بتـــــاريخ : 10/15/2008 9:12:31 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1594 0


    تراب رطب(1)

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. رياض الأسدي | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة تراب رطب

     

    -1-

    ولدنا من أصقاع خضر نائيات. ربما كانت بداية عالم بالنسبة لنا. هناك. من الصعب أن نرى غير ذلك الآن. وجوهنا خضر، لمّاعة، وعيوننا بلون ورق صباح ندي قبل أن تصبح بفعل الشمس التموزية الحارقة سوداء قاتمة مثل فوهات آبار ناضبة.

    كانت كلّ الأشياء بلون واحد. وكنّا نصرخ طوال النهار والليل والشتاء والصيف. نعوي احيانا. ونلوذ بأحراش القصب والبردي. أمنا (شلتاغه) كانت تأتي لنا بحليب العنزة الوحيدة. تهدهدنا. وتلولي. لم نعرف ،وقتذاك ثمة أحدا غيرها: شلتاغه العجوز التي آوتنا - منذ البداية - في الاخضرار المطلق. كانت قد ناهزت التسعين عاما، وربما جازت المائة. من الصعب تحديد عمرها, كما عرفنا بعد ذلك.

    قوس سواد أزلي لظهر محني، يطوف في المكان طوال الوقت، نرقبه نحن الثلاثة المتبقين من أعداد لا حصر لها من البنات والبنين، وصوت يشبه البكاء ممزوج بالنشيج غالبا. تقول شلتاغه: أنها هبطت من السماء الدنيا في يوم عاصف مليء بالزلق الأرضي، فتعثرت، وسقطت، وتعثرت، وتمرغلت في تراب الارض, حتى كادت ان تموت.. ثمّ نهضت، بعد أن تلوثت بطين الأرض كلّه, وأصبح لونها ترابيا تماما. فلم تزدد إلا عنادا على المواصلة. شلتاغة. تلك. وحدها. قصة.

    كانت تؤكد بانها نزلت إلى الارض من أجلنا فقط. حضرت ألينا من غياهب بعيدة دون ان تملّ من بكائنا الليلي والنهاري نحن المتصارخين طوال الوقت. في البداية, فرحت بنا وأسكنتنا مستنقعات بردي رطب وموحش, في الهور العميق، وغطّتنا بالتبن وأوراق الشجر كي لا تكتشفنا الحيوانات الضارية بسهولة. ثمّ أوقدت نارا عالية من تبن وعاقول وسعف نخيل متيبّس. كانت النار أول شيء عرفناه منذ أن آوتنا شلتاغه في تلك البقعة المجهولة. وكانت النار هي الشيء الاول. تعلمنا من النار كلّ شيء وشلتاغة تراقبها في ليل الشتاء القارص وهي تمد ألسنتها عاليا وسط البرية: نار عاقول متيبس.. كم كان عددنا آنذاك؟ يصعب معرفة ذلك في أي وقت. ومن أي مكان جئنا؟ كان هو السؤال الأصعب.. لكننا حينما بدأت شلتاغة ببناء طوف لنا اكتشفنا قدراتها الحقيقية على الملاط.

    قالت لنا بعد أن جمعتنا بالقرب من موقد قديم: انتم أبنائي. وجدتكم . هكذا. تائهون . مطاردون. تكاد الذئاب ان تنهش جلودكم. وعلى طريق ترابي يوصل المدينة بالهور، و في ليال ماطرة غالبا، مليئة بالرعد السماوي الذي يصل ضؤه إلى الأرض بقوة؛ وبعد هبوطي إلى العالم السفلي من العالم العلوي البعيد( الكائنات الكبيرة والمصارعات الخطيرة والدماء السائلة بلا هوادة في كلّ أرجاء الكون وأصوات صراخ الآلهة يملأ الأرجاء كلّها) أنتم لا تفهمون ماذا يعني العالم العلوي، طبعا، مازلتم صغارا؛ ولن تفهموا ذلك أبدا وأنتم كبارا. ستكبرون حتما ويشتدّ عودكم. هذه قضية مفروغ منها. مادمت حية. معكم. ولكن افهموا إني كنت في الأعلى قبل ذلك؛ ولا تخبروا أحدا بما تسمعون من صراخ لأن ذلك يغضبني.

