بتـــــاريخ : 11/8/2008 1:25:31 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 3526 0


    جمع القرآن

    الناقل : heba | العمر :42 | الكاتب الأصلى : . د / عبد العظيم المطعني | المصدر : www.dar-alifta.org

    كلمات مفتاحية  :
    الدفاع الاسلام شبهات حول القرآن

    اتخذ المعترضون من وقائع جمع القرآن وليجة يتسللون من خلالها للنيل من القرآن ، وإيقاع التشكيك فى كونه وحيًا من عند الله عز وجل .   

    والواقع أن الذى ألجأهم إلى التسلل من هذه "  الوليجة  " -  وهى وقائع جمع القرآن -  أمران رئيسيان :
    الأول : محاولتهم نزع الثقة عن القرآن وخلخلة الإيمان به حتى لا يظل هو النص الإلهى الوحيد المصون من كل تغيير أو تبديل ، أو زيادة أو نقص .
    الثانى : تبرير ما لدى أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) من نقد وجه إلى الكتاب المقدس بكلا عهديه : القديم ( التوراة ) والجديد ( الأناجيل ) ليقطعوا الطريق على ناقدى الكتاب المقدس من المسلمين ، ومن غير المسلمين .
      ومواطن الشبهة عندهم فى وقائع جمع القرآن والمراحل التى مرَّ بها ، هى :
      أن القرآن لم يُدوَّن ولم يكتب فى مصحف أو مصاحف كما هو الشأن الآن ، إلا بعد وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - أما فى حياته ، فلم يكن مجموعاً فى مصحف . وأن جمعه مرًّ بعدة مراحل :
    الأولى : فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - وهو جمع ابتدائى غير موثق تمام التوثيق كما يزعمون ؟ .
    الثانية : فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وقد كان الجمع فى هذه المرحلة قابلاً لإدخال كثير من الإضافات التى افتقر إليها تدوين القرآن فيما بعد .  لأن القرآن لم يكن فيهما مضبوطًا مشكولاً .
    الثالثة : الإضافات التى أُلْحِقَتْ بالنص القرآنى وأبرزها :
    * نَقْط حروفه لتمييز بعضها من بعض ، مثل تمييز الخاء من الجيم والحاء ، وتمييز الجيم من الخاء والحاء ، وتمييز التاء بوضع نقطتين فوقها عن كل من الياء والباء والنون والثاء . 

    • ضبط كلماته بالضم والفتح والكسر والجزم ، مثل : " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين " وهذا أمر طارئ على جمع القرآن فى مرحلتيه السابقتين .  
    • علامات الوقف : مثل : ج -  صلى -  لا -  قلى -  م   
    •  وضع الدوائر المرقوم فيها أرقام الآيات فى كل سورة .
      إن كل هذه الإضافات لم تكن موجودة فى العصر النبوى ، بل ولا فى عهد الخلفاء الراشدين .

      يذكرون هذا كله ليصوروا أن الشبهة التى لوحظت فى جمع المصحف الحاوى للقرآن الكريم ، تزرع الشكوك والريوب ( جمع ريب )  فى وحدة القرآن واستقراره وسلامته من التحريف .  فعلام - إذن - يصر المسلمون على اتهام التوراة التى بيد اليهود الآن أنها لا تمثل حقيقة التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام  ؟  أو لماذا يطلقون هذا الوصف على مجموعة  "  الأناجيل  "  : التى بيد النصارى الآن  ؟
     

     

