بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:22:29 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1569 0


    اطلقوا النار على الكلمات

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الحميد بن هدوقة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لست أدري أكان ذلك في حلم، أو في كابوس، أم في يقظة خاصة، من هذه اليقظات القليلة التي تحدد مصائر الأمور؟‏

    كل ما أدريه أن تلك المدينة كانت في مكان لا أعرفه، وفي زمان يختلف عن أزمنة الناس العادية، التي تقاس بالساعات والأيام والشهور... بحيث لا يمكن لأحد أن يقول مثلاً: " وقع ذلك في يوم كذا، في شهر كذا، في سنة كذا..."!‏

    إنما كان ذلك في زمان انمحت فيه الفوارق بين ليله ونهاره، بين ساعاته وأيامه!‏

    كان أبداً في لحظة، ولحظة في أبد!‏

    لقد سمع الناس - كما حكى الشاعر - صوتاً يعرفونه ولا يرونه! له اسم وحقيقة، لكن ليس مجسماً في شخص معيّن، يقول للشاعر:‏

    " هذه السطور ممنوع نشرها "‏

    " هذه ممنوع أن تكتب"‏

    " هذه ممنوع التفكير فيها " !‏

    "......................................(رقابة ذاتية) "رد الشاعر :‏

    " البلد مشوّه، جدرانه، شوارعه، حقوله، رماله، آثاره القديمة، مشارعه الجديدة، إنسانه، ثقافته ..... مشوّه، مشوّه، مشوّه" !‏

    " لابد من فعل شيء. أيدي البشر متساوية هنا وهناك. لا توجد يد بأربعة أصابع، وأخرى بستة، خمسة أصابع لليد هنا، خمسة أصابع لليد هناك"‏

    " العيون أيضاً متماثلة لدى الناس، عينان للإنسان هنا، وعينان للإنسان هناك، القبيح قبيح في كل مكان، الجميل جميل في كل مكان، العالم أصبح صغيراً، حواجزه اليوم شفافة، زجاجية، تحول بين البلد والآخر، لكن لا تمنع الرؤية .."‏

    " هنا كل شيء مختل، أيد تعمل وأخرى تكنز! بطون تزداد اكتظاظاً وأخرى تزداد طوى!"‏

    " لابد من فعل شيء، لابد أن يمشي كل إنسان برجليه، أن ينظر كل واحد بعينيه، أن يفكر كل رجل برأسه، أن يتحدث بلسانه، ثم لابد أن يأكل بيديه"!‏

    نقلت الحاشية إلى الباش شاويش نبطجي ماقال الشاعر!‏

    ونقل الباش شاويش نبطجي إلى الحاكم برأيه ماقال الشاعر!‏

    لسان الشاعر كان أقوى من قلم الرقيب! صار الناس يقرؤون كلمات الشاعر مكتوبة، ومشطّبة، وصامتة!‏

    دعا الحاكم برايه الباش عسكرجي والباش شرطنجي، والباش شاويش نبطجي إلى اجتماع عاجل وتكلم :‏

    " لابد من وضع برنامج عاجل للرد على كل شاعر، وكل حائر، وكل مغامر!"‏

    قال الباش شاويش نبطجي :‏

    " نأمر وزير الفنون الجميلة بتكليف الفنانين والرسامين الكبار في وزارته، برسم جداريات، تقام في الحدائق والساحات العمومية، في زوايا الشوارع الرئيسية، في المحطات البرية والبحرية والجوية، يراها كل عابر ومكابر، تمحو الصوّر المشوّهة، تحل محلها، تمتع، تقدم للنظر صوّر مجتمع متطوّر مزدهر‍.‏

    وبذلك يسقط كلام كل شاعر‍‍‍!‏

    "ونأمر وزير الصناعات والبناءات بتكليف المهندسين والصناع الماهرين ببناء أبراج بلورية، ترى من مسافات وفضاءات بعيدة! بالنهار تعكس الأشعة بألوان قزحية، وبالليل تجهز بإنارة تجعل الليالي أحلاماً سماوية! تمتع وتشبع!‏

    وبذلك تنمحي مطالب الجائعين، واقوال المتبجحين من الشعراء الضالين! "‏

    " ونأمر وزير الفلاحة يتخذ قراراً بعرض أحسن غلال البلد مع الغلال المستوردة في واجهات على مر الفصول، لا تباع ولا تشترى! تشبع النظر، وتنسى في الحيف والقهر، وبذلك نقضي على ألسنة الشر!"‏

    " ونأمر وزير الرقابة، بمنع الكتابة، بمنع التفكير والشعر، بمنع كل لحن لا ينسجم مع أغاني القصر!"‏

    قال الباش شطرنجي:‏

    " المدينة مستديرة، وشرطنا بكل مداخلها ومخارجها خبيرة! تعرف أحلام النائمين وهلوسة السكر في رؤوس الشاربين! فلماذا لا نجمع الشعراء والشعر، ونرمي بالجميع عرض البحر!"‏

