بتـــــاريخ : 10/23/2008 7:53:57 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1888 0


    النموذج المعرفي الإسلامي وتجديد الخطاب الديني

    الناقل : heba | العمر :42 | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    ما هو النموذج المعرفي الإسلامي ؟ وما تأثيره في تجديد الخطاب الديني؟

    والجواب : 

        يبدو أننا في حاجة لصياغة النموذج المعرفي الذي يُكوِّن عقل المسلم بناء على عقيدته ورؤيته الكلية للإنسان والكون والحياة وما قبل ذلك وما بعده، ذلك النموذج الذي يمثل الإطار المرجعي والمعيار المعتمد في عقل المسلم ونفسيته وهو المكون الأساسي لشخصية المسلم والضابط لفكره.
        نريد أن نعيد صياغة ذلك النموذج حتى نجيب به على الأسئلة الكلية الكبرى في حياة الإنسان، ورؤيته لنفسه ولما حوله، وحتى نواجه به متطلبات العصر، وحتى يفهمنا الآخرون على أقل تقدير، إذا لم ينبهروا بهذا النموذج ويسعوا إلى اعتناقه والإيمان به وتبنيه. 
        والنموذج المعرفي هذا سنراه موجودًا في وجداننا، ومصادر بنائه في عقائدنا وأحكامنا، ولكن إعادة الصياغة ستمكننا من تفعيله ومن جعله أساسًا للحياة.
        والذي سنفعله مع القارئ الكريم هي رحلة في عقل المسلم نستكشف فيها أسس تفكيره ومميزات عقله ووجدانه، ونبين كيف أثر ذلك في الآداب والفنون والحياة، وكيف يمكن أن يؤثر مرة ثانية فيخرج المسلم من حزنه ويمارس عمارة الأرض مع الآخرين ليمنحهم ما هم في أشد الحاجة إليه.
    1- أجاب المسلم بموجب عقيدته على السؤال الكلي الأول: من أين نحن؟ وهو سؤال متعلق بالماضي، ولكنه نشأ من حيرة الإنسان وجهله الحسي بنشأته ومبتدئه، كالطفل الصغير يسأل من أين أتيت؟ إنه لا يتذكر يوم ولادته، ولم تكن عنده القدرة على ذلك، قال تعالى: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً}(1).
        فأجاب المسلم بناء على إيمانه أن الله خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وهو خالق كل شيء {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ}(2).
    2- والمسلم يؤمن بالتوحيد ليس فقط توحيد الإله، بل توحيد شمل كل شيء في بنائه العقائدي، فنبيه صلى الله عليه وسلم واحد؛ لأنه خاتم المرسلين قال تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }(3) وكتابه واحد؛ ولذلك حفظه من التحريف والتخريف وجعله واحدًا لا تعدد له، قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(4)، والأمة واحدة قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }(5)، والقبلة واحدة، قال عز وجل: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(6)، والرسالة واحدة عبر الزمان قال سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(7).
        والتوحيد بهذا المعنى الذي اشتمل على الأشياء والأشخاص وتعدى الزمان والمكان، لابد أن يؤثر في عقل المسلم المعاصر وأن يكون أساسًا لفهمه للحياة ولتعامله مع الأكوان؛ خاصة الإنسان.
    3- وهو يؤمن بأن الله لم يدع الخلق بلا تكليف، فهناك شرائع وكتب ووحي؛ قال سبحانه وتعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}(8) ولكنه جعل الإسلام هذا اسم الديانة التي يرضاها عبر التاريخ من لدن آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ }(9)، وقال سبحانه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}(10).
        وقضية التكليف تجيب - أو ينبغي أن تجيب - على السؤال الثاني؛ ماذا نفعل هنا؟ وأسس هذا التكليف ثلاثة، أولها: عبادة الله؛ تلك العبادة التي يجب أن تُنشئ إنسان العمارة والحضارة؛ قال سبحانه وتعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ } (11)، وثانيها: عمارة الأرض، وذلك بنشاط التعمير والامتناع عن نشاط التدمير؛ قال تعالى: { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(12)، أي طلب منكم عمارتها، وقال سبحانه: {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }(13)، وثالثها: تزكية النفس؛ قال عز من قائل: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }(14).