     
    الرد عليها
    أ. د / عبد العظيم المطعني

      إنًّ تأخير تدوين القرآن عن حياة النبى -  صلى الله عليه وسلم -  وجمعه فى مصحف فى خلافة أبى بكر -  رضى الله عنه - ، لامساس له مطلقًا بوحدة القرآن
    وصلة كل كلمة بالوحى الإلهى ؛ لأن القرآن - قبل جمعه فى مصاحف - كان محفوظًا كما أنزله الله على خاتم المرسلين .
      والعرب قبل الإسلام ، وفى صدر الإسلام المبكر كانوا ذوى ملكات فى الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة ، من قبلهم أو معاصرة لهم ، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه .
      وروعة نظم القرآن ، ونقاء ألفاظه ، وحلاوة جرسه ، وشرف معانيه ، هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون ، فوقع من أنفسهم موقع السحر فى شدة تأثيره على العقول والمشاعر ، فاشتد اهتمامهم به ، وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلى الإيمان به ، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحى الأمين ، يجمعون بين حفظه والعمل به .
      وكان النبى - صلى الله عليه وسلم -  كلما نزل عليه شىء من الوحى يأمر كُتًّاب الوحى بكتابته فورًا ، سماعًا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحى بين الناس .
      وقد ساعد على سهولة حفظه أمران  :
    الأول : نزوله ( مُنَجَّمًا ) أى مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة ؛ لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن فى الوحى إلى الرسل السابقين .
      والسبب فى نزول القرآن مُفَرَّقًا هو ارتباطه بتربية الأمة ، والترقى بها فى مجال التربية طورًا بعد طور ومعالجة ما كان يجدّ من مشكلات الحياة ، ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها إلى نهاية المطاف .
    الثانى : خصائص النظم القرآنى فى صفاء مفرداته ، وإحكام تراكيبه ، والإيقاع الصوتى لأدائه متلوًّا باللسان ، مسموعًا بالآذان ، وما يصاحب ذلك من إمتاع وإقناع ، كل ذلك أضفى على آيات القرآن خاصية الجذب إليه ، والميل الشديد إلى الإقبال عليه ، بحيث يجذب قارئه وسامعه واقعًا فى أسره غير ملولٍ من طول الصحبة معه .
       وتؤدى فواصل الآيات فى القرآن دورًا مُهِمًّا فى الإحساس بهذه الخصائص . ولنذكر لهذا " مثلاً " من سور القرآن الكريم  :
    بسم الله الرحمن الرحيم  ( والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحًا * فأثرن به نقعًا * فوسطن به جمعًا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بُعثر ما فى القبور * وحُصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير ) (1) .
      عدد آيات هذه السورة [  العاديات  ] إحدى عشرة آية ، وقد وزعت من حيث الفواصل ، وهى الكلمات الواقعة فى نهايات الآيات ، على أربعة محاور ، هى : الثلاث الآيات الأولى ، وكل فاصلة فيها تنتهى بحرف الحاء : ضبحا - قدحا - صبحا .
      والآيتان الرابعة والخامسة ، كل فاصلة فيهما انتهت بحرف العين : نقعا - جَمْعا .
      والآيات السادسة والسابعة والثامنة ، انتهت فواصلها بحرف الدال : لكنود - لشهيد - لشديد .
      أما الآيات التاسعة ، والعاشرة ، والحادية عشرة ، فقد انتهت فواصلها بحرف الراء :  القبور-  الصدور - لخبير .
      مع ملاحظة أن حروف الفواصل فى هذه السورة -  ماعدا الآيات الثلاث الأولى -  مسبوقة بحرف " مد " هو " الواو " فى : " لكنود " - و " الياء " فى : " لشهيد لشديد " .
      ثم " الواو " فى  : " القبور -  الصدور -  ثم " الياء " فى  :  " لخبير "  وحروف المد تساعد على  " تطرية "  الصوت وحلاوته فى السمع .
    لذلك صاحبت حروف المد كلمات " الفواصل " فى القرآن كله تقريبًا ، وأضفت عليها طابعًا غنائيّا من طراز فريد (2) جذب الإسماع ، وحرك المشاعر للإقبال على القرآن بشدة أسره إياهم عن طريق السماع ، ليكون ذلك وسيلة للإقبال على فقه معانيه ، ثم الإيمان به .
      ومن سمات سهولة الحفظ فى هذه السورة أمران :
      أنها سورة قصيرة ، حيث لم تتجاوز آياتها إحدى عشرة آية .
      قصر آياتها ، فمنها ما تألف من كلمتين ، وهى الآيات الثلاث الأولى  .  ومنها ما تألف من ثلاث كلمات ، وهى الآيتان الرابعة والخامسة .  ومنها ما تألف من أربع كلمات ، وهى الآيات  :  السادسة والسابعة والثامنة .  وآيتان فحسب كلماتها خمس  ،  وهما العاشرة والحادية عشرة  .  وآية واحدة كلماتها سبع ، هى الآية التاسعة .
      ونظام " عقد المعانى " فى السورة رائع كروعة نظمها .  فالآيات الثلاث الأُوَل قَسَمٌ جليل بِخَيْلِ المجاهدين فى سبيل الله .
      والآيتان الرابعة والخامسة استطراد مكمل لمعانى المقسم به ، شدة إغارتها التى تثير غبار الأرض ، وسرعة عَدْوِِهَا ومفاجأتها العدوّ فى الإغارة عليه .
      ثم يأتى المقسم عليه فى الآية السادسة  : " إن الإنسان لربه لكنود "  : عاص لله ، كفور بإنعامه عليه .
      وفى الآية السابعة إلماح إلى علم الإنسان بأنه عاق لربه ، شهيد على كفرانه نعمته .
      وفى الآية الثامنة تقبيح لمعصية الإنسان لربه ، وإيثار حطام الدنيا على شكر المنعم .
      أما الآيات الثلاث الأخيرة من (9) إلى (11) فهى إنذار للإنسان الكفور بنعم ربه إليه .
      وهذه السمات ، ليست وقفًا كلها على سورة " والعاديات " بل هى مع غيرها ، سمات عامة للقرآن كله ، وبهذا صار القرآن سهل الحفظ لمن حاوله وصدق فى طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه (3) .
      إن الحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها ، هى السماع .  وهكذا وصل إلينا القرآن ، من بداية نزوله إلى نهايته .
      وأول سماع فى حفظ القرآن كان من جبريل عليه السلام الذى وصفه الله بالأمين .
      وأول سامع كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سمع القرآن كله مرات من جبريل .
    وثانى مُسَمِّع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن من جبريل .
    أما ثانى سامع للقرآن فهم كُتَّابُ الوحى ، سمعوه من النبى عليه الصلاة والسلام فور سماعه القرآن من جبريل ؛ لأنه كان إذا نزل الوحى ، وفرغ من تلقى ما أنزله الله إليه دعا كُتَّابَ الوحى فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور .
      ثم يشيع عن طريق السماع لا الكتابة ما نزل من القرآن بين المؤمنين ، إما من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو من أفواه كتاب الوحى .
      وقد يسَّر الله تعالى لحفظ القرآن واستمرار حفظه كما أنزله لله ، أوثق الطرق وأعلاها قدرًا فكان - صلى الله عليه وسلم -  يقرؤه على جبريل فى كل عام مرة فى شهر رمضان المعظم  .  ثم فى العام الذى لقى فيه ربه تَمَّ عرض القرآن تلاوة على جبريل مرتين  .  زيادة فى التثبت والتوثيق .
      وفى هذه الفترة  ( فترة حياة النبى )  لم يكن للقراء مرجع سوى المحفوظ فى صدر النبى عليه الصلاة والسلام ، وهو الأصل الذى يُرجع إليه عند التنازع ، أما ما كان مكتوبًا فى الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس ، مع صحته وصوابه .
      وكذلك فى عهدى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كان الاعتماد على الحفظ فى الصدور هو المعول عليه دون الكتابة ؛ لأنها كانت مفرقة ، ولم تكن مجموعة .
      وكانت حظوظ الصحابة ، من حفظ القرآن متفاوتة ، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير ، ومنهم من يحفظ القدر الكثير ، ومنهم من يحفظ القرآن كله .  وهم جمع كثيرون مات منهم فى موقعة اليمامة فى خلافة أبى بكر سبعون حافظًا للقرآن ، وكانوا يسمون حفظة القرآن بــ " القُرَّاء " .
      ولا يقدح فى ذلك أن بعض الروايات تذهب إلى أن الذين حفظوا القرآن كله من الصحابة كانوا أربعة أو سبعة ، وقد وردت بعض هذه الروايات فى صحيحى البخارى ومسلم لأن ما ورد فيهما له توجيه خاص ، هو أنهم حفظوا القرآن كله وعرضوا حفظهم على رسول الله تلاوة عليه فأقرهم على حفظهم ، وليس معناه أنهم هم الوحيدون الذين حفظوا القرآن من الصحابة (4) .