    ***‏

    الباش عسكرجي سكت!‏

    قال الحاكم برأيه :‏

    " نرفع الجلسة إلى زمن لاحق، قد تنطفئ وحدها هذه الحرائق!"‏

    القذارة لوّثت وجه المدينة، الشوارع، الساحات، اسوّدت بأنفاس العاطلين، والجائعين، والنشالين، والراكعين!‏

    الحاكم برأيه والباش عسكرجي والباش شرطنجي، والباش شاويش نبطجي، بنيت لهم دور وقصور خارج المدينة، بعيداً عن روائحها القذرة، لا تصلهم نداءات ولا عويل ولا ألم !‏

    واتخذت قرارات:‏

    - أن يرفع الباش شاويش نبطجي إلى الحاكم برأيه شائعات المدينة!‏

    - أن يقوم الباش شرطنجي بتسجيل كل أصوات المدينة، حتى وقع الأقدام، وتغريد الحمام!‏

    - أن يتبرع الحاكم برأيه على سكان المدينة كل سنة، بمناسبة عيد حكمه، بزجاجتين لكل ساكن، إحداهما عطر، والأخرى خمر!‏

    السكان يغلون غضباً وتعباً! المجاعة، البطالة، القذارة...‏

    لكن الباش شاويش نبطجي كان ينقل إلى الحاكم برأيه ما يسر، متحاشياً كل ماقد يعكرصفو راحته، أو يزعج طمأنينة حياته، كان ينقل له أن المدينة متعلقة بشخصه وعرشه وجيشه، وتدعو بدوام حكمه وحلمه!‏

    انتظر السكان خروج الحاكم برأيه من قصره، في عيد حكمه، ليعرضوا عليه حالهم لكن الحاكم برأيه كلف الباش شاويش نبطجي....‏

    انتظروا السنة المقبلة....‏

    لكن الحاكم برأيه في هذه المرة كلف الباش نبطجي!‏

    عاد السكان إلى المدينة، عقلاؤهم نصحوهم بالانتظار سنة أخرى...‏

    وأخرى...‏

    وأخرى...!‏

    وخرج الحاكم برأيه!‏

    تعالت النداءات : " خرج الحاكم برأيه! خرج الحاكم برأيه!"‏

    تقدم السكان في موكب رهيب، أمامهم شعراؤهم ينشدون أغاني العاطلين والجائعين...‏

    "يالغواية هؤلاء الضالين!" تقرّحت أذنا الحاكم برأيه من تلك الأصوات المبحوحة الجائعة!‏

    ونادى الباش عسكرجي!‏

    ....................................( رقابة ذاتية).‏

    عاد السكان إلى المدينة مغضبين خائبين!‏

    قال الشبان : نثور!‏

    قال الشيوخ : ننتظر!‏

    قال الشاعر : نتكلم! المدينة خنقتها القذارة والدعارة والمكر! أصبح الإنسان فيها مجموعة من الغرائز، والنزوات والحاجات!‏

    وتراقصت الكلمات حول الشاعر في موكب من نور، شموسه أقبلت من كل الآفاق الموردّة بدماء المحرومين والمضطهدين. أصواتهم محيط متلاطم من قيثارات العاطلين وعويل الجائعين!‏