    4- ويؤمن أن هناك يومًا آخر للحساب - الثواب أو العقاب - قال سبحانه وتعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ }(15)، وهذا الإيمان يؤثر في سلوك المؤمن بالإحجام والإقدام، فتراه يقدم على الشيء الذي فيه مشقة أو فوات لذة إذا رأى أن ذلك يقربه من الجنة ويترتب عليه الثواب، وتراه يمتنع عن شيء فيه لذة ويحجم عنه؛ لأنه يراه يقربه من النار، وهذا مرتبط بقضية الإيمان بالله والإيمان بالتكليف، ويؤثر على الحياة، ويجب أن يؤثر عليها بصورة إيجابية وإلا تحول الخوف والرجاء أسبابًا لإعاقة الحياة، وفي الحقيقة أن الله شرعها لحماية الحياة، ولدفعها، فإذا كانت تصرفاتنا قد حولتها إلى عائق للحياة كان ذلك ضد مقصود الشرع الشريف.
        فالحج شُرع لحفظ النفس في كل صورها، فلا ينبغي أن نحوله إلى ما يدعو إلى قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، حيث يجب علينا أن ندرك الزمان وما حدث فيه، والمكان وسعته والأشخاص ومدى علمهم بدينهم والأحوال وما طرأ عليها من تغير، فنحقق مقصود الشرع منه.
        هذه الأسئلة الثلاثة الكبرى أنشأت مجموعة من المكونات العقلية التي أسست شخصية المسلم والتي نرجو أن يعود إليها المسلمون على وجهها التي أنزلها الله من أجله وأن يفهموا مراد الله من وحيه.
    5- ويؤمن المسلم بالمطلق لأنه آمن بأن الله لا نهائي ولا محدود، واللانهائي اللامحدود أتى من إيمانه بأسمائه وصفاته، فأسماء الله الحسنى التي وردت في القرآن والسنة تمثل الهيكل التربوي للمسلم؛ قال سبحانه وتعالى: { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾(16)، والأسماء التي وصف الله بها نفسه في كتابه أكثر من 150 اسمًا، وقد ورد في السنة أكثر من 160 اسمًا، ومجموعهما 220 اسمًا بعد حذف المكرر، وهذه الأسماء والصفات يمكن تقسيمها إلى صفات جمال: كالرحمن والرحيم والعفو والغفور، وصفات جلال: كالمنتقم والجبار، والشديد المحال، وصفات كمال: كالأول والآخر والظاهر والباطن، وكل ما يوصف به الله.
        والمؤمن يتخلق بصفات الجمال، ولا يتخلق بصفات الجلال بل يتعلق بها، فيعفو ويصفح، ويمسك نفسه عند الغضب؛ قال تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }(17)، وقال سبحانه: { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(18)، ومن هنا وصف الله الصبر على أمره الكوني أو أمره الشرعي بالصبر الجميل {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}(19)، { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً }(20)، { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً }(21)، والتخلق بالجمال والتعلق بالجلال والإيمان بالكمال من مكونات العقل المسلم.
    1- والمؤمن يرى أن الإنسان مكرم، وأنه ليس مجرد جزء من الكون قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } (22).
    فالإنسان كائن فريد في هذا الكون؛ لأنه متحمل للأمانة قال تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }(23).
        ويرى المؤمن أن الإنسان سيد في هذا الكون، وليس سيد له، فالسيد هو الله قال صلى الله عليه وسلم: «السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(24) ، فإن الكون يسبح { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }(25)، ويسجد كذلك لله سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ }(26)، ولكن المؤمن وهو يسير في عبادة الله يسير سير السيد، وليس سير الجمادات {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(27)، وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(28).
        ويعتقد المؤمن أن للزمان والمكان والأشخاص والأحوال حرمة يراعيها في تعامله معها، فتراه يقدس ليلة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ }(29)، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } (30)، ويقدس الكعبة {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }(31)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا»(32). ويقدس المصحف {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ }(33)، وينـزل النبـي صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً }(34)، وقـال تعالـى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }(35).
        ومن مجمل ذلك كله تتكون عقلية المسلم ونفسيته؛ لتكون شخصية متميزة ترى أن الدعوة عامة، وأن الله سبحانه وتعالى كما أرسل الرسل بالعهد القديم، والعهد الجديد، فقد ختمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل معه العهد الأخير، وجعل الله سبحانه وتعالى الأمة واحدة من لدن آدم إلى يومنا هذا، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }(36).
