بتـــــاريخ : 10/23/2008 6:08:45 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1224 0


    التراث الإسلامى والصياغات اللغوية والمنطقية كأداة لفهمه

    الناقل : heba | العمر :42 | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    ما دور الصياغات اللغوية والمنطقية فى فهم التراث الإسلامى ؟
    والجواب : 
        أن الصياغات اللغوية والمنطقية عنصر من عناصر الشفرة التي كُتب بها التراث، والتي نحن بحاجة إلى استيعابها حتى نتمكن من بلورة فهم دقيق لما هو تحت أيدينا من نصوص تراثية. 
        هناك مفهوم محدد وتصور معين تتداخل فيه الصياغة اللغوية مع الصياغة المنطقية، وتشكل طابعًا عامًا لصياغة الأفكار عند السلفي. هذا المحدد الأول لهذه الصياغات هو الجملة المفيدة. ولقد اختلف مفهوم الجملة المفيدة -وكان بارزًا ومهمًا- بين علوم البلاغة والنحو والأصول والمنطق وغيرها. وكما سبق وأوضحنا –في القسم الأول- تنقسم الجملة المفيدة إلى قسمين ظاهرين وقسم ثالث غير ظاهر، واختلفت تسمية كل قسم من هذه الأقسام باختلاف العلوم التي تعاملت معها. فأهل المنطق يتحدثون عما أسموه بـ"الموضوع" و"المحمول"، والبلاغيون يقولون: "المسند" و"المسند إليه"، والنحويون يسمونهما بـ"المبتدأ" و"الخبر" أو "الفعل" و"الفاعل". ولذلك؛ فالجملة المفيدة نفسها قد سُميت بأسماء مختلفة، مثل: القضية، أو المسألة، أو "الدعوى". وكل تلك الألفاظ السابقة متفقه في المعنى. 
        ولكل علم من العلوم التي أنتج التراثيون فيها جملته المفيدة الرئيسة على النحو الذي سبقت الإشارة إليه. ففي علم الفقه، الموضوع - أو الجزء الأول من الجملة- هو "فِعْل المُكلَّف"، والمحمول - أو الجزء الثاني من الجملة- هو "حكم من أحكام الله سبحانه وتعالى ". فالصلاة والبيع والشراء كل هذه أفعال تصدر عن البشر، إما حلال, وواجب, ومباح, ومندوب, ومكروه فكل هذه أحكام شرعية نصف بها الفعل البشري. فإذا جمعنا بين الفعل والحكم عليه فإننا نخرج بجملة مفيدة أو مسألة أو دعوى أو قضية فقهية.
        وفي علم الأصول، نجد أن الموضوع -أو الجزء الأول من الجملة- هو "الأدلة الشرعية"، وأن "إثباتها للحكم" هو المحمول. فالكتاب لا من حيث كونه موجودًا في المصحف، أو من حيث كيف يُرسَم، ولا من حيث حفظه، ولكن من ناحية كيف نستنبط منه الحكم الشرعي، وكذلك السُّنَّة, والإجماع، والقياس... وهكذا، هذه الأدلة من هذه الحيثية تشكل جملة أو قضية علم الأصول.
        إذًا فقضية الجملة المفيدة هي قضية مهمة، ننظر فيها إلى ما يُسمَّى بـ"الإسناد" أو "النسبة" أو العنصر الثالث الخفي؛ الذي يمثل العلاقة بين العنصرين الأولين: المبتدأ والخبر. فالنسبة هي إثباتُ أمرٍ لشيءٍ أو نفيه عنه.
        وحتى أبلِّغ للمخاطب ما أريد قوله ويكون مفهومًا، لابد أن يتم البحث عن تمام الإسناد، فإن قلت: الشجرة الطويلة الخضراء التي بالخارج, فكل هذا إنما هي أمور أو صفات لتحديد الموضوع. فلابد علينا أن نُخبِر عن هذا الموضوع بوضوح، وإلا فإن ارتباكًا سيحدث للمخاطب؛ حيث يثور في ذهنه تساؤل حول كلامك: أين النسبة فيه؟ وعلى ذلك فإنك لو قلت: "الشجرة" وسكتَّ وتوقفت ستكون قد تكلمتَ بكلام غير مفيد، فإذا ما قلت بعدها: "...مثمرة" أصبحت الجملة مفيدة.