    والتفت الشاعر إلى المدينة، يخاطب المدينة:‏

    " أيتها المدينة التي ترزح تحت وطأة القصور!‏

    " أيتها المدينة الضائعة، وراء الأنوار الخادعة!‏

    " أيتها المدينة التي طاول صبرها الأبد!‏

    " أيتها المدينة الشقية بركوعك لمعبوديك!‏

    " أفيقي أن الليل قد طال!‏

    " أيها السكان الجائعون العاطلون الخائفون، اخرجوا بصدور عارية!‏

    " املؤوا الشوارع صراخاً يزعزع القصور!‏

    " كل القصور!‏

    " أحلامكم أقوى من مدافع الطغاة!‏

    " أولئك عبيد الموت!‏

    " أنوار الحرية تعشى أبصارهم!‏

    " كلماتهم قديمة، ممجوجة، يعرفها كل الطغاة!‏

    " إنهاتشتد على غبائهم!‏

    " زمانهم انتحر!‏

    " أحلامهم سكر وعربدة، لم تخلف للبشرية سوى الصداع!‏

    " اخرجوا أيها الخائفون!‏

    " مزّقوا الليل!‏

    " إن النور في متناول أيديكم، فلم البقاء في الظلام..‏

    " الحرية لا تعلب وتقدم هدايا، إنها ميلاد دام مؤلم، لكنها ميلاد عظيم!‏

    " اخرجوا أيها الخائفون!‏

    " ليل العبودية تزيحه الصدور العارية، والأرجل الحافية!"‏

    خرجت جماهير الجائعين!‏

    وفي المساء نادت أصوات ملكوتية: " خرجت جماهير الجائعين!"‏

    خرجت جموع العاطلين!‏

    وفي السماء علت أصوات ملكوتية : "خرجت جموع العاطلين!"‏

    خرجت النسوة بوجوه عارية، ورؤوس عالية!‏

    وفي السماء دوّت ضحكات مرددة: " خرجت النساء بوجوه عارية، ورؤوس عالية!"‏

    خرج المحرومون والمظلومون والخائفون!‏

    امتلأت الشوارع والساحات!‏

    فلاش:‏

    أمام واجهة مجوهرات، لمست الفتاة أذنيها وهي ترى الأقراط، حملقت فيها، أخذت حجراً ورمت به الواجهة! تحطم الزجاج! سقطت الأقراط والمجوهرات! داستها الفتاة ورفستها والتحقت بالأخريات!‏

    فلاش:‏

    أمام سيارات فخمة ضخمة تساءل العامل :" لمن هي؟ لأصحاب معامل عطور، أو أصحاب وساطات وخمور؟ لايهم، صف الأغنياء والوسطاء واحد مهما اختلفت المهمات!" كومة من جرائد قرأها أصحابها ورموها، رفعها العامل، تأمل فيها : سواد على بياض !‏

    لا يعرف القراءة...‏

    أخرج من جيبه علبة ثقاب، أشعل الجرائد ورماها تحت سيارة!‏

    التهبت سيارة، وسيارة، وسيارة!‏

    علا الدخان في السماء ليعلم العاطلون والمحرومون أن مكاسب الظلام صارت دخاناً!‏

    فلاش:‏

    أمام مدرسة، رمى شاب زجاجة حارقة داخل المدرسة! أخفق في الامتحان، لم يكن من ذوي الشأن، طردته المدرسة!‏

    التهبت المدرسة مع الملفات، والتحق بصفوف المطرودين من المدارس، الضائعين، في سيل عارم، يدمر كل شي!‏

    والتقى السيل بالسيل، والويل بالويل! وعلت الهتافات والصراخات تعلن للدنيا أن المدينة ليست نائمة!‏

    خرج الباش عسكرجي في رزانة، والباش شرطنجي في ثقة، تعانقت الأيدي والنظرات، ونصبت البطاريات والرشاشات، في الساحات والباحات والمنتزهات! رفعت البنادق رؤوسها للسماء، تتحدى السماء! طوقت الدبابات" حزب الشعب" تحميه من الشعب! ضربت حصاراً حول " مكاسب الثورة" تحميها من الثورة! أعلن منع التجول والتسول والتقول : منذ اليوم الأول! أغلقت أبواب المدينة على المدينة! أسدل الستار، على النهار!‏

    ...................................... (رقابة ذاتية)‏

    هكذا هدأت المدينة! زال عنها هرجها ومرجها، صارت الأنهج ،التي كانت من قبل مكتظة، بلا مارة، بلا مشردين، بلا عاطلين، بلا أوساخ! لا باعة، لا زبائن، لا عمل، لاأمل! كل شيء سكن حيث هو!‏

    قال الباش عسكرجي للباش شرطنجي : "إن الحل هوالموت، كل المشاكل تنتهي بالموت! الميت لا يشكو،ولا يحتج! والموت حق، كأنا وأنت! أليس الموت العادل خيراً من الحياة الباطلة الزائلة؟ ماالفرق أن يموتوا اليوم، أو بعد سنين؟ الراحة في الموت الحاضر، أفضل من موت منتظر!"‏

    "....................................." (رقابة ذاتية).‏

    تحققت المساواة في لحظات! الموت عادل، لا يفرق بين كبير وصغير، بين عاطل أو فقير، بين عابد أو سكّير!‏

    في غمرة ذلك الموت الأكبر، خرج الشاعر! سددت إليه البطاريات والرشاشات!‏

    وصرخ قائد البندقيات :‏

    " أطلقوا النار على الكلمات!"!‏

    قتل الشاعر!‏

    لكن لم تقتل الكلمات!‏

    صوتها كان أقوى من كل الطلقات:‏

    " أيها الهاربون، بنيتم للشعوب قبوراً فمن يقيكم اليوم منها!‏

    " من ينقذكم من نقمة البطون الجائعة، والأحلام الضائعة؟‏

    " هل تحميكم أموالكم الطائلة، من الأيدي العاطلة!‏

    " إن الموت أمامكم، والشعب وراءكم!"!‏

    وهكذا .... هكذا تطهرت المدينة، أعيد إليها نقاؤها وبراءتها، أصبح سكانها أسياداً، دفنوا العار والليل، وهبوا جميعاً يستقبلون أفجاراً جديدة، بأحلام جديدة !‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()