت رصاص.‏

    الوجوه مثلومة بسكة الفزع، وخنجرية هي النظرات المنسلة من غمد العيون. اليد في جيب الجاكيتة الداخلي أو الخارجي علامة تحسس سلاح، وشخص لا يعرفه ينظر إليه هو المحتمل أن يكون مغتاله، وآخر يقف حيث يجب أن يمر يبدو راصداً، يراه مراقباً تحركه، مشبوه في التربص به، فإن قاربه فالتفت إليه تحسكت مصارينه، وقد يقول إذا مر بسلام إنه أهوس.‏

    الجو. شمس صفراء، ريح قبلية، والمكان أشجار ذابلة، وجرذان شهباء، وامرأة عجوز بعكازين، وفتاة عوراء، ورجل منهك مرمي على عورته في الرصيف، وطفل حاف يسأل، وجريدة ممزقة بالنصف مهملة، ومجرى مياه يتقيأ قذارة، وكلب يجري وراء كرة في الطريق. والزمان ساعات مرصوفة على طاولات منشورة في سوق الخردة، ومذيع متلعثم يعلن موجز أخبار لا تخص البلاد مؤشر المزولة مهرشم، والظل غائب خياله، وساعات البلدية الجدارية معطلة، ومومس تضرب لرجل سكران موعداً بالغروب.‏

    الشيء وجزؤه وكله ينبئه أن الموت صار أدنى محسوساته، تتلمسها بشرته بحواسها الخمس، فيعرى عن أي فكرة عليا: الموت حقيقة أم نهاية؟ وهم لذاته شكل الساحقة الزاحفة عليه وظهره لجدار الإحباط. لو سبق القتلى والموتى إلى بواباتهم الأخيرة فاستفسرهم ناسوت الساحقة وعاد ليعد لموته أو قتله من قوة الروح ما يعليه إلى ذروة الشكم.‏

    وحيداً في طريقه لا يحس الكينونة من حوله، لم يعد يعقل للمدينة وجهاً، وحسر نظره عن قراءة أسماء شوارعها، امتد عنه قطرها حتى لا ضاحية ولا خروج. رغبته في أن يكون مثل بشرها خلقاً يدمي أصابع يديه ويعلك رجليه. خطوات بلا قصد في أحد شرايينها كابسة رصاصة يمغنطها رأسه. قلبه نبع ينتظر فطره، لأي سقاية؟‏

    تستوي عنده سنو العمر، أن يكون عاش العشرين وحيي الأربعين أو امتد به زمنه الذي يخجله إلى السبعين. وراءه الخيبة على مائدة لؤم الأحلام، أمامه غد يكبله حاضر بين رجليه كلّسته حماقة قابيل.‏

    لا يذكر أنه اقتطع زاوية لظله من مساحة تلك التي تدعي أنها مدينته، ولا أنفذ لجسده فيها فهو لم يدخلها إلا عابراً.‏

    ولكن وقع أن رهن فيها وجهه لاستعادة حنين لا يدري كيف ربا له فيها، وصارت هي فاقدة الوجه والدفء. فتحت عليه نافذة همجيها ليسمعه شتيمته ويلوح له بخنجر على رقبته. تصور قطعة من تلك الساحقة، ولم يجد رداً. لتقبعن في قوقعة القنوط. جادله زمنه العقيم، أو هكذا أفتاه. فلوّك مجداً مفقوداً وحرداً مخروقاً، ولكن ابتسم عليه بيأس القرون.‏

    أطل من شرفة خوفه على قلب المدينة فتخطفته الفتنة. كان عبد الله سلم معتذراً: توحشتك. هازاً إياه من كتفيه، وفي عينيه لعينيه عتاب هابيل. لم يقو على أن يقرب إليه معنى الخوف بمنطق هذا الموت البيولوجي، وهو لا يحب ولا يفرح ولا يختار.‏

    تمسك باعتذاره فانسحب عنه بحزن المودع. هل حام الغراب أم نعق أم قد من لحم فريسة الضحية؟‏

    غاب قلبه وسط تيار الحقد، ولم يلتفت إليه عبد اللّه.‏

    حظرت المدينة على نفسها السعي اختياراً لتفسح إلى سمعه دوي الطلقات، يسمع لها في غده أخباراً عن موت وجراح وإيقاف واختطاف، فيؤول ويحصي ويحوصل ويقرأ الجرائد، يصدقها متعجباً أو يكذبها مستنكراً ويسمع الأنباء ويشاهد صورها وينتظر غدا لا تستوثقه عليه ليلته، ويناديه خاطر: أرجفت؟‏

    فيصرخ بكظم: قابيل يصير عنده عدما يوم بلا قتل.‏

    يحس عبد الله في ظهره ولا يلتفت كيلا يرى فيضان نبع دمه. ثكلى تطعم ثديها رصاصات، وأرملة تحفر وجهها بخنجر، ويتيم يبحث بأصابعه عن دمعة في عينيه شربتها شظية تفجير.‏

    في الشارع، في المقهى، مسافراً مرتحلاً في بيت، صحبة أهل، في حضن صديقة، في فاصل غيبوبة، في وحدة والتحام، ينساق أصم أخرس، بلا كنه، ولا شيء غير زخم من توقع نهشة الساحقة، فيستزيد خندق الحماقة يد الحقد تلوا من الضحايا. بلا يدين يسبح في النزيف، لعله فيض نبع القلب، وكل القلوب المغدورة. ينظر إلى السماء يدور تحتها أو تدور حوله، ولكن في الحالين ضائقة عن أن تقبل مزيد القربان.‏

    يخيل إليه ندم عبد الله أن سحق ذبابة بين إصبعي اليد أوجع من حز رقبة رجل، وكسر زجاجة على صخرة أدعى إلى الفزع من هرشمة رأس امرأة ومن تمزيق جثة على قارعة طريق.‏

    غابة منسية يدخلها برشاش وخنجر بحثاً عن خوفه ثأراً منه لذاته المقهورة به زمناً للخطية والفضيحة

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الخــــــوف الحبيب السائح

    تعليقات الزوار ()