        وعلى ذلك، فعلينا عندما نقرأ في التراث أن نبحث في النِسَب التامة؛ أي أن نبحث في الجمل المفيدة، وإلا فإننا إن لم نستطع أن نحصُل للمبتدأ على خبر، ولا للفعل على فاعل فإنه لا يمكن أن يتشكل لدينا فهم كامل صحيح لنصوص هذا التراث.
        ففي بعض كتب التراث نجد صياغات يطول الفاصل فيها بين المبتدأ والخبر، أو قد يقرأ المرءُ النصَّ قراءة خاطئة فيعتقد أن شيئًا ما في الكلام قد أُخبر به عن المبتدأ أو أُسند للمسند إليه، بينما يكون الكاتب لم يخبر أو يُسند بعد، فيقول –مثلاً-: "الشجرة الخضراء بالخارج... مثمرة"، فيفهم القارئ أن المسند أو الخبر هو بالخارج أو خضراء، وهذا خطأ؛ لأن تلك الصفات -في الحقيقة- قامت بتحديد الموضوع فقط، ولكن لابد من إسناد يسند إليها. لذا فعلينا إذًا أن نتفهم هذه المسألة، وأن نبحث عن الجمل المفيدة.
        إنَّ تصورنا أن البناء اللغوي كله مبنيٌّ على "الجملة المفيدة" سيفيدنا في فهم كثير من أمور التراث.
    إن الجملة المفيدة دعوى وقضية ومسألة، وهي أمور تحتاج منا إلى دليل. فـ"الصلاة واجبة" جملة مفيدة، ولكن من الذي قال إن الصلاة واجبة؟ ما الدليل على ذلك؟ وهنا سنلحظ أن معنا مجموعة من الجمل المختلفة؛ فهناك جمل تكون طريقة إثبات النسبة (أي العلاقة بين الخبر و المبتدأ) فيها راجعة إلى الحس أي إلى الإدراك الحسي، وهناك بعض الجمل تكون طريقة إثبات النسبة فيها راجعة إلى العقل، وهناك من الجمل ما يُحمَل إثبات النسبة فيها على النقل سواء كان نقلاً عن أهل تخصص معين أو عن الشرع الشريف. ومن هنا كانت الأدلة منها ما يكون دليلاً حسيًا، ومنها ما يكون دليلاً عقليًا، ومنها ما يكون دليلاً شرعيًا، ومنها ما يكون دليلاً وضعيًا؛ أي تواضعت طائفة معينة عليه، وقد ضربنا لذلك أمثلة موجزة فيما سبق.
        إذًا تختلف المسائل والقضايا فتختلف الأدلة المثبِتة لها؛ أي المثبتة لتلك النسب، ولكن ما معنى الإثبات؟
        بعد أن وجدوا أن اللغة مكوَّنة من جمل مفيدة، وأن الأخيرة مكونة من جزأين بينهما علاقة، وأن هناك أدلة تثبت تلك العلاقات وتلك النسب، ثم بعد ذلك تنوعت وتعددت الأدلة؛ فأصبح هناك دليل شرعي، وآخر نقلي وآخر حسي لتثبت العلاقة، وجدوا أن أمور الأدلة تثير نوعًا من الاستفهام مفاده: هل لابد أن تقام الأدلة على كل جملة حتى يُصدِّق المخاطب ما أقوله؟ فعندما قال المتكلم: "الشجرة مثمرة"، فإن هناك احتمالين في المخاطَب: إما أن يصدِّق أو لا يصدّق. فإذا لم يصدق، فإن الأمر يحتاج إلى دليل، وهو هنا أن يأخذه المتكلم ويريه الشجرة. وأما إذا قال: الصلاة واجبة، وقال المخاطب: ما دليل ذلك؟ فعليه أن ينظر هنا إلى دليل نقلي، فيقول: إن الله سبحانه وتعالى قال: "أَقِمِ الصَّلاَةَ"، وهذا أمر، وكل أمر للوجوب؛ لذا فإن الصلاة واجبة. وكون كل أمر للوجوب يعود إلى الاستقراء والتتبع، فنذهب إلى السُّنَّة والإجماع للتأكد من أن كل أمر للوجوب.