        وهذا النموذج المعرفي ينبغي أن يكون منطلقًا للتقويم، ومعيارًا لقبول ما هنالك من أفكار البشر وتوجهاتهم، ومبدأً لتجديد الخطاب الذي يتوافق مع إدراك الواقع بعوالمه المختلفة.

    النموذج المعرفي الإسلامي والسنن الإلهية :
    1- يُكوِّن عقلَ المسلم مجموعة من الإدراكات للسنن الإلهية يراها فيما حوله من الكون الفسيح حتى قال أبو العتاهية:
    وفي كل شيء له آية     تدل على أنه واحد
        ولقد تكلم القرآن عن هذه السنن الإلهية وبيَّنها، والتي تعد البيئة الخارجية للنشاط البشري، وتتحكم في المسلم عند نشاطه واختياراته ووضع برامجه وأهدافه، حتى إذا ما غابت هذه الإدراكات عن ذهن مسلم، فإنه يتخبط ويفقد المعيار السليم للقرار السليم، ويضع استراتيجيات أخرى غير التي أمر الله بها.
        ونذكر من تلك السنن ثلاثة كنماذج وأمثلة فحسب؛ لأنها تزيد عن خمسين سُنة لا يسع المقام لاستيعابها ، بل إن كل سنة منها تحتاج إلى حديث خاص عنها:
    (أ) سنة التكامل:
        خلق الله سبحانه وتعالى الأكوان مختلفة في ظاهرها، لكنها متحدة في الهدف والغاية، فهذا الخلاف والاختلاف إنما هو للتنوع وليس للتضاد، فالليل والنهار يشكلان يومًا واحدًا، لكل منهما خصائص، والذكر والأنثى لكل منهما خصائص ولكل منهما وظيفة، والحاكم والمحكوم لكل منهما وظيفة، والغني والفقير، وأغلب الثنائيات الخلقية أو القدرية، فالخلقية كالليل والنهار والذكر والأنثى، والقدرية كالحاكم والمحكوم والغني والفقير، سميناها قدرية لنفرقها عن الخلقية، وإن كان فيها سعي للإنسان واختيار وكسب، إلا أنها من فضل الله وقدره أيضًا.
        إن فهم سنة التكامل يجعل أصل الخلق عند المسلم هو التكامل وليس الصراع، ولذلك يفهم العلاقة بين الذكر والأنثى على أنها خلقت للتكامل، بخلاف التوجه الذي يدعو إلى أن الأصل هو الصراع، وأنه يجب على المرأة أن تصارع الرجل لتحصل على حقوقها، وأن المحكوم يجب أن يصارع الحاكم للحصول على حقوقه، وأن الإنسان يجب أن يصارع الكون حتى يحصل منه منفعته، على ما استقر في الفكر الإغريقي من فكرة صراع الآلهة وانتصار الإنسان في النهاية عليها.
        وفهم سنة التكامل لا ينفي حدوث الصراع أو إمكانية حدوثه ووقوعه، ولكن هناك فرق بين أن نجعله أصلاً للخلقة لا يمكن الفرار منه، وأن نجعله حالة عارضة يجب أن نسعى لإنهائها حتى تستقر الأمور على الوضع الأول الذي خلقه الله.
        هذا التكامل هو الذي يفرق عند فهمه بين المعنى الروحي للجهاد في سبيل الله والحرب التي تشن هنا وهناك لأجل المصالح والهيمنة والاستعلاء في الأرض والفساد فيها أيضًا.
        فانظر إلى قوله تعالى في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }(37)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } (38)، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(39)، وقال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }(40).
        فالجهاد في سبيل الله منه أصغر وأكبر، والصغر والكبر إنما يعود إلى الزمن الذي يستغرقه كل واحد منهما؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، ألا وهو جهاد النفس»(41)، وقال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }(42) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ }(43).
        فالجهاد بالقتال لا يستغرق إلا مدة المعركة وهي قليلة على كل حال، أما الذي يمتد العمر كله، ويعم الناس كلهم والأرض كلها فهو جهاد النفس.
        وجهاد القتال يجود فيه الإنسان بنفسه من أجل سعادة غيره ففيه معنى الفداء؛ فوصفه بالأصغر لا يقلل من علو شأنه وأهميته، ولكنه يشير إلى مدته، وأنه صراع عارض لأجل الرجوع إلى حالة الاستقرار والتوازن التي خلق الله الناس عليها أول مرة.