    أول جمع للقرآن الكريم

      لم يجمع القرآن فى مصحف فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولا فى صدر خلافة أبى بكر -  رضى الله عنه - ، وكان حفظه كما أنزل الله فى الصدور هو المتبع .
      وفى هذه الأثناء كان القرآن مكتوبًا فى رقاع متفرقًا .  هذه الرقاع وغيرها التى كتب فيها القرآن إملاء من فم النبى  -  صلى الله عليه وسلم - ، ظلت كما هى لم يطرأ عليها أى تغيير من أى نوع .
      ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى مصحف واحد فى منتصف خلافة أبى بكر باقتراح من عمر - رضى الله عنهما -  .
      وبعد وفاة أبى بكر تسلم المصحف عمر بن الخطاب ، وبعد وفاته ظل المصحف فى حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة -  رضى الله عنها -  (5) .
      وفى هذه الفترة كان حفظ القرآن فى الصدور هو المتبع كذلك .
    وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة بعد انتقال النبى عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، التابعون من الطبقة الأولى ، وكانت علاقتهم بكتاب الله هى الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة ، وحفظًا للقرآن كله ، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعى الكبير الحسن البصرى  -  رضى الله عنه  -  وآخرون .
    كان هذا أول جمع للقرآن ، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله  - صلي الله عليه وسلم - ، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها ، ولا معنى لهذا الجمع إلا ما ذكرناه ، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف .  والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ .
      ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع فى هذه المرحلة لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية ، التى تم تدوينها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين  .

    مرحلة الجمع الثانية (6)

      كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان  -  رضى الله عنه - وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة  .  والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات ، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى ، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة .
      وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان ، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة  .  فنهض  - رضى الله عنه - للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة ، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار  ( زيد بن ثابت )  وثلاثة من قريش  :  عبد الله بن الزبير ، سعد بن أبى وقاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام  .  وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان - رضى الله عنه  -  لهذه المهمة الجليلة ؛ لأنه -  أى زيد بن ثابت -  قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى  :
    -  كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية .
    -  كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله .
    -  كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام .
    -  كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر -  رضى الله عنه -  .

    منهج الجمع فى هذه المرحلة

      وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران  :
    الأول :  المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه -  ، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه -  صلى الله عليه وسلم - سماعًا مباشرًا منه .
      فكان لا يُقبل شىء فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام .
    الثانى : أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأقل .  فلا يكفى حفظ الرجل الواحد ، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر ، بل لابد من الأمرين معًا  :

    •  وجودها فى مصحف أبى بكر . 
    • ثم سماعها من حافظين ، أى شاهدين ، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى ، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة ، وذلك لأن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -  جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين .

      قام هذا الفريق ، وفق هذا المنهج المحكم ، بنسخ القرآن  ، لأول مرة ، فى مصحف واحد ، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -  ولم يعارض عثمان منهم أحدُ ، حتى عبد الله بن مسعود ، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه ، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان -  رضى الله عنه - ، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول ، فى جميع الأقطار والعصور  .   ونسخ من مصحف عثمان ، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف ، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام ، مثل الكوفة والحجاز ، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان -  رضى الله عنه - ، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد - المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام ، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود - وأمر بحرقها أو استبعادها ؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة ، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها .

    الفرق بين الجمعين

      من نافلة القول ، أن نعيد ما سبق ذكره ، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان - رضى الله عنهما - كان واحدًا ، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى - صلى الله عليه وسلم - إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى ، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات ، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين .
      وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات ، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها .  فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع .
      ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد ، مانع لها من التفرق مرة أخرى .
      أما الجمع فى خلافة عثمان -  رضى الله عنه - فكان نسخًا ونقلاً لما فى الوثائق الخطية ، التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه ، وجمعها فى مصحف واحد فى مكان واحد .  وإذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام ، كان الجمع فى خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق فى القصاصات فى دفتر واحد .
      أما الهدف من الجمع فى خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الآتية :

    • توحيد المصحف الجماعى واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل .  وقد تم ذلك على خير وجه . 
    •  القضاء على القراءات غير الصحيحة ، وجمع الناس على القراءات الصحيحة ، التى قرأ بها النبى عليه الصلاة والسلام فى العرضة الأخيرة على جبريل فى العام الذى توفى فيه . 
    •  حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها  .  والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين .

      وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعًا من حُفَّاظ مجودين متقنين ، ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف ؛ لإن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء ، فالسماع هو الأصل فى تلقى القرآن وحفظه .  لأن اللسان يحكى ما تسمعه الأذن ، لذلك نزل القرآن ملفوظًا ليسمع ولم ينزل مطبوعًا ليُقرأ .
      فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين :
    الوجه الأول : جمع أبى بكر -  رضى الله عنه -  كان تنسيقًا للوثائق الخطية التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سورًا وآيات .
      وجمع عثمان - رضى الله عنه - كان نقلاً جديدًا لما هو مسطور فى الوثائق الخطية فى كتاب جديد ، أطلق عليه " المصحف الإمام " .
      أما الوجه الثانى : فهو من حيث الهدف من الجمع وهو فى جمع أبى بكر كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة فى نسق واحد مضمومًا بعضها إلى بعض ، منسقة فيه السور والآيات كما هى فى الوثائق ، لتكون مرجعًا حافظًا لآيات الذكر الحكيم .
      وهو فى جمع عثمان ، جمع الأمة على القراءات الصحيحة التى قرأها النبى - صلى الله عليه وسلم - فى العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام .
    أما المتون ( النصوص ) التى نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى ، التى حررت بها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام .
      فالجمعان البكرى والعثمانى لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أى تعديل أو تغيير أو تبديل ، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه فى المصاحف ، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصور حتى الآن وإلى يوم الدين .
    فذلكة سريعة :
      العرض الذى قدمناه لتدوين القرآن يظهر من خلاله الحقائق الآتية :

    • إن تدوين متون القرآن ( نصوصه ) تم منذ فجر أول سورة نزلت بل أول آية من القرآن ، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه عليه الصلاة والسلام على كاتب الوحى فدونه سماعًا منه لتوه ، ولم يلق عليه الصلاة والسلام ربه إلا والقرآن كله مدون فى الرقاع وما أشبهها من وسائل التسجيل .  وهذا هو الجمع الأول للقرآن وإن لم يذكر فى كتب المصنفين إلا نادرًا . 
    • إن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذى قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد ، حتى عصرنا الحالى .
    • إن الفترة النبوية التى سبقت جمع القرآن فى خلافة أبى بكر-  رضى الله عنه -  ، لم تكن فترة إهمال للقرآن ، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح ، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن (7) .  اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتى الأهمية :
      الأولي : السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته .
      الثانية  :  الحفظ المتقن فى الصدور .
        والسماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز .
      وسيظلان هكذا إلى يوم الدين .
    • إن القرآن منذ أول آية نزلت منه ، حتى اكتمل وحيه لم تمر عليه لحظة وهو غائب عن المسلمين ، أو المسلمون غائبون عنه ، بل كان ملازمًا لهم ملازمة الروح للجسد .

      إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح ، ومعروف كل المعرفة ، لم تمر عليه فترات غموض ، أو فترات اضطراب ، كما هو الشأن فى عهدى الكتاب المقدس (8) التوراة والإنجيل .  وما خضعا له من أوضاع لا يمكن قياسها على تاريخ القرآن ، فليس لخصوم القرآن أى سبب معقول أو مقبول فى اتخاذهم مراحل جمع القرآن منافذ للطعن فيه ، أو مبررًا يبررون به ما اعترى كتابهم المقدس من آفات تاريخية ، وغموض شديد الإعتام صاحب وما يزال يصاحب ،  واقعيات التوراة والأناجيل نشأة ، وتدوينًا ، واختلافًا واسع المدى ، فى الجوهر والأعراض التى قامت به .
      وقد بقى علينا من عناصر شبهاتهم حول جمع القرآن ومراحله ما سبقت الإشارة إليه من قبل ، وهى : النقط والضبط وعلامات الوقف .
      المراد بالنَّقْط هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء .
      أما الضبط فهو وضع الحركات الأربع : الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة . حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف .
      أما علامات الوقف فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها .  وهذه الأنواع الثلاثة يُلحظ فيها ملحظان عامَّان :
     الأول : أنها لا تمس جسم الكلمة من قريب أو من بعيد ولا تغير من هيكل الرسم العثمانى للكلمات ، بل هى زيادة إضافية خارجة عن " متون " ( أصول ) الكلمات .
    الثانى : أنها -  كلها - أدوات أو علامات اجتلبت لخدمة النص القرآنى ، ولتلاوته صوتيّا تلاوة متقنة أو بعبارة أخرى :
      هى وسائل إيضاح اصطلاحية متفق عليها تعين قارئ القرآن على أدائه أداء صوتيّا محكمًا ، وليست هى من عناصر التنزيل ، ولو جرد المصحف منها ما نقص كلام الله شيئًا .  وقد كان كتاب الله قبل إدخال هذه العلامات هو هو كتاب الله ، إذن فليست هى تغييرًا أو تبديلاً أو تحريفًا أدخل على كتاب الله فأضاع معالمه ، كما يزعم خصوم القرآن الموتورون .
      فالنقط أضيفت إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء ، والباء والتاء والثاء والنون ، والسين والشين ، والطاء والظاء ، والفاء والقاف ، والعين والغين ، والصاد والضاد .
      وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها ، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه العلامات ، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضّا طريّا كما أنزله الله على خاتم رسله ، أمَّا غير الحفاظ ممن لا يستغنون عن النظر فى المصحف فهذه العلامات النقطية والضبطية والوقفية ترشدهم إلى التلاوة المثلى ، وتقدم لهم خدمات جليلة فى النظر فى المصحف ؛ لأنها -  كما قلنا من قبل  - وسائل إيضاح لقراء المصحف الشريف .
      فمثلاً نقط الحروف وقاية من الوقوع فى أخطاء لا حصر لها ، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى : ( كمثل جنة بربوة ) (9) .
      لو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ فى أخطاء كثيرة ؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات ، مثل : حَبَّة -حية - حِنَّة -  خبَّة - جُنة - حِتة - خيَّة - جيَّة - حبه - جبَّة .
      ولكن لما نقطت حروفها ، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا ، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة .
      وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى ، ونصر بن عاصم الليثى ، ويحيى بن يَعْمُر ، والخليل ابن أحمد ، وكلهم من كبار التابعين (10) .
    والخلاصة : أن نقط حروف الكلمات القرآنية ، وضبط كلمات آياته ليس من التنزيل ، وأنه حدث فى عصر كبار التابعين ، وإلحاق ذلك بالمصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن .
      وهو من البدع الحسنة وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز ، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة ، وهو من المصالح المرسلة ، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها .
    وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها ، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها .
      وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة .  أما علامات الوقف فلها أدوار إيجابية فى إرشاد قراء القرآن وتوجيههم إلى كيفية التعامل مع الجمل والتراكيب القرآنية حين تُتلى فى صلاة أو فى غير صلاة .
      والواقع أن كل هذه المضافات إلى رسم كلمات المصحف فوق أنها -  والله سبحانه وتعالى أعلم  - وسائل إيضاح كما تقدم ، اجتلبت من أجل خدمة النص القرآنى ، تؤدى فى الوقت نفسه خدمة جليلة لمعانى المفردات والتراكيب القرآنية .  وقد أشرنا من قبل إلى مهمات النقط فوق أو تحت الحروف ، وعلامات الضبط الأربع : الفتحة والضمة والكسرة والسكون ، فوق أو تحت رسم الكلمات .
      ونسوق - الآن - تمثيلاً سريعًا للمهام الجليلة التى تؤديها علامات الوقف ، التى توضع فوق نهايات الكلمات التى يُوْقَفُ عليها أو لا يُوقف :   قوله تعالى : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير ) (11) .
      نرى العلامة ( صلى ) فوق حرف الواو فى كلمة " هو " وهى ترمز إلى أن الوقف على هذه الكلمة " هو " جائز ووصلها بما بعدها وهو " وإن يمسسك " جائز كذلك إلا أن الوصل ، وهو هنا تلاوة الآية كلها دفعة واحدة بلا توقف ، أولى من الوقف .
      والسبب فى جواز الوقف والوصل هنا أن كلاً من الكلامين معناه تام يحسن السكوت عليه ، وكذلك يحسن وصله بما بعده لأنهما كلامان بينهما تناسب وثيق ، ومن حيث البناء التركيبى ، هما شرط " إنْ " ، وفِعْلا الشرط فيهما فعل مضارع ، وهما فعل واحد تكرر فى شرطى الكلامين " يمسسك " والفاعل هو " الله " فيهما .  الأول اسم ظاهر ، والثانى ضمير عائد عليه ، أما كون الوصل أولى من الوقف ، فلأن التناسب بين الكلامين أقوى من التباين لفظًا ومعنى ، مع ملاحظة أن جواز الوقف يتيح لقارئ القرآن نفحة من راحة الصمت ، ثم يبدأ رحلة التلاوة بعدها وقوله تعالى  : ( قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل  فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا )(12) .
      علامة الوقف  ( قلى ) موضوعة فوق اللام الثانية من كلمة "قليل" وترمز إلى جواز الوصل والوقف على كلمة " قليل " وأن الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها ، وفى الوقف راحة لنفس القارئ كما تقدم .
      وجواز الوقف لتمام المعنى فى الجزء الأول من الآية .
      وجواز الوصل ، فلأن الجزء الثانى من الكلام مفرع ومرتب على الجزء الأول (13) .
      أما كون الوقف على كلمة " قليل " أولى فى هذه الآية فلأن ما قبلها جملتان خبريتان ، وهما واقعتان مقول القول لقوله تعالى  :  ( قل ربى  . . ) .
      أما جملة  "  فلا تمار فيهم  " فهى جملة إنشائية (14) فيها نهى عن الجدال فى شأن أهل الكهف كم كان عددهم والكلام الإنشائى مباين للكلام الخبرى .
    إذن فالكلامان غير متجانسين  . هذه واحدة  .
      أما الثانية فإن  "  فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا  "  ، غير داخل فى مقول القول الذى أشرنا إليه قبلاً  .
      وهذان الملحظان أحدثا تباعدًا ما بين الكلامين لذلك كان الوقف أولى ، إلماحًا إلى ذلك التباين بين الكلامين  .  والوقف هو القطع بين كلامين بالسكوت لحظة بين نهاية الكلام الأول ،  وبداية الكلام الثانى ، وله شأن عظيم فى تلاوة القرآن الكريم ، من حيث الألفاظ ( الأداء الصوتى ) ومن حيث تذوق المعانى وخدمتها ، وقوله تعالى  : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذلك من آيات الله ) (15) .