        إن هذه العملية -أي إقامة الدليل على الجملة أو الدعوى- تسير على مرحلتين هما: إدراك المفرد وهي مرحلة التصور، ثم إدراك النسبة مع التسليم والإذعان وهي مرحلة التصديق. فأصبح لدينا قسمان للإدراك (أي لحصول صورة الشيء في الذهن): القسم الأول يسمى التصور؛ وهو إدراك المفرد، والثاني يسمى بالتصديق وهو إدراك النسبة على جهة الإذعان. فعندما قلتَ: "الشجرة" فإنني أدركتُ صورة معينة لها تتكون في الذهن، وعندما قلت: "مثمرة" تكون في الذهن صورة للثمرة والإثمار كما تكون في الذهن العلاقة بينهما. وإدراك الشجرة وإدراك الإثمار والثمرة وإدراك نسبة الإثمار إلى الشجرة كان من باب التصور؛ لأنه إدراك مفردات دون الإذعان بأن ذلك كائن وأنه صحيح وأن هذه الجملة قد فُهِمَتْ وصُدِّقت.
         كل الناس –مثلاً- يعلمون معنى "محمد رسول الله "؛ "محمد" صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه ذلك الشخص الذي وُلِد في مكة ومات في المدينة, قبره يُزار إلى اليوم، أتى بدين اسمه الإسلام .. وهكذا.  "رسول الله " أيضًا معناها معلوم بأنه بشر وأنه يُوحَى إليه من الله سبحانه وتعالى .. إلى آخره. وكذلك يفهمون تلك النسبة، ولكن لا يعني "فهمهم" لكل ذلك أنهم يصدِّقون به، فإن وقع التصديق في الأذهان فقد آمنوا، وإن لم يقع لا يكونوا مؤمنين. فهناك فارق بين الفهم والتصديق.
        التصور هو مرحلة الفهم أما التصديق فهو مرحلة أخرى. فإذا كان عندي مثلا صورة في ذهني قائمة أريد أن أنقلها إلى ذهنك حتى تفهمني، كيف أوصلها إليك؟
        هنا قال العلماء: إن توصيل ما في الذهن إلى السامع عبر الكلام يكون عبر "مصطلح" يسمى بالتعريف أو الحد. فمثلاً لو قال امرؤٌ لآخر: "الحنطة كثيرة"، فإن كلمة "الحنطة" ربما لا تكون معروفة ومفهومة للآخر، فيقف دون أن يفهم، فيضطر الأول إلى توضيحها بلفظ آخر؛ بأنها القمح. هنا الذي حدث هو قيام المتكلم بتعريف الكلمة تعريفًا لفظيًا؛ أي إنه أتى بكلمة مرادفة للكلمة غير المفهومة, أتى بلفظة معروفة للسامع ليعرف بها الكلمة الأخرى التي لم يكن يعرفها.