    الأعلى سرّ دائما. ياأولادي ويابناتي. أجل. كنتم ترتجفون كعصافير (لحيمية) سقطت من عش توا. والدنيا عجائب وغرائب يوووه، دائما. والعجيب يأتي بالعجيب، والغريب يقود إلى الغريب، فلا تكونوا ممن أعمت عيونهم الدهشة. لكني, كنت، أنا، شلتاغه بنت شيحان قد شبعت من العجائب والغرائب في العلو، هناك, حيييييل!، ولذلك لم أجد فيكم ما هو مثير أبدا.أحببتكم. هكذا .لله في الله. من كلّ قلبي. كأن ثمة عقوبة علوية احاطت بي: أن اهبطي ياشلتاغة الآن! فجئت لكم على أية حال.

    كنتم في الأصل داخل صندوق (منجّم) كبير يشبه الهودج الاسود، يهتزّ بكم؛ أنا التي أوقفته في لحظة ما من بخت.. بختكم وبختي.. أعرف نفسي: لا بخت لي في العلو.هناك. على الأقل. لكنه الوجع الممزوج بالحنين إلى شيء ما ألعب به. هنا. اللعب هو السبب الاول. فلعبت بكم. جميعا. كأني لم ألعب منذ دهور.

    هوووووو لم يلحظ وجودكم معي أحد ما من الخلق أجمعين، حتى غادرت بكم إلى بلاد بعيدة في عمق الهور (هور الغموكه) تعرفونه ذلك المكان النائي الذي نشأتم فيه. العميق مثل بحر. هناك؛ حيث الأخضرار حتى النهاية. طبعا. ربما يتذكّر الكبار منكم ذلك. تعرفون ما كان(لا أحد يعرف شيئا كبيرا هنا مثلي تذكّروا ذلك جيدا) فأصبحتم أبنائي، جميعا. لا أفرّق بينكم في الشكل إلا بين البنين والبنات. كنتم بلون اخضر واحد، في البداية، حتى تحولتم إلى ترابيين. يووووه بلون تراب رطب. أنا لم أتصور أن يكون هذا اللون لوني أيضا، حتى أخبرتموني أنتم بذلك؛ فاعلموا حجم ما أنا عليه من تضحية لأجلكم: أنا العجوز التي لم أنجب أحدا من الخلق يوما. ولم يسمع عني قط أن اقترنت بذكر. أصبحت أماً لكم بغتة، وفي وهدة من الزمن عجيبة.

    ولم يكن قدرا بالنسبة لي. وما هو بخيار قط. الأقدار كلّها أعرفها منذ البدء. والخيارات خياراتي دائما. ولا تسألوني ما القدر؟ فلم يشر عليّ أحد من السماويين أو الأرضيين ممن اعرفهم أو ممن لا أعرفهم أن أفعل ذلك؛ أبدا؛ وما هو بمغامرة مني. وما هو برغبة عارمة بعد مائة عام من العنوسة. كانت حالة ما تشبه (اللعب) إلى حدّ بعيد؛ لكنه لعب كبار على أية حال. انتم لا تفهمون ذلك في هذه السن، وأشك ان تفهموا شيئا وأنتم كبارا. هذا أفضل بالنسبة لي ولكم. كثرة الأسئلة مضيعة للوقت. لست عجوزا تماما كما تتصورون، وقد غادرت اللعب منذ زمن؛ وما زلت ألعب معكم.. (طمّ الخرز) و(عظيم الضائع). أليس كذلك؟ فاللعب هو آخر ما تبقّى لي في هذا العالم الأرضي المفروض. سرور مفرط وانتم تكسبون خرزي.. هيا لنلعب ما نشاء هههههه ههههههه هههههه!