        من أجل ذلك رأينا أن القاتل غير المقاتل، وأن من قتل أول مرة عليه وزر من اتخذ هذا سبيلاً له عبر التاريخ، ويقص علينا ربنا قصة ابني آدم من أجل هذه العبرة، فيقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ * إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(44).
        فقد يتبين منها أن الجهاد في سبيله غايته الفلاح وإنهاء الفساد في الأرض، والخروج عن مفهوم القتل الذي جعله الله علامة على خذلان ابن آدم وعقابه إلى مفهوم القتال لرفع العدوان، ورفع الطغيان، وعدم السكوت على إنكار المنكر، وعدم السكوت على الإفساد الخسيس للأرض.
    (ب) سنة التدافع:
        وهي سنة مأخوذة من قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ }(45).
         وهذا التعبير القرآني يبين حقيقة علو القرآن على التفاسير التي خطَّها البشر، فهو لم يحصر هذا في القتال أو النزاع والخصام - كما ورد في التفاسير - وإنما عبر بالتدافع ليشمل كل أنواع التعاون والاختلاف، بل والصراع والصدام للوصول بكل وسيلة إلى الاستقرار وتحقيق مراد الله من خلقه: عبادة وعمارة وتزكية.
        فالتدافع سنة إلهية تبين أن الإنسان قد خلقه الله سبحانه وتعالى اجتماعيًّا يحتاج إلى الآخرين، وهم يحتاجون إليه، فلم يخلقه منعزلاً قادرًا على البقاء وحده؛ حتى يحقق مراد الله من خلقه، بل إنه لابد أن يعمل في فريق ليصل إلى هدفه، وعمله في الفريق وحراكه الاجتماعي ونشاطه الذاتي يحتاج إلى إدراك سنة التدافع، وإدراك هذه السنة يتولد منها قوانين كثيرة لضبط هذا النشاط والحراك؛ وعليه فإن عمليةً فكريةً لابد أن تسبق النشاط، وهو ما قد يكون الإنسان العصري قد افتقده حيث سبق النشاطُ الفكرَ، وكان ينبغي أن يسبق الفكرُ النشاطَ ويسبق حديثُ القلب أيضًا الفكرَ، ولهذا موضع آخر يشرح الفرق بين الأمرين.
    (ج) سنة التوازن:
        وهـي سنـة قد أشار الله إليها كونيًّا؛ قـال تعالـى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ }(46)، وقِيميًّا؛ قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ }(47)، وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ }(48)، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }(49).
        ونرى مرة ثانية أن الاستقرار هو الأساس الذي يجب أن ينتهي إليه النشاط الإنساني بعد التوتر الذي يبدأ به، وإذا تحدثنا عن مثل هذه السنة لرأينا أنها سنة كونية وسنة قِيميَّة، ونأخذ منها موقفنا من قضايا البيئة وموقفنا من قضايا الفكر، وموقفنا من مفهوم العدل خاصة إذا رأيناها تمتد إلى الآخرة والحساب وتمثل دالاًّ على عدل الله سبحانه، قال تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ}(50)، وقال سبحانه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ }(51)، والذي لابد للإنسان أن يتمثل به، ثم يأتي التكليف على وفق هذه السنة مشيرًا إلى أن التكليف بالأحكام مرتبط ارتباطًا تامًّا بالسنن الإلهية المحيطة بنا، وأن تطبيق هذه الأحكام من خلال فهمنا للسنن وتفاعلنا معها هو الضامن لتحقيق هدفها والوصول إلى مقاصدها، يقول تعالى: {فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }(52).
    2- إن دراسة السنن الإلهية بل واستقلال علم بدراستها وبيان علاقتها مع المبادئ العامة القرآنية التي تُكوِّن أيضًا عقل المسلم، من فوح قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(53)، وقوله سبحانه: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(54 )، وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}(55)، وقوله سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}(56)، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }(57)... إلى آخر ما هنالك من أسس ومبادئ - تبين أن الضرر يُزال، واليقين لا يُرفع بالشك، والأمور بمقاصدها... ونحو ذلك.
        أقول: إن دراسة السنن الإلهية أصبح واجبًا يمكن أن يُفيد الإنسان والإنسانية بنظرة جديدة لمجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويمكن بهذه النظرة أن تتهيَّأ لتجديد علمي واعٍ للخطاب الديني.