        وقد يكون المراد من التعريف إدراك كنه الشيء؛ أي ماهية الشيء، وهنا نلجأ إلى التصورات الكلية، والتي تمت الإشارة فيها إلى الموجودات التي تنقسم إلى ما هو متحيز وما هو غير متحيز. المتحيز هو الجوهر، وغير المتحيز هو العَرَض. أما الجوهر فإذا كان مفردًا فنسميه الجزء الذي لا يتجزأ، وأما إذا كان مركبًا فنسميه جسمًا. هذا الجسم يُلاحظ أنه أنواع؛ منها ما هو نامٍ ومنها ما هو غير نامٍ، فلوحة الكتابة تتركها يومًا وأيامًا لا تزيد، ولكنها تظل كما هي، أما النبات فإنك إن تركته يومًا بعد الآخر تجده يزيد شيئًا فشيئًا. وكذلك الطفل يكبر، والثمرة تنضج. وفي النوع الأخير نجده ينقسم إلى قسمين: الأول يتحرك بالإرادة والآخر لا يتحرك بالإرادة. الأخير مثل النبات فلو تركته في مكان ما، فحتى لو نما فإنك لن تلاحظ أي تغير في مكانه بعد يومين من تركها، أما القسم الذي يتحرك بالإرادة فمثل البقرة التي تتحرك إذا تركتها بمفردها ساعية إلى طعامها وشرابها. فالحيوان متحرك بالإرادة، أما النبات فلا، فقد يتحرك بالهواء أو يتحرك بالضوء أو يتحرك بردود الفعل العكسية كالنباتات الوحشية، ولكنه لا يتحرك بالإرادة لانعدامها فيه.
    من هنا يمكن أن نرسم خريطة الموجودات كالتالي:

        هذه شجرة تنطوي على مستويات متعددة، نجد الشيء له فرع وله أصل، للشيء ما هو تحته وله ما هو فوقه. وهناك شيء لا تحت له وآخر لا فوق له. كل هذه الأنواع ابتدأ المناطقة بتسميتها باسم مخصوص، فقالوا على الشيء الذي تحته أنواع بأنه "جنس"، وعلى تفريعه "نوع". فالموجود جنس الأجناس, الناطق (المفكر) هو النوع المطلق أي النوع الذي ليس تحته شيء، ونجد أن كل واحد بعد ذلك هو جنس لما تحته ونوع لما فوقه.. وهكذا فأصبح لدينا مصطلحان.
        وكما نرى فإن الجنس والنوع شيء واحد؛ أي بالاعتبار، إلا أن الجنس تحته أفراد مختلفة تمامًا بعضها عن بعض، فالحيوان جنس ولكن تحته البهائم، وتحته الإنسان المفكر الناطق، والإنسان يختلف اختلافًا بينًا واضحًا عن البهيمة، إلا أن كلاً منهما يشترك في التحرك بالإرادة. أما النوع فتحته أفراد متسقة، فالإنسان نوع أفراده لا تختلف في كنه الإنسانية.
        ولكن ما الذي يفرق نوعًا عن الآخر في الجنس؟ فالإنسان حيوان والبهيمة حيوان، فما الذي يفرق بينهما؟ قالوا: الذي يفرق بينهما هو النطق، فإن الإنسان ينطق بمعنى أنه يفكر أي يرتب أمورًا معلومة ليتوصل بها إلى مجهول، أما البهيمة فلا. الاختلاف يتمثل في التفكير، إن ترتيب الأمور وتوليد الفكرة منها كل هذه الترتيبات التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان ليعمر بها الكون مفقودة عند الحيوان؛ لذا أسموا هذا الاختلاف بـ"الفصل". وبالتالي أصبح لدينا ثلاثة محاور في الخريطة السابقة: الجنس والنوع والفصل. ولكننا رأينا خواصَّ يختص بها النوع، ورأينا خواصَّ يشترك فيها النوع مع غيره من الأنواع تحت جنس واحد، وإن كانت لا تميزه بحده. مثل الضحك في الإنسان، فهو يضحك لأنه أدرك شيئًا متناقضًا أو مفارقة بين أمرين، وعلى هذا يبني المزاح والنكات. التعجب هذا لا يحدث لبهيمة؛ وبالتالي لا تضحك. هذه خاصية للإنسان.
         ولكن الإنسان يمشي والأسد يمشي، فالمشي عرَضٌ عام يشترك فيه أفراد الجنس الواحد وإن اختلفت الأنواع.
        بالتأمل والتدبر قالوا: هذه الخمسة هي التي استطاع الإنسان أن يرصدها، فأسموها بالكليات الخمس؛ وهي الجنس, والنوع, والفصل, والخاصة, والعرض العام.