    في البداية، كانت مجرد لعبة مني: ما أن تحضر بنت صغيرة(كنت بنتا غرّة، وأنا في التسعين! أحمل معي كلّ الأمنيات الحالمات وكنت قد تعلمت تزيين وجهي بالدريرم وتخضيب شعري بالحناء) لعبة مكونة من خيوط ملفوفة على أعواد مثل صلبان خشبية، فألبسها أثوابا من بقايا قماش قديم حيث تشرع بالمناغاة للعب معي. هوووووه. دنيا. تلك. كانت. أنا جدتكم. يومئذ؛ تتذكرون جاء معنا أطفال آخرون. فيبدأ الغناء تارة، والتلولي أخرى ( الأعداء الذين يحرقون الأخضر واليابس بعدي: أراهم يقتلون الجميع من صلبي يبوووو) وكنت أغني لأول مرة في حياتي، وأبكي، لأول مرة أيضا؛ فمنذ أن هبطت تعلّمت البكاء عليكم؛ وما بكيت من قبل, ولا سقطت من عيني دمعة واحدة. أبدا. كانت اللعب – وحدها- هي التي تغني معي والدموع منهمرة من عيونها البيض الصغيرة الجنفاص التي التصقت على الوجوه الداكنة. أحادثها فتجيب، وأغضب منها فتزعل. ثمّ نتصالح بعد ذلك وسط بحر من دموع.. والدنيا طائرة طائرة لا أحد يوقفها. ولا أحد مثلي. وقتذاك. يووووه!(جول جول) لا نهاية له. خيط في فراغ دائم ؛ طائر. نركض وحدنا دون ان يلحظ ذلك احد من الخلق.

    ولا شيء غير أصوات القطا الهاربة. وساعة تنبّهنا كانت أجسادنا عارية، ربنا كما خلقتنا، وقد التصقت على جلودنا دعاميص واشنات وأسماك (ابو دبيلة) الميتة، وبقايا طين القاع. ساعتئذ, كان هور الغموكه هو الأب الذي نغوص فيه صيفا وشتاء. أجل. هو الخالق: كما أخبرتنا شلتاغه. و هو كان كلّ ما نعرف.. وكما قالت لنا شلتاغه في أول درس تعلّمناه بالقرب من الموقد الأسود: الهور هو اناء الله في العلى. الربّ العظيم الذي رعانا من المطر والبرد ولهيب الشمس في الصيف ومن الضواري الباحثات عنا. وهذه العصا وحدها هي التي ابقتكم احياء.

    كان كلّ شيء يشبه اخضرارا مطلقا. حيييييل. كان لوننا هو الأخضر جميعا حتى الأم شلتاغه التي تحوّلت إلى السواد المائل للتراب كانت في البداية خضراء. نراها ونتذكرها. كنا ندعوها يما خضيره. نتذكّر كلّ ذلك جميعا في لحظة واحدة. كان الأخضر هو اللون الوحيد الذي حفظنا اسمه منذ البداية. وكنا نحسب على أية حال بان جميع الألوان قد ولدت منه في لحظة واحدة من التشظي. اخضرار عجيب يحيط بنا من كلّ جانب. لم نصرخ كما يفعل كلّ أطفال العالم. كنا نعوي. ووو وووو وووو. ووو. قالت شلتاغه بعد ذلك: أنها قد وجدتنا بالقرب من سمكة كبيرة. عودة. تشبه السفينة لفظها البحر بعيدا. وكان الناس قد حظروا إلى الميناء حفاة راكضين لرؤية السمكة الحوت.

    وما الحوت يا أم؟ سمكة ألم اقل لكم ذلك؟ كثرة الأسئلة يضيع الفهم. دبش. تاملوا . ماهذا؟ فقط. لكننا في كلّ يوم تحاصرنا سيول من الأسئلة بلا اجوبة. كان الجواب هو الصراخ؛ لم نصرخ كما يفعل كلّ مواليد الأرض الذين عرفناهم بعد ذلك ، بعد سنين. والسنون سورة ماء. والله شاهد. نحن نركض على طول الجرف في تلك البرّية. يرمقننا نساء الشرائع

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة تراب رطب

    تعليقات الزوار ()