    3- لقد ألف المرحوم الشيخ محمد الصادق عرجون عن السنن الإلهية، ودعا الشيخ رشيد رضا في «المنار» إلى الالتفات إليها، ومن المحدثين تكلم عنها د. جمال عطية، وكتبت السيدة زينب عطية موسوعة لها، وللدكتور عبد الكريم زيدان كتاب مستقل، وهناك إسهامات د. مصطفى الشكعة وتلامذته في هذا الشأن، أما كتاب الدكتور سيف عبد الفتاح «مدخل القيم» فيعد محاولة جادة رصينة لبدء تكوين هذا العلم الذي قد يصل بنا إلى بناء علم أصول فقه الحضارة بعد أن وضع الشافعي علم أصول فقه النص الشريف.
        إن توليد العلوم، والذي توقف في القرن الرابع الهجري، وتوليد الحضارة منها على مقتضيات العصر الذي نعيشه - هو الأصل في تجديد الخطاب الديني بعيدًا عن الجهالة وعن الأماني وعن الآمال التي قد تخطر ببالنا مع كسل مريع في تحصيل العلم.

    النموذج المعرفي وإدراك الواقع :
    1- إدراك الواقع بعوالمه المختلفة جزء من أجزاء تجديد الخطاب الديني، ولابد علينا من تحديد معنى الواقع المعيش الذي نحياه ونتعامل معه، والواقع له عوالم خمسة: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، وعالم النظم. ويمكن أن نضيف إليها كل يوم ما يتناسب مع استقراء الواقع، وتحليل مكوناته.
        كما أنه لابد علينا أن ندرك أن هذه العوالم الخمسة في غاية التركب والتداخل، وليست منفصلة بأي صورة من الصور، مما يجعل من إدراك العلاقات البينية بين كل عالَم فيها مع العوالم الأخرى جزء لا يتجزأ من فهم الواقع الفهم الدقيق الواضح، وأيضًا لابد علينا أن ندرك أن هذه العوالم ليست ثابتة؛ ولذلك فلابد من تفهُّمِها في تغيُّرِها الدائم المستمر باعتبار أن هذا من سنن الله في كونه:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}(58).
    2- إن عالم الأشياء يحتاج إلى منهج في التعامل معه مردُّه إلى العلم التجريبي الذي حقق عند المسلمين وغير المسلمين نجاحًا باهرًا في تسخير الكون والاستفادة منه وتحصيل القوة في مجال الصحة والحياة اليومية والعلم… إلخ، نحوَ حياة أفضل، والعلم التجريبي يجب أن نتخذه في ظل مفاهيم واضحة وهي:
    (أ) أنه ليس هناك حدٌّ للبحث العلمي من أي جهة كانت، فإن الأمر عام ومطلق في شأن تحصيل العلم، وذلك في آيتين حاسمتين؛ الأولى تفيد العموم، والأخرى تفيد الإطلاق؛ قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا }(59)، فأمر بالسير على عمومه، وبالنظر على عمومه، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }(60)، فأطلق العلم ولم يحدد ماذا يعلم؟ هل يعلم الكونيات أو الشرعيات أو المفيد أو غير المفيد؟
    (ب) ومن المناسب أن ننبِّه أن العلم في لغة القرآن هو ذلك الذي يوصل إلى الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}(61)، والعلماء جمع عليم، وليس جمع عالِم، فجمع عالِم عالِمون وجمع عليم علماء، مثل حكيم وحكماء، وخبير وخبراء، وفقيه وفقهاء، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } (62).
    (ج) لابد أن يلتزم التطبيق العلمي واستعمال العلم في الحياة بالأخلاق والأوامر والنواهي الربانية التي تريد للإنسان حياة سعيدة قوية، تؤدي إلى التعمير ولا تؤدي إلى التدمير، تؤدي إلى حرية الإنسان والاختيار ولا تؤدي إلى سلب إرادته والإجبار، تؤدي إلى المساواة بين البشر ولا تؤدي إلى عبادة بعض البشر للبشر، وهيمنة الشمال على الجنوب، والقوي على الضعيف، فلا نتوصل بالاستنساخ أو الجينوم أو الهندسة الوراثية أو التدخل البيولوجي أو علوم الفضاء إلى الفساد الاجتماعي، أو الهيمنة التي تحصل المصالح لبعضهم على حساب الآخرين، أو تؤدي الخريطة الجينية إلى التسلط على الإرادة والتلاعب بالاختيار.