        فالجنس يعرفونه بأنه كلي ذاتي مقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو، ويمثل له بـ"الحيوان". أما النوع فهو كلي مقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب ما هو، ويمثل له بـ"الإنسان". وأما الفصل فهو كلي ذاتي مقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب: أي شيء منه؟ وأما الخاصة فهي كلي عَرَضي مقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب أي شيء هو من خاصته؟ والعرض العام كلي عرضي مقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب أي شيء هو من عرضه؟
        قالوا: إذا أردنا أن نعرِّف شيئًا لننقل هذا التصور الذي حصل في أذهاننا إلى أذهان المستمعين لنا، فينبغي علينا أن يكون التعريف من الجنس ومن الفصل، ومن الممكن أن يكون من الجنس ومن الخاصة، كذلك من الممكن أن يكون من الجنس فقط أو من الفصل فقط أو من الخاصة فقط.
        فإذا كان من الجنس والفصل أسموه "الحد التام"، أما إن كان من الفصل فقط أو الجنس البعيد والفصل أسموه "الحد الناقص"، أما إذا كان من الجنس والخاصة فهم يسمونه "الرسم التام"، فإن كان من الجنس البعيد والخاصة أو من الأخيرة فقط فهم يسمونه بـ"الرسم الناقص"..وهكذا.
        ولو أضفنا إلى التعريف اللفظي كلاً من التقسيم والتعريف بالمثال, لتمت لنا أنواع التعريف عند المناطقة.
        ولكن أهل الحقول الأخرى -غير المنطق- يطلقون على الكل "تعريفًا"، فيقولون -في معرض أحاديثهم-: "ويُعرَّف بكذا.."، وقد يكون ذلك رسمًا أو يكون حدًّا. هذا أمر واسع، ولكن في كل تعريف لابد علينا أن نبحث عن النوع الذي يحدد الجنس، وعن الفصل الذي يحدد النوع من بين الأنواع المختلفة.
        شاع ذلك في الألفاظ الشرعية، فمصطلحات كبيع وإيلاء وطلاق أو صلاة.. عند تعريفها نأتي بكلمة شبيهة بالجنس، ونأتي بعدها بقيود هي فصل أو فصول تحدد المراد. وقد أصبحت فلسفة التعريف أمرًا شائعًا وضروريًا حتى يفهم الإنسان ما يريده الآخر؛ وحتى يبني الكلام بعد ذلك على ما قد حُدِّد أو عُرِّف في أول الكلام؛ لأننا لو لم نفعل ذلك لربما اختلفنا في الظاهر وإن كنا متفقين في الحقيقة، ولاعترض بعضنا على بعض وتشتتنا مذاهبَ في البحث. ومن أجل ذلك كانت مسألة التعريف تمثل مطلعًا ثابتًا في أغلب كتب التراث، وهي كذلك في الخطط البحثية للدراسات المعاصرة؛ ومن أجل أن تضبط هذه المسألة تكلموا عن الكليات الخمس، وكذلك عن أنواع التعريف.
        وإذا كنا بالتعريف يمكننا أن نـتوصل إلى التصور، فكيف لنا أن نتوصل إلى التصديق؟ إن هذه الأداة التي يمكن بواسطتها الوصول إلى التصديق يختلف اسمها -بدوره- بين علماء الحقول المختلفة. 
        فالمناطقة أسموها القياس، وفي الشرع الدليل. ويشير القياس إلى ترتيب أمور معلومة للوصول إلى أمر جديد غير معلوم، وكما ذكرنا نقول: "الصلاة واجبة"، ويأتي الدليل بقولنا: قال الله سبحانه وتعالى : "أَقِمِ الصَّلاَةَ"، وهي صيغة أمر, والأمر للوجوب، وبالتالي فالصلاة واجبة. إن السلسلة السابقة من الجُمل التي من خلالها استخلصنا قول إن "الصلاة واجبة" هي التي عالجها المنطق في قضية "المقدمات". ومن أجل ذلك كان علينا أن ندرس المنطق، وهذا الجزء من القياس المنطقي الذي له أشكال وأنواع معينة حتى نفهم كلام التراثيين. لقد استعملوا كل هذه الأدوات بسهولة ويسر ودون عناء؛ لأنها كانت تمثل لديهم مسلمات.