      علامة الوقف  (ج)  موضوعة فوق " الهاء " نهاية كلمة " منه " وترمز إلى جواز الوقف على " منه " وعلى جواز وصله بما بعده  " ذلك من آيات الله "  وهذا الجواز مستوى الطرفين ، لا يترجح فيه الوقف على الوصل، ولا الوصل على الوقف  .  وهذا راجع إلى المعنى المدلول عليه بجزئى الكلام ، جزء ما بعد " منه " وجزء ما قبله .
      وذلك لأن ما قبل " منه " كلام خبرى لا إنشائى وكذلك ما بعدها " ذلك من آيات الله  . .  "  فهما إذن متجانسان  .
      والوقف مناسب جدّا لطول الكلام قبل كلمة  " منه "  وفى الوقف راحة للنفس ، والراحة تساعد على إتقان التلاوة  .
      والوصل مناسب جدّا من حيث المعنى ؛ لأن قوله تعالى  :  "  ذلك من آيات الله  "  تركيب واقع موقع  "  الخبر "  عما ذكره الله عز وجل من أوضاع أهل الكهف فى طلوع الشمس وغروبها عنهم  .
      وقوله تعالى : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة  . . ) (16)  .
      علامة الوقف (لا) موضوعة على " النون " نهاية كلمة "طيبين" ترمز إلى أن الوقف على " طيبين " ممنوع  .
      والسبب فى هذا المنع أن جملة " يقولون " وهى التالية لكلمة "طيبين" حال من " الملائكة " وهم فاعل " تتوفاهم " .
      أما " طيبين " فهى حال من الضمير المنصوب على المفعولية للفعل " تتوفاهم " وهو ضمير الجماعة الغائبين " هم " ولو جاز الوقف على " طيبين " لحدث فاصل زمنى بين جملة الحال " يقولون " وبين صاحب الحال " الملائكة " ولم تدع إلى هذا الفعل ضرورة بيانية  .
      لذلك كان الوقف على " طيبين " ممنوعًا لئلا يؤدى إلى قطع "الحال" وهو وصف ، عن صاحبه " الملائكة " وهو الموصوف  .  وهذا لا يجوز بلاغة  ؛  فمنع الوقف -  هنا  -  كان سببه الوفاء بحق المعنى ، ومجىء الحال -  هنا -  جملة فعلية فعلها مضارع يفيد وقوع الحدث بالحال والاستقبال مراعاة لمقتضى الحال ؛ لأن الملائكة تقول هذا الكلام لمن تتوفاهم من الصالحين فى كل وقت لأن الموت لم ولن يتوقف .
      وقوله تعالى  :  ( إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا ) (17) .
      علامة الوقف (م) موضوعة على حرف الدال من كلمة " ولد " للدلالة على لزوم الوقف على هذه الكلمة " ولد " وامتناع وصلها بما بعدها وهو :  "  له ما فى السماوات وما فى الأرض  "  .
      وإنما كان الوقف ، هنا -  لازمًا لأن هذا الوقف سيترتب عليه صحة المعنى وليمتنع إيهام غير صحته أما وصله بما بعده فيترتب عليه إيهام فساد المعنى  .
      بيان ذلك أن الوصل لو حدث لأوهم أن قوله تعالى : "  له ما فى السماوات وما فى الأرض  "  وصف لــ  "  الولد  "  المنفى ، أى ليس لله ولد ، له ما فى السماوات والأرض ، وهذا لا يمنع أن يكون لله  - سبحانه - ولد ولكن ليس له ما فى السماوات والأرض  ؟ !  وهذا باطل قطعًا .
      أما عندما يقف القارئ على كلمة " ولد " ثم يستأنف التلاوة من  "  له ما فى السماوات وما فى الأرض  "  فيمتنع أن يكون هذا الوصف للولد المنفى ، ويتعين أن يكون لله عز وجل ، وهذا ناتج عن قطع التلاوة عند " ولد " أى بالفاصل الزمنى بين تلاوة ما قبل علامة الوقف " لا " وما بعدها حتى آخر الآية .
    فأنت ترى أن الوقف - هنا -  يؤدى خدمة جليلة للمعنى المراد من الآية الكريمة  .  ومثله قوله تعالى  : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون  ) (18) .
      علامة الوقف  (م)  موضوعة فوق الميم من كلمة  " هم "  للدلالة على لزوم الوقف عليها ، وامتناع وصلها بما بعدها ، وهو "  الذين خسروا أنفسهم " .
      وسر ذلك اللزوم ؛ أن الوصل يوهم معنى فاسدًا غير مراد ، لأنه سيترتب عليه أن يكون قوله تعالى  :  "  الذين خسروا أنفسهم  "  وصفًا لــ " أبناءهم  " وهذا غير مراد ، بل المراد ما هو أعم من " أبناءهم " وهم الذين خسروا أنفسهم فى كل زمان ومكان  .  فهو حكم عام فى الذين خسروا أنفسهم  ،  وليس خاصّا بأبناء الذين آتاهم الله الكتاب  .
      هذه هى علامات الوقف  ،  وتلك هى نماذج من المعانى الحكيمة التى تؤديها  ،  أو جاءت رامزة إليها  ،  وبقيت حقيقة مهمة  ،  لابد من الإشارة إليها  .
      إن خصوم القرآن يعتبرون علامات الوقف تعديلاً أُدْخِل على القرآن  ،  بعد عصر النزول وعصر الخلفاء الراشدين  .
      وهذا وهم كبير وقعوا فيه ، لأن هذه العلامات وغيرها ليست هى التى أوجدت المعانى التى أشرنا إلى نماذج منها ، فهذه المعانى التى يدل عليها الوقف سواء كان جائز الطرفين ، أو الوقف أولى من الوصل أو الوصل أولى من الوقف ، أو الوقف اللازم أو الوقف الممنوع  .  هذه المعانى من حقائق التنزيل وكانت ملحوظة منذ كان القرآن ينزل  ،  وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - يطبقونها فى تلاوتهم للقرآن ، قبل أن يُدوَّن القرآن فى " المصحف " هذا هو الحق الذى ينبغى أن يكون معروفًا للجميع ، أما وضع هذه العلامات فى عصر التابعين فجاءت عونًا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن ، دون أن تكون - بشكلها - جزءا من التنزيل (19) .
    تنسيق المصحف :
      نعنى بـ  :  تنسيق المصحف  "  الفواصل بين سوره بـ  :  "  بسم الله الرحمن الرحيم  "  وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات ،  ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود فى آيات القرآن ، ثم الألقاب التى أطلقت على مقادير محددة من الآيات مثل :
      الربع -  الحزب  - الجزء  .  لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة أُلْحِق بعضها بسطور المصحف ، وهو ترقيم الآيات وَوُضِع بعضها تحتها ، كعلامات السجود فى أثناء التلاوة .
      أما ماعدا هذين فهى إجراءات اعتبارية عقلية ، تدل عليها عبارات موضوعة خارج إطار أو سُور الآيات .
      وليس فى هذا مطعن لطاعن ؛ لأنَّا نقول -  كما قلنا فى نظائره من قبل -  إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقرَّاء القرآن الكريم توضع خارج كلمات الوحى لا فى متونها ، وتؤدى خدمة جليلة للنص المقدس مقروءاً أو متْلُوًّا .
      ولا يدعى مسلم أنها لها قداسة النص الإلهى ، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحى الأمين .
      والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين (20) فى تَصيُّد التهم للقرآن ، ينهجون هذا النهج " التنسيقى " فى أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة فى تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنية لكل ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث  .  ولهم مهارة فائقة فى هذا المجال ، ولم نر واحدًا منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه ، كما لم نر أحدًا منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفًا أو تغييرًا للنص الذى قام هو بتحقيقه وخدمته .
      بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق  .  وتيسيرات مهمة للقراء .
      وهذا هو الشأن فى عمل السلف - رضى الله عنهم -  فى تنسيق المصحف الشريف ، وهو تنسيق لا مساس له بــ  "  قدسية الآيات  "  لأنها وضعت فى المصحف على الصورة التى رُسِمَتْ بها بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    تاريخ القرآن (21)