    (د) لابد من التخلص من عقلية الخرافة، وهي العقلية التي لا تفرق بين المجالات المختلفة، ولا تقيم الدليل المناسب لإثبات القضية محلَّ النظر، ولا تتبع منهجًا واضحًا محددًا من قبل في التعامل مع الحقائق، ولا تعتمد مصادر للمعرفة، وهذه العقلية الخرافية التي نريد أن نتخلص منها لابد أن يكون ذلك في مجال الحس، ومجال العقل، ومجال الشرع، فهذه المناهج المختلفة التي تدعو إلى الانتحار أو الانبهار أو الاجترار أو الانحسار أو الاغترار - مناهج مرفوضة، فمنهج الانتحار الذي يؤدي إلى التكفير المؤدي في نهاية الطريق إلى التدمير والتفجير مرفوض، ومنهج الانبهار بالآخر والتعدي على مصادر الشرع من كل غير متخصص بين الإفراط والتفريط حتى يخرج علينا من ينكر الإجماع، أو يخرج عن مقتضيات اللغة، أو عن هوية الإسلام، أو يحول الإسلام إلى لاهوت التحرر أو لاهوت العولمة.
        ومنهج الانحسار الانعزالي الذي يؤدي إلى الفرار من الواقع الذي يشبه الفرار يوم الزحف منهج مرفوض أيضًا؛ باعتبار أن مخالطة الناس والصبر عليهم خير عند الله من العزلة؛ قال تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }(63)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم إذا كان مخالطًا للناس ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(64).
        أما منهج الاجترار فإنه يتمثل في التمسك بمسائل التراث تمسكًا يحكي صورتها دون الوقوف عند مناهج التراث والتجريد أمامها حتى يمكن تطويرها إن احتاجت إلى تطوير، أو الاستفادة بها حتى على حالها إن كانت تصلح لذلك.
        فهو منهج (ماضوي) - إن صح التعبير - يريد بإصرار أن نتغاضى عن واقعنا، وأن نستمر في واقع قد تغيرت عليه الحياة، حتى رأينا كثيرًا من الناس يخرجون من دين الله أفواجًا لظنهم أن هذا هو دين الله، وأن دين الله بذلك من طبيعته ألا يصلح لزماننا هذا، وهو وهم خاطئ ومخطئ، خاطئ لأنه مخالف للحق، ومخطئ لأنه مخالف للواقع.
        أما منهج الاغترار فنراه عند كثير من خارج الدراسات الدينية الأكاديمية، الذين أقحموا أنفسهم في مجال الكلام في الشرع الشريف تشهيًا لإصلاح الدين بزعمهم تارة أو للإدلاء بآرائهم التي يرونها مهمة تارة أخرى، وقد نراه أيضًا عند الدارسين الدراسات الشرعية في مراحلها الأولى، مع ظن لا يتناسب مع ظن العلماء الراسخين في العلم؛ حيث يعتقدون أن لهم الحق في تجديد الدين، غافلين عن قلة بضاعتهم الشرعية من ناحية، والمسافات الشاسعة بينهم وبين إدراك الواقع من ناحية أخرى، وهنا يجدر بنا أن ننبِّه على فارق مهم بين البحث (في) علم ما وبين الكلام (عن) ذات العلم، والفرق بين (في) و(عن) أن (في) تستلزم استكمال العملية التعليمية بعناصرها الخمسة: الطالب، والأستاذ، والكتاب، والمنهج، والجو العلمي، وهي عملية تهتم بالمعرفة وبالقيم وبتربية الملكات، وتحتاج لكي يبرز نتاجها في الواقع إلى التفرغ والتخصص والأدوات وطول الزمان، بالإضافة إلى الاستعدادات الفطرية من الذكاء باعتباره قوة ربط المعلومات، والحرص على تلقي العلم الذي يمكن أن نسميه بالهمَّة، وبذل الجهد المستمر.
        ولقد أشار الشافعي منذ القدم إلى هذا مما يبيِّن أن المنهج العلمي لا يختلف في ذاته وإنما قد يتطور في صياغاته حيث قال:
    أخي لن تنالَ العلمَ إلا بستَّةٍ       ذكاءٌ وحِرصٌ واجتهادٌ وبُلْغَةٌ
    سأُنبِيكَ عن تأويلِها ببيانِ        وإرشادُ أستاذٍ وطولُ زمانِ
        والبلغة تعني التفرغ لطلب العلم، وأن عنده ما يكفيه من الأرزاق، وهو المعنى الذي قامت به الأوقاف الإسلامية عبر القرون، فكان من أهم جهاتها الصرف على التعليم، وعلى الصحة وعلى الأمن الداخلي.