        إن هناك مجموعة من الصياغات اللغوية والمنطقية ينبغي إدراكها واستيعابها قبل الخوض في أي كتاب من كتب التراث، وعند التمرن على ذلك يتكون للمرء أو للقارئ في التراث مَلكة يستطيع بها أن يحلِّل الكلام وأن يفهمه فهمًا أعلى من الفهم المتشكل لديه في قراءته الأولى للنص التراثي.
        ولنعُد إلى نصنا الذي نحلله لنرى أهمية ما ذكرناه. " كتاب البيع، أخَّره عن العبادات؛ لأنها أفضل الأعمال؛ ولأن الاضطرار إليها أكثر ولقلة أفراد فاعله". هنا نرى نوعًا من الصياغة ينبغي الالتفات إليه في كتاباتهم؛ إذ أنه يذكر الجملة ثم بعد ذلك يعقبها بدليلها، وقد يذكر بعد الدليل "التعليل"؛ أي لماذا كان هذا دليلاً لذلك.
        التراثي دائمًا في ذهنه قضية "الجملة المفيدة"، يقول: أخَّر البيع عن العبادات. جملة تخبر عن شيء؛ هو أن البيع تم تأخيره عن العبادات في كتب الفقهاء، ولكن أين الدليل؟ الدليل –هنا- هو الحس؛ أي كأنه يقول: انظروا إلى كتب الفقه، وإلى كتابي هذا نفسه. ولكن –أيضًا- أين التعليل؟ فيذكر حملة جديدة هي "لأنها أفضل الأعمال"، ثم تعليلاً آخر: "ولأن الاضطرار إليها أكثر"، وتعليلاً ثالثًا: "ولقلة أفراد فاعله". هذه علل ثلاث اجتمعت فكانت سببًا في اختيار المصنِّفين تأخير كتب المعاملات (وأولها البيع) عن كتب العبادات. ويُلاحظ أنه عندما أراد أن يذكر التعليلات أتى بـ"لأن"، وهي حرف تعليل.
        ويُكمل: "لفظه في الأصل مصدر، فلذا أفرده". جعل المصنِّف من فلذا أفرده" علةً لذِكْر الكاتب الأول "كتاب البيع" هكذا وليس "كتاب البيوع"؛ حيث إن لفظ "البيع" –أصلاً- مصدر، والمصدر لا يُجمع إلا إذ روعي فيه اختلاف الأنواع.
        ويُكمل: "وإن كان تحته أنواع"؛ أي حتى لو كان تحته أنواع. وهنا فإن المؤلف يذكرنا بإدراكه أن بعض المصنفين يجمعون "البيع"؛ لكونهم يرون أن كل نوع من البيع يمثل بيعًا بذاته.
        ثم يكمل: "ثم صار لما فيه مقابلة على ما سيأتي، ثم إذا أريد به أحد شقي العقد الذي يسمى من يأتي به بائعًا فيعرَّف.."، وما دام قد أتى بكلمة "يعرَّف" هنا، فإنه يكون قد أدخلها إلى قضية الجنس والفصل، وأراد أن ينقل إلى الأذهان تعريفًا معينًا عن البيع. "فيعرَّف بأنه تمليك بعوض على وجه مخصوص". التمليك –هنا- هو الجنس، فكأن أحدهم قد سأل المؤلف: أي نوع من أنواع التمليك هو؟ حيث إن أسباب الملك كثيرة، مثل: الهبة والميراث والاستيلاء على المباح مثل صيد السمك. فيقول المؤلف: "بعوض على وجه مخصوص". فكان ما ذكره هذا هو "الفصل"؛ أي إن كلمة "تملك" أو "تمليك" جنس، وكلمة "بعوض على وجه مخصوص" فصل.