      هذا هو تاريخ القرآن ، منذ نزلت أول سورة منه ، إلى آخر آية نزلت منه ، كان كتابًا محفوظا فى الصدور ، متلوًّا بالألسنة ، مسطورًا على الرقاع ، ثم مجموعًا فى مصاحف ، لم يخضع لعوامل محو وقرض ،  ولا آفات ضياع ، وضعته الأمة فى " أعينها " منذ نَزَلَ فلم يضل عنها أو يغب ، ولم تضل هى عنه أو تغب ، تعرف مصادره وموارده ، على مدى عمره الطويل ، تعرفه كما تعرف أبناءها ، بلا زيغ ولا اشتباه .
      هذا هو تاريخ القرآن ، وضعناه وضعًا موجزًا ، لكنه مُلِمٌّ بمعالم الرحلة ، كاشفًا عن أسرارها  .  وضعناه لنقول لخصوم القرآن والإسلام  :
      هل فى تاريخ القرآن ما يدعو إلى الارتياب فيه ، أو نزع الثقة عنه ؟
      وهل أصاب آياته المحكمة خلل أو اضطراب ؟
      وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمة ، أو الأمة غابت عنه لحظة ؟
      وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه ؟
    أو رأيتم فى آياته تغييرًا أو تبديلاً ؟
      تلك هى بضاعتنا عرضناها فى سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غش أو رداءة ، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء .
      هذا هو ما عندنا  . فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه (22) .