        وهذا النمط من الاغترار هو أخطر الأنماط؛ لأنه قد حصل شيئًا من العلم الشرعي، إلا أنه لم تكتمل أدواته حتى يصل إلى مرتبة المجددين.
    3- إن عالم الأشخاص قد برزت فيه الشخصية الاعتبارية التي يجب أن نهتم بدراستها دراسة أخرى غير ما ورد عن الشخصية الطبيعية في الفقه الإسلامي، فإن ما ورد في ذلك الفقه عن الشخصية الطبيعية صحيح، ولكن الشخصية الاعتبارية ينبغي أن يكون لها أحكام أخرى تتوافق مع مصالح الناس، وتحقيق المقاصد الشرعية؛ إن سحب أحكام الشخصية الطبيعية على الشخصية الاعتبارية أمر لم يعد مناسبًا وفيه تغبيش على الواقع الذي نريد أن ندركه.
        ولقد استقر في الفقه الإسلامي أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت مبنية على الأعراف الزائدة، والتقاليد المستقرة أو المتغيرة، فباختلاف تلك الأعراف والتقاليد من زمان لزمان، أو من مكان لمكان تتغير الأحكام، كما تقرر أن الأحكام تتغير بين ديار المسلمين، وغير المسلمين في مجال العقود؛ لأن المسلم الذي يقيم في بلاد غير المسلمين ينبغي عليه أن يمارس حياته بصورة طبيعية، ولا ينعزل في حارات من غير اندماج في مجتمعه، بل يجب عليه هذا الاندماج؛ لأنه أولاً وأخيرًا مأمور بالدعوة إلى الإسلام بمقاله أو بأفعاله أو بحاله.
        وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له»(65)، ولا يتحقق له ذلك إلا إذا اختلفت أحكام العقود التي بينه وبين غير المسلمين في ديار غير المسلمين عن أحكام ذات العقود نفسها في ديار المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، قال: ما دام ذلك برضا أنفسهم، وقال: لأن هذه الديار ليست محلاًّ لإقامة الإسلام، وهي نظرة واقعية للحياة من ناحية، ولطبيعة الدين الإسلامي في دعوته بالأسوة الحسنة من ناحية أخرى؛ قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (66)، والرسول في حقيقته إنما بعث كما قال عن نفسه رحمة مهداة؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(67)، فلابد أن يكون أتباعه كذلك.
    4- عالم الأحداث والخطاب الديني يجب أن يتعلم تحليل المضمون وكيفية استعمال هذا التحليل، وقد ورد في الحديث النبوي عن حكمة آل داود: «على العاقل أن يكون عالمًا بزمانه، ممسكًا للسانه، مقبلاً على شانه»(68).
        وعالَم الأحداث مركب في الحقيقة من الأشياء والأشخاص والوقائع والعلاقات البينيِّة، وهو أكثر العوالِم تداخلاً وتسارعًا؛ حتى نرى أن وكالات الأنباء الستة الكبرى تبث كل يوم 120 مليون معلومة أغلبها أحداث؛ مما يبين أهمية هذا الجانب، ونحن هنا ننبه إليه فقط، فنتكلم بشيء (عنه) ولا نتكلم بشيء (فيه).
    5- عالَم الأفكار والنظم، وعسى أن نُفرد لهذا المجال كلامًا مستقِلاًّ؛ لشدة أهميته، وباعتباره أساسًا لكثير من السلوكيات والتطبيق.
        إن إدراك هذه العوالِم لا يكفي وحده دون إقامة علم ديني لإدراك العلاقات البينية والاستعداد لتداخلها ووضع الطرق المناسبة التي تحقق مقاصد الشرع الشريف؛ من حفظ النفس والعقل والدين وكرامة الإنسان وحفظ الملك على الناس، وهي المقاصد العليا التي أشار إليها الأصوليون، والتي أفردها الشاطبي في كتابه «الموافقات»، وهي التي أيضًا تمثل فكرة تقارب فكرة النظام العام في النظم القانونية المعاصرة.
        ومن مجمل ما ذكرنا يتضح لنا أهمية دراسة النموذج المعرفي، سواء في جانب الرؤية الكلية أو السنن الإلهية أو القيم العليا أو المبادئ القرآنية أو إدراك الواقع من خلال ذلك كله مع الحفاظ على الهوية الموروثة التي تمثل الحقيقة عند المسلمين.

    المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .
     

     

    الهوامش:
    ------------------
    (1) الآية 51 من سورة الكهف.
    (2) الآيات 1: 3 من سورة الرحمن.
    (3) من الآية 40 من سورة الأحزاب.
    (4) الآية 9 من سورة الحجر.
    (5) الآية 92 من سورة الأنبياء.
    (6) الآية 144 من سورة البقرة.
    (7) من الآية 78 من سورة الحج.
    (8) من الآية 48 من سورة المائدة.
    (9)من الآية 19 من سورة آل عمران.
    (10) من الآية 3 من سورة المائدة.
    (11) الآيات 56: 58 من سورة الذاريات.
    (12) من الآية 61 من سورة هود.
    (13) من الآية 60 من سورة البقرة.
    (14) الآيتان 9، 10 من سورة الشمس.
    (15) الآيتان 7، 8 من سورة الزلزلة.
    (16) من الآية 180 من سورة الأعراف.
    (17) من الآية 8 من سورة المائدة.
    (18) الآيتان 109، 110 من سورة البقرة.
    (19) الآية 18 من سورة يوسف.
    (20) الآية 5 من سورة المعارج.
    (21) الآية 10 من سورة المزمل.
    (22) الآية 70 من سورة الإسراء.
    (23) الآية 72 من سورة الأحزاب.
    (24) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/ 24) حديث (16349)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في كراهية التمادح» حديث (4806)، والنسائي في «السنن الكبرى» (6/ 70) حديث (10074) من حديث عبدالله بن الشخير رضي الله عنه.
    (25) الآية 44 من سورة الإسراء.
    (26) من الآية 18 من سورة الحج.
    (27) الآية 13 من سورة الجاثية.
    (28) الآية 65 من سورة الحج.
    (29) الآية 1 من سورة القدر.
    (30) الآية 3 من سورة الدخان.
    (31) الآية 96 من سورة آل عمران.
    (32) أخرجه الترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في تعظيم المؤمن» حديث (2032)، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «حرمة دم المؤمن وماله» حديث (3932) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، واللفظ لابن ماجه.
    (33) الآية 79 من سورة الواقعة.
    (34) من الآية63 من سورة النور.
    (35) الآية 2 من سورة الحجرات.
    (36) الآية 81 من سورة آل عمران.
    (37) الآية 1 من سورة النساء.
    (38) الآية 12 من سورة الإسراء.
    (39) الآية 26 من سورة آل عمران.
    (40) من الآية 32 من سورة الزخرف.
    (41) أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (13/ 523)، وقيل: هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة. انظر: «كشف الخفاء» (1/ 511).
    (42) من الآية 78 من سورة الحج.
    (43) الآية 69 من سورة العنكبوت.
    (44) الآيات من 35:27 من سورة المائدة.
    (45) من الآية 251 من سورة البقرة.
    (46) من الآية 19 من سورة الحجر.
    (47) الآية 9 من سورة الرحمن.
    (48) الآية 17 من سورة الشورى.
    (49) من الآية 25 من سورة الحديد.
    (50) من الآية 47 من سورة الأنبياء.
    (51) من الآية 8 من سورة الأعراف.
    (52) من الآية 85 من سورة الأعراف.
    (53) من الآية 164 من سورة الأنعام.
    (54) الآية 179 من سورة البقرة.
    (55) من الآية 95 من سورة المائدة.
    (56) الآية 39 من سورة النجم.
    (57) من الآية 78 من سورة الحج.
    (58) من الآية 29 من الرحمن.
    (59) من الآية 69 من سورة النمل.
    (60) من الآية 9 من سورة الزمر.
    (61) من الآية 28 من سورة فاطر.
    (62) من الآية 76 من سورة يوسف.
    (63) من الآية 18 من سورة يوسف.
    (64) أخرجه الترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» حديث (2507)، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «الصبر على البلاء» حديث (4032).
    (65) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «التوحيد» باب «قول الله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}» حديث (7551)، ومسلم في كتاب «القدر» باب «كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته» حديث (2649) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
    (66) من الآية 143 من سورة البقرة.
    (67) الآية 107 من سورة الأنبياء.
    (68) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 268) رقم (5047)، وهناد في «الزهد» (2/ 580) رقم (1226)، ومعمر بن راشد في «جامعه» (11/ 22)، واللفظ له.

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    تعليقات الزوار ()