        "ويقابله الشراء الذي هو الشق الآخر والذي يسمى من يأتي به مشتريًا، ويعرف بأنه تملك بعوض كذلك, ويجوز إطلاق اسم البائع على المشتري وعكسه اعتبارًا. والتعبير بالتمليك والتملك بالنظر إلى المعنى الشرعي كما سيأتي, وإن أريد به المركب من الشقين معًا بمعنى العلقة الحاصلة من الشقين التي ترد عليها الإجازة والفسخ، فيُقال له –لغةً- مقابلة شيء بشيء على وجه المعاوضة, فيدخل فيه ما لا يصح تملكه كالاختصاص، وما لم تكن صيغة كالمعاطاة, وخرج بوجه المعاوضة نحو السلام. ويعرف –شرعًا- أنه عقدٌ".
        هنا تصبح كلمة "عقد" هي الجنس، فالعقود كثيرة منها السَّلَم, والنكاح، والوكالة، فأي نوع فيها هو من أنواع العقود؟ فيقول المؤلف "عقد معاوضة مالية" إن قوله: "معاوضة مالية" هو قيد من القيود. ويكمل: "تفيد ملك عين أو منفعة" وهذا قيد ثانٍ، ويكمل: "على التأبيد" وهذا قيد ثالث: "لا على وجه القربى". وهكذا كل قيد من هذه القيود قد أخرج شيئًا من التعريف.
        "وأركانه ثلاثة عاقد ومعقود عليه وصياغة". "وأركانه ثلاثة"، وهي في الحقيقة ستة. والعقد -في التعريف- جنس، وشأنه الإدخال؛ أي شأنه أن يُدخل في ذهن الإنسان حقيقة جنس معين؛ وهو العقد. ويُكمل: "لكن إذا كان بينه وبين فصله عموم من وجه يخرج بكل منهما ما أدخل في عموم الآخر". فكلمة "حيوان" مثلاً عامة تشمل الإنسان وتشمل الأسد، فهو جنس من شأنه أن يكون عامًا، أما لو أتت كلمة "ناطق"، وهي -كما يري البعض- تعم الإنسان والملائكة، فالأخيرون موصوفون في القرآن بأنهم يتكلمون مع الله ويوحي إليهم أي يرسلهم بالرسالات، وإن لم نستطع أن نثبت لهم العقل (حتى لا يكون في الكلمة تجاوز) إلا أن ما يمكن قوله هو أنهم يعقلون على كل حال، قد لا يكون بمخ ودماغ، ولكنهم يعقلون ويفقهون ولا يعصون الله ما أمرهم. كلها صفات تؤكد أن هؤلاء خلق ناطق مكلف مأمور، إذًا فـ"ناطق" قد يكون بشرًا أو غير بشر، ولكن حين نضع الدائرتين سويًا: الحيوانية من جهة والناطقية من جهة أخرى فإنه سوف تبرز لنا مساحة مشتركة بين الدائرتين، هذه المساحة تمثل "الإنسان"، بل لا تمثل إلا "الإنسان".
        وهكذا قال علماء المنطق: عندما يكون للجنس عموم وللفصل أيضًا عموم، وعندما نضع الجنس مع الفصل، فإن عموم كل طرف من الأطراف يقيد عموم الآخر. فالحيوانية تقيد بأنها ناطقة، والناطقية تقيد بأنها حيوانية. قضية صعبة للغاية عند المناطقة، أدركوها بعد مناقشات عسيرة، وهي قضية من منتجات العقل الإسلامي.
        يقول: "لذلك خرج من العقد المعاطاة، وبالمعاوضة الهدية، وبالمالية النكاح، وبإفادة ملك العين الإيجارة، وبغير وجه القربى القرض, والمراد بالمنفعة بيع نحو حق الممر، والتقييد بالتأبيد فيه إخراج الإيجارة أيضًا، وإخراج الشيء الواحد بقيدين غير معيب.