     

    الهوامش:
    ------------------------
    (1) العاديات : 1-11 .
    (2) سورة " والعاديات " من قصار السور التى قد بدأ بها الوحى فى مكة ، قبل الهجرة ، ويرى بعض الباحثين أن القرآن بدأ بهذه السور ذات الطبيعة الغنائية فى مكة ، لجذب أهل مكة إليه عن طريق السمع أولاً ، ثم لتدبر معانيه ثانيًا.
    (3) انظر تفسير سورة " والعاديات "  فى أى تفسير شئت من التفاسير المتداولة : الكشاف -  روح المعانى - التفسير الواضح للدكتور حجازى ، أو فى غيرها .
    (4) ينظر : البرهان فى علوم القرآن للإمام الزركشى (1 / 241 ) وما بعدها .
    (5) هو مصحف فرد لا متعدد ، فلم يكن متداولاً بين أيدى المسلمين ، لأن حفظ القرآن في الصدور كان هو المرجع .
    (6) انظر : جمع القرآن فى خلافة عثمان فى " البرهان فى علوم القرآن " و " الاتقان فى علوم القرآن والأول للإمام الزركشى ، والثانى للإمام جلال الدين السيوطى .
     (7) لأن القرآن لو كان جمع فى مصحف من أول الأمر ، لاتكل الناس على المصحف المكتوب ، وقل اهتمامهم بحفظه .
    (8) سيأتى حديث مفصل عما تعرض له الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد من أوضاع وآفات شديدة الخطورة .
    (9) البقرة : 265 .
    (10) المقنع لأبى عمرو الدانى 129 - تحقيق محمد الصادق قمحاوى .
    (11) الأنعام : 17 .
    (12) الكهف : 22 .
    (13) التفريع هو تولد كلام من كلام آخر ، وتأتى الفاء دليلاً على هذا التفريع كما فى الآية الكريمة .
    (14) الكلام كله قسمان : خبر ، وإنشاء ، فكل كلام أخبرت فيه غيرك بأمر قد حدث قل زمن التكلم أو بعده مثل : حضر فلان أمس ، أو سيحضر غداً هو كلام خبرى ، أما إذا طلبت شيئاً لم يكن حاصلاً فى زمن التكلم مثل : أطلع والديك فهو كلام إنشائى .
    (15) الكهف : 17 .
    (16) النحل :32  .
    (17) النساء : 171 .
    (18) الأنعام : 20 .
    (19) هى مثل علامات الإعراب كالفتحة والضمة والكسرة والسكون . لم تُوجد هى أحكام الإعراب ، وإنما هى مجرد رموز دالة عليها .
    (20) المبشرون هم الذين يريدون فتنة عامة الناس بما يكتبونه عن الإسلام ، وهم أساتذة المستشرقين . أما المستشرقون فيقصدون فتنة المثقفين والطبقات العليا ، ويصورون الإسلام فى غير صورته إلا قليلاً منهم تجدهم منصفين للإسلام .
    (21) نقصد بتاريخ القرآن رحلته عبر تاريخه المبكر ، إلى أن تم جمعه فى المصاحف ، وما لحق بهذا الجمع من رموز واصطلاحات لتيسير تلاوته مجوداً ، ولسهولة الإحاطة بما فيه من الألفاظ والمعانى .
    (22) اليهود يؤمنون بالعهد القديم وحده ، ويكفرون بالعهد الجديد ( الأناجيل ) أما النصارى فيعتبرون العهد القديم شطراً من الكتاب المقدس ، ويؤمنون بالعهدين معاً .

    كلمات مفتاحية  :
    الدفاع الاسلام شبهات حول القرآن

    تعليقات الزوار ()