        وهذا التعريف أولى من التعريف بأنه مقابلة مال بمال على وجه مخصوص لما لا يخفى... ثم البيع منحصرٌ في خمسة أطراف: الأول في صحته وفساده، والثاني في جوازه ولزومه، والثالث في حكمه قبل القبض وبعده، والرابع في الألفاظ المطلقة، والخامس في التحالف ومعاملة العبيد...".
        هنا تنتهي الجملة المفيدة في النص لتبدأ جملة جديدة ويبدأ في موضوع آخر بجملة مفيدة أخرى. قال: "وأفضل المكاسب الصناعة ثم الزراعة ثم التجارة على الراجح".
        انظر إلى الصياغة اللغوية؛ التعبير "على الراجح" يتضح منه أن هناك مرجوحًا في القضية؛ أي إن هناك أكثر من قول فيها، وهناك خلاف بينهم في المسالة ؛ لذا قال: "على الراجح". فبعضهم قد فضَّل التجارة مطلقًا وعدَّها من أفضل المكاسب، والبعض الآخر فضَّل الصناعة واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمسك بسيف وقال: "وددت أنا صنعنا هذا". وهكذا تختلف الأقوال، ولكن الراجح -عند هذا الفريق من العلماء الذين ينتمي إليهم المؤلف- هو الصناعة ثم الزراعة ثم التجارة. وأيًا كان القول فما يفيدنا هنا أن تعبير "على الراجح" هنا يعني أن هناك خلافًا بين العلماء.
        وقوله: "البيع هو عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين على التأبيد لا على وجه القربى"، فماذا لو قلنا إنه عقد مالي يفيد ملك عين، ولم نذكر كلمة "معاوضة"؟ إن هذا يصدق على الهدية؛ والهدية لا تُرد،؛ ومن ثم لا يمكن أن تدخل في معنى "البيع"، ولا بد من إخراجها بقيد "المعاوضة".
        ولو قلنا إنه عقد معاوضة يفيد ملك عين لانطبق ذلك على عقد الزواج. لا يملك الرجل زوجته بعقد النكاح، فالمهر يُعطى للمرأة إكرامًا لها؛ ولهذا لابد أن نفرق بين النكاح وبين البيع بكلمة "مالية" وكلمة "ملك". وحين يقول: عقد معاوضة بقيد "ملك عين" أخرج منه الإيجارة؛ لأنه في الإيجارة نمتلك المنفعة ولا نمتلك الرقبة.
        ومن نافلة القول –هنا- أن الفقه الإسلامي يفرق في الشيء بين الرقبة والمنفعة. الملك التام يعني أن يمتلك الرقبة والمنفعة، والملك الناقص هو امتلاك واحدٍ منهما؛ أي المنفعة أو الرقبة. فملك العين يُخرج من العقد الإيجارة، و"من غير وجه القربى" تُخرج القرض من هذا العقد، فالأخير عقد يعطي فيه أحد الأطراف قدرًا معينًا من المال للطرف الآخر مقابل نفس القدر من المال.
        "والمراد بالمنفعة بيع نحو حق الممر"، كأن تكون هناك قطعة أرض مقسَّمة إلى قسمين: قسم يطل على الشارع، والآخر في الداخل ليس له منفذ على الشارع، ويريد صاحب القسم الداخلي أن يدخل من الشارع إلى ملكه، هنا ينبغي عليه أن يطلب من صاحب القطعة الأولى أن يترك ممرًا يدخل من خلاله إلى ملكه، وهنا من حق صاحب القطعة الأولى أن يطلب منه مقابل المرور من الممر الذي سيتركه كتعويض عن تركه لهذا الممر. هنا سيكون المشتري له حق مؤبد للمرور من هذا الممر مقابل هذا المبلغ المالي، ولكنه لا يملك عين الممر. إذًا حق الممر يباع ويشتري، وهو بيع وليس إجارة، ومؤبَّد أيضًا، ويمنح لصاحب الحق ومن خَلَفَه سواء كان هذا الخلف وَرَثة أو مشتريًا للجزء الداخلي، فالمسألة ليست استئجارًا أو تنازلاً، ولكن مسألة بيع وشراء.

    المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    تعليقات الزوار ()